آيات ولقطات وصور من حنين : الملائكة تحضر القتال :

آيات ولقطات وصور من حنين :

الملائكة تحضر القتال :

 

        قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق  بن يسار ، أنه حدث عن جبير ابن مطعم  ، قال : لقد رأيت ـ قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون ـ مثل البجاد(3) الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم ، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشكَّ أنها الملائكة ، ثم لم يكن إلاَّ هزيمة القوم .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     رواه البخاري ومسلم ، وابن لإسحاق ، بنصوص متقاربة في الزيادة والنقصان .

(2)     متفق عليه .

(3)     البجاد : الكساء .

          ولعل إلى هذا وغيره أشار في قوله سبحانه : { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } . [ 26 : التوبة ] . ورؤية جبير بن مطعم  للملائكة  بهذه الصورة  لا تتنافى مع قوله عزَّ وجل  { جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } إذ أن الخطاب في إثبات عـدم الرؤية ، هو خطاب لعامة المسلمين الموجـودين في المعركة ، ولعله استثنى جبيراً هذا ، لإلقاء الحجة في إثبات الخبر ، ليكون مصداقاً للآية الكريمة  في تاريخ هذه الواقعة من جهة ، وفي تاريخ  عامة الوقعات التي يصدق فيها المسلمون مع ربهم مجاهدين في سبيله بالأموال والأنفس  كما يحب ويرضى سبحانه .

*  *  *

        قال ابن إسحاق : ولما هزم الله المشركين من أهل حنين ، وأمكن رسوله (ص) منهم  ، قالت امرأة من المسلمين :

        قد غلبت خيل الله خيل اللات        واللـه  أحـق  بالـثبـات

        قال ابن هشام : أنشدني بعض أهل العلم  بالرواية للشعر :

        غلبت خيلُ الله خيـلَ اللاّتِ           وخيلـهُ أحـقُّ بالثبــاتِ

 

*  *  *

        قال ابن إسحاق : فلما انهزمت هوازن  استحر القتل من ثقيف  في بني مالك ، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم ، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب ، وكانت رايتهم مع ذي الخمار(1) ، فلما قتل  أخذها عثمان فقاتل بها حتى قتل .

        قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس : أنه قتل مع عثمان بن عبد الله غلام له نصراني أَغْرَل(2) ، قال : فبينا رجل من الأنصار يسلب قتلـى ثقيـف ، إذ كشـف العبـد  يسلبـه ، فوجده أغـرل . قال :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     هو عوف بن الربيع  .

(2)     الأغرل : غير المختتن .

فصاح بأعلى صوته : يا معشر العرب : يعلم الله أن ثقيفاً غرْلٌ . قال المغيرة بن شعبة  : فأخذت بيده ، وخشيت أن تذهب عنا في العرب ، فقلت : لا تقل ذاك ، فداك أبي وأمي ،  إنما هو غلام لنا نصراني . قال ثم  جعلت أكشف له عن القتلى ، وأقول له : ألا تراهم مُخَتَّنين كما ترى .

*  *  *

        قال ابن إسحاق : ولما انهزم الناس قال مالك بن عوف يرتجز بفرسه :

        أقدِم محـاج(1) إنه يـوم نكـر          مثـلي على مثلك يحمـي ويكرْ

        إذا  أضيع الصف يومـاً والدبر      ثم  احْزأَلَّت زمـر بعد زمـر(2)

            كتائب يكـلُّ فيهـن البصـر          قد أطعن الطعنة  تقذي بالسُّبَرْ(3)

        حين يذم المستكيـن المنجحـر        وأطعن النجلاء  تعوي وتهـر(4)

        لها من  الجوف رشـاش منهمر       تفهق  تارات وحيناً  تنفجـر(5)

        وثعلب العامـل  فيها  منكسر       يا زيد يا بن همهم  أين تفـر(6)

        قد نفد الضرب وقد طال العمر            قد علم البيض الطويلات الخمر

        أني في  أمثـالـها  غير غـمر           إذ تخرج الحاصن من تحت الستر

        في هذه الأرجوزة ، أو الشعر، لمـالك بن عوف هذا، تلاحظ ملاحته وقوة تعابيره ، وجمال سبكه ،وأنه يعبر عن مزاجية الفارس الشاعر،ذي العنفوان القيادي والنخوة العـارمة ،كما يلاحظ فيه ـ وهذا ما أردنا التنويه عنه ـ خلوُّه من أي  ذكر لله ومن أية إشارة إلى الإيمان به سبحانه .

        ذلك هو الفـارق المصيري بين أصناف الناس عـامة : أناس وهبهـم الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     محاج : اسم فرسه .                          (2)     احزألت : ارتفعت .

(3)     السبر : جمع سبير ، فتيل يسبر به الجرح .

(4)     النجلاء : الطعنة الواسعة . تعوي وتهر : أي يسمع لخروج الدم منها أصوات كالعواء والهرير .

(5)     تفهق : تنفتح .

(6)     الثعلب : عصا الرمح الداخلة في السنان . العامل : أعلى الرمح .

طاقات ، ليؤمنوا به ويطيعوه ، ويتكاملوا تبعاً لذلك فيفوزون برضاه ورضوانه . ولكنهم صموا وعموا وجحدوه فخسروا الخسران المبين . وأناس وهبهم الله نفس الطاقات ، فآمنوا وأيقنوا ، وسمعوا وأبصروا ، فنجوا ، وذلك عند الله هو الفوز العظيم .

        من هنا تحسن المقارنة بين هذا الشعر الجميل ، الجمال الكافر ، الجمال الخاسر ، الذي سيصبح يوماً في ميزان الشعر والفن عامة ، أقرب ما يكون إلى القبح ، بل يصبح هو القبح بعينه . ذلك يومَ توضع الموازين الحق ، الموازين الدقيقة العادلة ، قوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } . [ 47 : الأنبياء ] . تحسن المقارنة بينه وبين أشعار يمجَّد فيها الله ، الذي هو ربُّ الشعر ومعلِّم الشعر ومُلْهِمُ الشعر ، وليس أي شعر ، وإنما الشعر النظيف ، الطاهر ، الذي تحكيه الملائكة ولا توسوس به الشياطين . من هذا الشعر الأصيل التعبُّديِّ ، الذي يسمو بالنفوس  الأصيلة إلى الآفاق اللازوردية العليا ، ما قاله شعراء الفروسية المؤمنة ، في واقعة حنين ، هذه التي نحن بصددها ، وسنرى إن شاء الله مزيداً منه على الصفحات التالية ، للفارس الشاعر عباس بن مرداس السلمي .

        هذه المقارنة ترينا الفارق العجيب ، بين إيجابية التأمل وسلبيته ، بين قوة الحق وهشاشة الباطل ، بين التركيز والصفاء ، وبين التأزم والفوضى الفكرية والنفسية ، هذه الصفات التي للفريقين ، ستبقى تصنف الناس إلى قيام الساعة ، سواء الشعراء والمجاهدون وبقية الأنام ، كل في موقعه ، ما دام الصراع قائماً بين أهل الحق وأهل الباطل ، بين أنصار الله وأنصار الطاغوت والنفوس الأمارة ، وسيبقى كذلك ، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

        ومثل آخر على الشعر الذي فيه ملامح الجاهلية وقسوتها ، وضيق آفاقها وفظاظتها ، هذا لمن اختار البقـاء على انغلاقه وشركه ، وأقول شركه وليس كفره ، ولو كان لهما نفس المصير ، لأن المشركين كانوا يؤمنون بالله ، ولكن على أساس أنه إلـه أكبر من بقية الآلهة المزعومة التي كانوا يعبدونها ، يؤمنون به سبحانه إيماناً فطرياً محصوراً في لفظة ” الله أو الإلـه أو اللَّهـم ” ، ولا يتجاوزونها إلى ما يتعلمه المسلم فور إسلامه من معانٍ عظيمة وعميقة وشاملة لمفهوم الألوهة وحقائق هذا المفهوم ، هذه الحقائق التي يقذفها الله تعالى في قلب المسلم المؤمن نوراً يمحو منه الظلام والضلال والحيرة وشتات الذهن ، فيمشي  في مدارج النور الأجمل فالأجمل ، كلما ارتقى درجة اكتشف  سموّاً وعلوّاً وسعادة أوسع ، وما أكرم  وما أرحم وما أعطى ربُّ العرش العظيم : { … نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . [ 35 : النور ] .

        والمثل الذي سنذكره ، هو كذلك من وقائع حنين ، ذلك الباب الذي فتحه الله عريضاً لفهم الألولهة وفهم التوحيد ، رحمةً بالمسلمين ، وتكريماً وتعميقاً ليقين أهل اليقين . وهذا المثل يتعلق بمقتل الفارس والشاعر الجاهلي دريد بن الصمة ، حيث رثته إبنة له إسمها عمرة ، بأبيات تسأل فيها الإله ـ كما سنرى ـ أن يسقيها من دماء المسلمين ، وخاصة بني سليم ، الذين قتلوا أباها ، رغم أن أباها هذا ، قد تنكر لله وللرسالة التي أرسل بها رسوله محمّداً (ص) ، ومات على الشرك ، وهو ـ كما ذكرنا آنفاً على لسان ابن إسحاق ـ ” شيخ كبير ليس فيه شيء إلاَّ التيمن برأيه ومعرفته بالحرب ” .

        قالت عمارة بنت دريد في قتل ربيعة(1) دريداً :

        لعمـرك ما خشيـت على دريد      ببطـن سميـرة جيش العناق(2)

        جـزى عنه الإلـه  بنـي سليم         وعقَّتـهـم  بما  فعلـوا عقـاق

        وأسقـانا  إذا  قـدنا إليـهـم         دمـاء خيـارهم عند التلاقـي

        فرب عظيمـة دافعـت عنهـم         وقد بلغـت  نفوسهـم التراقي

        ورب كريمـة أعتقـت  منـهم         وأخرى قد  فكـكت من  الوثاق

        ورب  منوِّهٍ بـك مـن سليـم         أجبت وقد دعـاك بلا رمـاق(3)

            فكان جزاؤنـا منهـم  عقـوقا        وهمـاً مـاع منـه مخ ساقـي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     ربيعة : اسم المسلم الذي قتل دريد بن الصمة .

(2)     سميرة : واد قرب حنين . العناق : الأمر الشديد .

(3)     الرماق : أو الرمق بقية الحياة .

عفـت آثـار خيلـك  بعد أين        بذي بقـر إلى فيـف النـهاق(1)

        وقالت عمرة بنت دريد أيضاً :

        قالوا قتلنا دريداً قلت قد صدقوا       فظل دمعـي على السربال  ينحدر

        لولا الذي قهـر الأقوام  كلَّهم        رأت سليـم وكعـب كيف  تأتمر

        إذن لصبحـهم غبـاً وظاهـرة      حيث استقرت نواهم جحفل ذفر(2)

        ومقارنة  مع هذين النموذجين  ، نورد أبياتاً من قصيدة لعباس بن مرداس السلمي يذكر فيها قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه ، وذا الخمار وحبسه قومه للموت في حنين :

        ألا من مبلـغ غيـلان عنـي      وسوف ـ إخال ـ يأتيه الخبيـر(3)

        بأن محمّـداً  عبـدٌ  رسـولٌ       لـربٍ لا يضــلُّ  ولا يجــور

        أضـاعو أمـرهم ولكل  قوم     أمـير والدوائــر قـد  تـدور

        فجئنـا أسـد غاباتٍ إليهـم      جنـود اللـه ضاحيـة  تسيـر(4)

        فكنـا أُسْـدَ ليَّـة ثم حتـى         أبحـنـاها وأسلمـت النصـور(5)

        قتلـنا في الغبـار بني  حطيط    علـى  راياتـها والخيـل زور(6)

        ولم يك  ذو الخمار رئيس قوم          لهم عقـل يعاقـب أو مكيــر

        أقام  بهم  على سنـن المنايـا             وقد  بانـت لمبصـرها الأمـور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     ذو بقر : موضع . فيف : قفر  . النهاق : موضع .

(2)     الغب : في الأصـل أن ترد الإبل الماء يوماً بعد يوم . وظاهرة أن ترده كل يوم . ذفر : ذو رائحة كريهة من صدأ الحديد .

(3)     إخال : في معنى أظن ، وليس يريد أن يظن فيما يستقبل ، وإنما يريد أنه يخال الآن أنه سيكون ذلك .

(4)     ضاحية : ظاهرة .

(5)     قيل إنها جمع ناصر وقيل هم بنو نصر من هوازن رهط عوف بن مالك النصري  يقال لهم  النصور .

(6)     زور : مائلة .

 

          فأفلت من نجـا منهم جريضـاً   وقُتِّـل منهـم بشـرٌ  كثيـر(1)

        أحـانهـم وحـان وملكـوه أمـورهـم وأفلـتت الصقـور

        بنو عـوف تميـح بهم جيـاد      أهيـن لها الفصافـص والشعير(2)

        فلولا قـارب وبنـو أبيــه تقسمـت المـزارع والقصـور

        ولكـن الريـاسـة  عمموها       على يـمن أشـار بـه المشيـر

        أطاعـوا  قـارباً ولهم  جدود     وأحـلام  إلـى  عـز  تصـير

        فإن يهـدوا إلى الإسلام يلفوا           أنـوف الناس ما  سمر  السميـر

        وإن لم يسلمـوا فهـم  أذان              بحـرب  الله  ليس لهـم نصيـر

        كما حكَّت  بني سعد وحرب         برهـط بنـي غزيَّـة عنقفيـر(3)

        كأن بنـي معاويـة بن بكر               إلى  الإسـلام  ضائنـة  تخـور

        فقلنا أسلموا إنَّـا أخوكـم                وقد برئـت من الإحن الصدور

        كأن القوم إذ جاؤوا إلينـا              من البغضاء بعد السلـم عـور

        وحيث أننا في اتجاه واحد بعون الله تعالى ، في كتابنا هذا ، وفي أفكارنا وكتاباتنا عامة ، هو الدعوة إلى الله ، فسنقف أمام الأبيات التي أنشئت  من أجلها القصيدة ، أي التي  هي روح هذا الشعر كله ، الأبيات التي تدعو  إلى دين الله بشكل أو بآخر ، أي التي تدور بالنتيجة حول الدعوة إلى الله ، من ذلك قول ابن مرداس السلمي : ألا من مبلغٍ … إلى قوله  :

        بأن محمّداً عبـدٌ رسـولٌ         لربٍ لا  يضـلُّ  ولا  يجـور

        هذا الفهم المتقدم الأصيل ، عن الألوهة وعن النبوة ، هو فهم لم يتجاوز عمره عند ابن مرداس هذا بضع عشرة سنة ، ومع ذلك جاء بهذا العمق الفكري والأصالة . صحيح أن هذا المفهوم  هو الذي أراده الله من الناس ، وهذا ما بلَّغه محمّد (ص) عن نفسه ، بأنه هو مجرد عبد لله ، اختاره ربه واصطفاه وحمَّله رسالـة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     الجريض : من يغصُّ بريقه .

(2)     الفصافص : جمع فصفصة : النبات التي تأكله المواشي رطباً .

(3)     العنقفير : الداهية .

 

جاء  يؤديها بأقصى جهده  ووسع طاقته ، وأنه ليس هو الغاية ولا النهاية ، وإنما الغاية والنهاية التي لا تنتهي ، هو الله سبحانه وجلَّ جلاله . وأن المطلوب ذكره دائماً وأبداً ، وتذكُّره دائماً وأبداً ، هو رب محمّد (ص) رب العالمين ، هو سبحانه ” رب لا يضل ولا يجور ” كما تعلَّم هذا عباس بن مرداس من ربه الذي أرسل إليهم محمّداً (ص) يخبرهم  ـ تفصيلاً ـ بمعاني شهادة أن لا إله إلاَّ الله ، بعد أن عرفوها ـ جملة  ـ  بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وبالإشهاد ، قبل إهباطهم إلى الأرض هذه .

        وما أحوج الناس اليوم إلى هذا المفهوم  ، الذي أصبح عمره أربعة عشر  قرناً هي عمر الرسالة ، فبدلاً من أن يزيدهم طول الزمان ، وكثرة العلوم ، ووضوح الآيات فهماً للألوهة والتوحيد ، وعملاً بتعاليم الله وإقبالاً على كتابه المجيد ، إذا بهم يتوجهون إلى غير الله عزَّ وجل ، بالذكر وبشتى المطالب ، حتى وينسونه نسياناً يكاد يكون تاماً ، فأغرقوا في المعاصي  بجميع  أنواعها ، فأغرقهم سبحانه في العماية والضلالة وأنواع الإنتكاسات ، وأقفل عليهم حتى معاني كتابه الكريم ، فهم ـ إذا قرأوه ـ لا يتدبرونه ولا يفهمونه . قوله عزَّ وجل : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } . [ 57 : الكهف ] .

        فالمطلوب الرجوع إلى أصالة الإعتقاد وأصالة التوجُّه ، فإن محمّداً (ص) أدَّى رسالته ، وأصبح في جوار ربه ، وبقي على الناس المسلمين أن يترسموا صدقه وإخلاصه ، وجهاده ، هذه الصفات وإن كانت فيه قمماً عالية في تاريخ الأنبياء والرساليين والقياديين عامة ، إلاَّ أن السعي للوصول إليها أو الإقتراب منها ليس معجزاً ، ما دام الله سبحانه ندب إلى ذلك وأمر به في آيات كثيرة ، منها قوله عزَّ وجل:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.[21:الأحزاب].وقوله عزَّ وجل:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.[31:آل عمران] .

        ومما يدل على الإعتقاد الأصيل والمطلوب ، قول هذا الشاعر في البيت الرابع : ـ جنود الله ـ  ولم يقل جنود محمّد (ص) . ذلك ومحمّد (ص) بينهم يسمع هذا الشعر ، ويشجعه  ويؤكد على معانيه ما دامت تدعو إلى الله عزَّ شأنه . بينما بعد محمّد (ص) بزمن يسير ، وإلى يومنا هذا ، رأينا أكثر المداحين يعتصرون أفكارهم وأشعارهم وخطبهم ، ويسفحونها رخيصة أمام حتى الطواغيت  الصغار ، من المتنفذين والمتسلطين وأرباب المناصب ، وينسون الله إلاَّ لماما . أما إذا كان الحاكم كبيراً ، فيتزاحم على أبوابه الوصوليون والإنتهازيون ، حتى ليكادوا يقتلون بعضهم بعضاً ، حسداً ونميمةً وتدافعاً بالمناكب وزحفاً على الوجوه .

        فإذا دعوت المؤمنين العاديين منهم إلى الإيمان الحقيقي  ، الإيمان الأصيل ، وذكَّرتهم بالله وحده ، وذكرت لهم أن الله ينهى عن ذلك ويحرِّمه ، تذرعوا بالذرائع ـ إلاَّ من رحم ربك ـ وتفلسفوا وتفاقهوا ووجدوا لكل شاذة غطاء . ثم تصيبهم أمراض عامة الناس ، فيشكون منها : الصداع والأرق ، والقلق ، والتوتر ، والبلاءات ، ما قلَّ منها وما كثر ، وما صغر منها وما كبر ، والله سبحانه  أوعدهم على لسان رسوله (ص) بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } . [ 10 : غافر ] . ثم قوله عزَّت عظمته متابعاً بعدها  بآية : { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } . [ 12 : غافر ] .

        وما أجمل ما قال هذا الشاعر ، في قصيدته هذه ، كاشفاً عن حقيقة إيمانه وتقواه ، وأخلاقه الإسلامية الجديدة الرائعة ، وحماسه الشديد لرسـالة ربه عزَّ وجل ، قوله في هذين البيتين عن هوازن وهم آنذاك أعداء الله :

        فإن يهدوا إلى الإسلام يلفوا           أنوف الناس ما سمر السمير

        وإن لم يسلموا فهـم  أذان              بحرب الله ليس لهم نصيـر

       

        فقوله  ” يلفوا أنوف الناس ما سمر السمير ” أي أنهم يصبحون في واجهة المجتمع ، ويكون لـهم في الوقائع ، التقديـم ، وفي القيادة والرياسة نصيب وافر،

وهذا يدل  على مدى  ما اكتسب هذا الرجل في إسلامه الجديد  من خلق الإيثار وتقديم الآخرين ـ إذا آمنوا ـ  والتواضع لهم . بينما القاعدة الكريهة التي كانت سائدة آنذاك ، وكان الناس ما زالوا متلبسين عميقاً بها ، هي الأنانية الفردية والأثرة القبليـة ، أي تعالي الفرد وتفضيله لنفسه ، وتفضيل قبيلته على بقية القبائل ، فلا يرضى إطلاقاً أن يكون ( أنوف الناس )  قوم غير قومه ، وقبيلٌ غير قبيله ، علماً أن ابن مرداس هو من قبيلة بني سليم ، وهي من القبائل  الشهيرة التي ألَّفت في نصرة الإسلام منذ أول عهده ، يعني بلغ تعداد المجاهدين منها في سبيل الله ألف مقاتل .

        ولفتة أخرى تدلل على أخلاقية جديدة ، وفهم سريع رائع لمضامين الرسالة السماوية العتيدة ، قول  ابن مرداس  السلمي :

 

        فقلنا أسلمـوا إنَّا أخوكـم                وقد برئت من الإحـن الصـدور

 

        وذلك  ما لم يكن مألوفاً في الجاهلية ، إذ كانت ( إحن الصدور ) أي الحزازات والأحقاد بين القبائل المتنافسة ، سواء على الزعامة  أو المكاسب أو على تراكم مستدعيات الثأر ، هي مذهب أولئك الأقوام ، وقد عبَّر أحد شعرائهم عن ذلك تعبيراً بليغاً بقوله :

 

        وقد ينبت المرعى على دمن الثَّرى     وتبقى حزازات النفـوس كما هيا

 

        والدِّمن جمع دمنة ، وهي الأماكن  التي يجمع فيها السماد وروث المواشي عامة . ومعلوم أن ما ينبت عليها من الخضرة النضرة النامية ، تعف عنها المواشي بالغريزة لقبح منبتها ، فلا تأكلها إطلاقاً ، فما ينبت على الدِّمن مستحيل أن يكون مرعى للأنعام . والجاهلي  هذا أراد أنه حتى ولو وقع هذا المستحيل ، فهناك مستحيل أكبر منه ، وهو أن تزول حزازات النفـوس ، أي إحن الصدور  وأحقادها . هذا المفهوم الجاهلي  ، الذي بلغ من الأقوام لُبَّ العظام ، أزاله الدين الحنيف  : الإسلام ، دين الله الحليم الكريم  والرحمان الرحيم . وسرعان ما غسل القلوب المؤمنة ، فطهَّرهـا من إِحن الجاهليـة وحزازاتها وأحقادها ، لذلك رأينا العباس بن مرداس السلمي ، هذا الشاعر الإسلامي الداخل لتوِّه  في الدين الكريم، يدعو أعداء  الأمس  إلى هذه الرسالة العالمية الإنسانية الأخلاقية  العظمى ،  التي هي الإسلام لله ، والأخوَّة في الله ، بعد ذاك التنافر والتحاقد ولؤم السرائر  وقسوة القلوب ، فجاءَت  دعوته ، عبر المعارك الضارية : ” … فقلنا أسلموا إنّا أخوكم… ” فتحاً  إنسانياً وأخلاقياً في جملة الفتوحات المباركة الكثيرة ، المتعددة المعاني ، التي فتحها  الله على الناس ،  حيث هم أسلموا وكانوا من المؤمنين وكانوا  من الصدِّيقين .

 

*  *  *