ءآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ؟
ما دام الله سبحانه : { هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الحديد الآية 3 } وما دام سبحانه : { .. هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ .. . سورة الحديد الآية 4 } وما دام سبحانه : { .. مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ .. سورة المجادلة الآية 7 } هذا قوله سبحانه وهذا كلامه ، ومن قوله عز وعلا ومن كلامه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . سورة ق الآية 16 } قال وعرَّف عن نفسه ، وأمر ونهى ، وفصَّل الآيات وكشَّف الحقائق ، وأشبع العقول وروَّى الأنفس وأنزل كل ذلك وأعظم من كل ذلك في كتاب مجيد ، ليس أمجد منه ولا بمجده كتاب تحت هذه السماء الزرقاء . هو القرآن العظيم .
لذلك كله ، إني أنا إذا دعوت غير الله ، لأي شأن من الشؤون أو أية حاجة من الحاجات الخاصة أو العامة ، أكون قد دخلت في الشرك الظاهر ، والشرك الخفيُّ أدهى وأمر . ومعلوم من حكمه سبحانه ، الذي لم يفهمه بعد أكثر الذين يقرؤونه ويجوِّدونه ويفسرونه ، وهو قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء . سورة النساء الآية 48 } يتلون هذا القول ويحفظونه عن ظهر قلب ، ويشركون جهاراً ونهاراً وليلاً وبدون حياء لا من الله ولا من القرآن الذي من يفهمه نجا ومن لم يفهمه إلى الجحيم ـ إلا من كان معذوراً بعدم إلمامه بلغة القرآن ـ .
يحفظون هذه الآية كما يحفظون فاتحة الكتاب وفيها : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} ويعبدونه وكأنه ليس هو في الأرض إلـه وفي السماء هو كذلك ، قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ . سورة الزخرف الآية 84 } وإنما يحسبونه فقط في أعالي السماوات . مرات عديدة يقفون بين يديه كل يوم ليقولوا له { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ثم ينسونه ويكثرون ذكر غيره من أولياء أو أشقياء ، ويستعينون دائماً وأبداً بسواه .
إذهب إلى أي مستشفى من مستشفيات العالم الإسلامي وغير الإسلامي ، لترى أنهم كلهم ـ إلا من رحم ربك ـ يستعينون بالدواء ، والدواء غير الله ، ويستعينون بالطبيب والطبيب غيره سبحانه . ويتفذلكون يقولون إن الله خلق الداء والدواء وخلق الطبيب . قال أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام في أبيات .
دواؤك فيـك وما تبصر وداؤك منك وما تشـعر
وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يعرف المضمر
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
استفادها من محمَّد (ص) ومن القرآن الكريم . أما من محمَّد (ص) فحين أرسل له ملك القبط من مصرهديته المشهورة ، وفيها طبيب ومارية القبطية وسيف وأشياء غيرها ، تقبل رسول الله كل الهدية إلا الطبيب ، قال بلطفه المعهود : عد سالماً وحسبنا الله وقرآنه الكريم ، به نستشفي وبه نستكفي أو كما قـال رسول الله (ص) .
أما القرآن ففيه أكثـر من خبر وإشارة إلى أن فيه شفاء للأنفس وشفاء للأبدان ، أي للأمراض النفسية والبدنية ، وكذلك أمراض الوهم التي تفتك بأكثر الناس فتكاً ذريعاً ، وهي لا تكاد تحصى . نذكر منها على سبيل المثال : الشقيقة ( أي نوبات الصداع الشديد ) . والكآبة التي غالباً ما تؤدي إلى الإنتحار ، والأرق ( عدم القدرة على النوم ) والقلق ( وهو فقد السكينة والطمأنينة ) إلى مئات الأمراض العصبية ، التي لم يستطع الطب أن يحصر أسبابها فضلاً عن حصر أمكنتهـا ، لا من قبل المريض الموجوع ، بل من قبل الطبيب المراقب أو الفاحص . ولا ننسى أمراض الحساسية ، التي دوَّخت هي وشقيقاتها العصبية والنفسية الطب والأطباء .
أما عن الأمراض العضوية وكوارثها ، فكلام لا يكاد ينتهي ، فصدور خربة ، وبطون تكاد تصيح من كلية معطوبة أو كبد مشمع أو بنكرياس تعب أو مرارة فيها حصى أو زائدة ملتهبة ، والتهابات وأوجاع ، حتى أن الأصوات الطبية ارتفعت تقول إن المضادات وكثير غيرها من الأدوية ، تنفع في جانب وتضر في جوانب أخرى . والحقيقة المرة أن دعوى تقدم الطب والجراحة ، والشفاء من الأمراض المستعصية ، ولا سيما الأمراض التي كانت سائدة تفتك بالبشر، ما هي إلا دعوى وهمية غريبة عن الحقيقة . وصحيح أنها زالت أمراض ، ولكن حلت محلها أمراض أخطر وأدهى وأوسع انتشارا ، ويكفي مثلاً على ذلك الإيدز والسرطان .
هذا ، وينبغي أن نقرر ، أن الناس الذين كانت تفتك بهم الحمَّيات وبقية الأمراض التي كانت سائـدة ، وادعى الطب أنه استأصلها ، هؤلاء الناس لو كانوا ربانيين ، يعرفون اللجوء إلى الله تعالى ذكره ، ويعرفون الاستغاثة به سبحانه وحده لا شريك له ، ويعرفون أنه موجود معهم ، مع كل فرد منهم ، وأنه أقرب إلى الإنسان من دمه ومن قلبه ومن نفسه ، لو وقَّروه وعرفوا قدره ، وحكَّموه بأنفسهم وأولادهم ، وتعهدوا أنفسهم وأبدانهم وبيئتهم كما أمرهم سبحانه ، بالوقاية والنظافة ، والإعتدال في المأكل والمشرب وتجنب المحرمات ، وغير ذلك من التعاليم الإلـهية الموجودة في مظانها . لما فتك فيهم سلٌّ ، ولا حمى ، ولا من الأمراض الحديثة إيدز ولا سرطان ولا غير ذلك . ولكن { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . سـورة الروم آية 41 } سابقاً أو حالياً أو لاحقاً .
فماذا في القرآن الكريم من أخبار الشفاء ؟
في رأس أسباب الشفاء وأسباب الشَّقاء ننطلق من قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ . سورة الأعراف الآية 96 } فنتأمل في هذا القول الكريم ، فنعرف من أين المرض ومن أين العافية .
هذا الكلام ، بمعظمه ، لا يفهمه ولا يعتبر به إلا مؤمنون من العارفين ، أو هم على أبواب العرفان ، ونحن نعلم بفضل من الله ، أنه سينفِّر ويغضب كثيرين ، وذلك فقط لأنهم لا يعرفون الله ، على الأقل ، بالدرجة ، التي تمكنهم من تصديق أنه يمكن الإستغناء عن غير الله ، أما القول عن الأسباب فصحيح ، ولكن الأصح منه أنه سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب ، وكلمة (كن) عنده ، أي إرادته التي بدون حروف وبدون حدود ، هي في رأس الأسباب . قوله تعالى :
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . سورة يس الآية 82 } .
أما ماذا في القرآن عن أخبار الشفاء فنذكر بعض ما يعيننا الله عليه :
أولاً : قوله تبارك وتعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ . سورة النمـل الآية 62 } .
ثانياً : قوله تبارك وتعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا . سورة الإسراء الآية 82 } .
ثالثاً : قوله تبارك وتعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ . سورة فصِّلت الآية 44 } .
قد نحتج على أنفسنا بآية يبدو أنه سبحانه جعل فيها العسل سبباً للشفاء ، ولكن بعد التأمل فيها نجد أن الشفاء الذي جعله سبحانه في العسل ، هو مختص بالناس ، بينما الشفاء الذي جعله في القرآن ، مختص بالمؤمنين ( في آية وننزل من القرآن ) وبالذين آمنوا ( في آية فصِّلت ) .
وفي القرآن الكريم ، تفريق ـ غالباً يعرف بالقرائن ـ بين لفظة الناس وبين المؤمنين أو الذين آمنوا .
ومثال على ذلك ، يقول سبحانه في مطلع سورة الحج : { بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .} .
في الآية ، كما هو واضح ، وصف لأهوال الساعة ، التي لمجرَّد مشاهدتها تذهل المرضعة عن طفلها الرضيع الذي هو أهمَّ شيء لديها في الدنيا ، وكذلك تضع كل ذات حمل حملها ، إن كانت إمرأة حامل تجهض ، وإن كانت نفساً من الأنفس تحمل أي حمل باليد مثلاً ولو كان مالاً كثيراً أو ذهباً أو لؤلؤاً أو ماساً فإن صاحبه يضعه من يده ، لشدة الهول والرعب وقطع الأمل نهائياً من الحياة الدنيا وكل ما فيها .
وفي قوله تعالى { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } تخصيص للناس بشدة العذاب ، أي غير المؤمنين لأنه من البديهي أن المؤمنين الحقيقيين لا يتعذبون بيوم القيامة ، وقد جاء في ذلك أكثر من نص قرآني : قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ . لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ . سورة الأنبياء الآيات ( 101 ـ 104 ) } .
فالذين سبقت لهم الحسنى من الله جلت عظمته ، هم عامة المؤمنين الصالحين ، وجهنم هي التي لا يسمعون أدنى أصواتها فضلاً عن انفجاراتها ، ولا يحزنهم الفزع الأكبر ، أي يوم القيامة ، لا يسبب لهم حزناً ولا ألماً ولا أدنى حالة من حالات العذاب ، وهو ذاته اليوم الذي ترى فيه الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنَّ حالتهم التي تشبه السُّكر هي من شدة العذاب .
طبعاً هنـاك في القرآن الكريم خطابـات للناس تعني فيهم المؤمنين وغير المؤمنين ، مثل { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . سورة الحجرات الآية 13 } وغيرها كذلك . إنما كل خطاب تتجلى فيه حكمة الله ويعرف مقصده بالقرائن كما رأينا .
فأما حكاية العسل ، والشفاء الذي جعله الله تعالى فيه ، هو من واسع رحمته للناس ، الذين ليس لهم حظ أو ثقة أن يستشفوا بالأسرار التي في كلام الله أو يستشفوا بالله تبـارك وتعالى ، بين رقية ، أو تلاوة ، أو دعاء مضطر ، أو حسن توكل وصبر جميل . والله المستعان في جميع ذلك ، وحده لا شريك له .
وما شأن العسل إذن بالنسبة لأولياء الله والصالحين من عباده ؟ شأنه شأن أي طعام ، حيث لا يتوخون الفائدة والنفع والغذاء من هذا الطعام أو ذاك ، يعلمون أن الفائدة في ما تستطيبه أنفسهم ، إذ يجعل الله لهم فيها موازين ، يشتهون بموجبها ما ينفعهم ، ويعرضون عما يضرهم ، وذلك من ألطاف الله وأفضاله عليهم .
إلاَّ أنَّ ، هناك قواعد صحية في القرآن وفي تعاليـم الله عامة في السنن النبوية ، ينبغي العمل بها . وفي رأسها قوله تبارك وتعالى : { .. يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ . قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . سورة الأعراف الآيات ( 31 ـ 32 ) } .
قوله تعالى : { .. وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ .. } أمرٌ منه سبحانه ، مخالفته معصية يترتب عليها أن لا يكون المسرف في طعامه وشرابه مستحقاً لرحمـة الله ولمحبته ، فيتخلى عنه سبحانه فيقع في الضرر ، ثم في المرض .. والإسراف في المأكل والمشرب هو الزيادة عن حد الاعتدال ، جملة وتفصيلا . جملة في مقادير الوجبات وتفصيلا في مطيبات الطعام ، مثل الملح والبهار وغير ذلك ، ولا سيما ما يسمى اليوم السَّمَّان الأبيضان الملح والسكَّر . ومعلوم أنه كل شيء زاد عن حده إنقلب إلى ضده .
ولهذه الآية الكريمة حكاية طريفة ، نوردها لنعلم أنها تمثل في الحقيقة خلاصة الطب الوقائي ، وأن الطب الوقائي هو أولى وأعظم من جميع أنواع الطب الذي عرفته البشرية .
ففي مجلس للخليفة المعتصم ، كان الطبيب المشهور ابن بختيشوع ، طبيب البلاط العباسي . وكان في المجلس علماء وقادة وأعيان . تكلم ابن بختيشوع قال : ما وجدت في دينكم شيئاً من الطب . وإنما العلم علمان : علم أديان وعلم أبدان ، فما وجدنا عندكم من علم الأبدان شيئاً . فصمت المجلس وأخذ المعتصم يستعرض القوم ليرى هل من معلِّق على هذا التحدي . استأذن ليجيب ، عبد الله بن الحسين بن طاهر ، وكان قائداً عسكرياً وفقيهاً ، قال : جُمِع الطب كله عندنا في نصف آية من كتـاب الله : قولـه عـز وجل : { .. وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ .. } وجمع الطب كله في حديث لرسول الله (ص) قوله : المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء واعط البدن ما عوَّدته . وسكت . فأطرق ابن بختيشوع طويلاً . ثم رفع رأسه وقال : والله ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبَّاً .
يقول المتنبي ليقرر أن الموت لا يفرق بين الأدنى والأعظم من الناس ، دالاً على عظمة جالينوس وشهرته في تاريخ الطب :
” يموت راعي الضان في جهله ميتـة جالينوس في طبـهِ ” .
ومعلوم اليوم ، كم من القيمة للطب الوقائي في الدول المتقدمة . معتبرين أن الالتزام به يحول دون التعرض لأنواع الأمراض التي تجتاح العالم .
تبقى الوصايا الملهمات التي حكاها الله سبحانه ناسباً إياها إلى خليله إبراهيم عليه السلام قوله :
{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ . وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ . سورة الشعراء الآيات 78 ـ 82 } .