أمحراب العلوم .. يتهم !؟

أمحراب العلوم . يتهم  ؟!

          النفوس  الأميّة هي التي تتهم الإسلام ، أما المستنيرون  بالله فهم مسلمـون . وتذاكر الهوية ليسـت مقياسـاً ، بل هي بالنسبـة لأكثر الناس كالحامل حتفه بيده .

        إن سوء الاطّلاع ، ليس فقط على مضمون الإسلام ، بل حتى على تاريخـه الظاهري،  من جهة ، ومن جهة ثانية ، البطشات الرهيبة التي بطشتها الكنيسة بعلماء أفذاذ ، هذان الأمـران متلازمـان ، جعلا النفـوس الأميّة تتهم الدين عامة وضمنه الإسلام ، بالقمعية  ضدّ العلم والعلماء .

        وفي صدد الردّ ، نسأل القارىء الحصيف ، هل علمت يوماً، منذ القرآن الكـريم ، أن أئمـة الديـن الإسلامـي وعلمـاءهم ( في مقابل البابوات ) أقفلوا ، باسـم القرآن ، أبواب البحـث العلمي ، كما فعلت الكنيسة ، باسم  التوراة والأناجيل ؟ أو هل هم ردّوا حقيقة علمية بعد كشفها ،في حين _وباسم التوراة والأناجيل_ سمّت الكنيسة العلماء هراطقـة ، وكانت تحاكمهـم  بهذه التهمة ، تهمة الهرطقـة ، في محاكم التفتيش التاريخية المخيفة .

        الواقع أن أئمة المسلمين وعلماءهم ، لم يفعلوا شيئاً من ذلك أبداً ، لأن الإسلام في الحقيقة هو محـراب العلوم ، وأساسها المتيـن ، وكيف يتنكر الأساس المتين للعمارة والأيدي  التي تشـارك  في بنائـها ، مهـما كانت أجناس  هذه  الأيدي أو خلفياتهـا .

        ولا يتسع المجال هنا للحديث عن حضارة  أسّسها الإسلام على العلم ، وظلّت  منـارة الدنيـا لأكثر من سبعمائـة سنة ، كانت أوروبـا أثنـاءها غارقة في الجهل والأميّة والتخلّف .

        صحيح أن العالـم  ، فجع بعلمـاء عظام ـ باسم الدّين  ـ على يد الكنيسة ،  عبر فترة من الزمن ،  وأن الكنيسة كانت تنطلـق في ردود فعلهـا من الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد  ، يعـني التـوراة والأناجيـل . والحقيقـة أنـها  الكنيسة ،  ولا التـوراة المجموعة مع الأناجيل ، فيما يسمى ( الكتاب المقدّس ) Bible  ، كانا  يمثلان دين الله في هذه العصور تمثيلاً كاملاً وخالصاً لوجه الله  تعالى . بل كانـت الكنيسـة ، وباعتراف المسيحيين  المدوّن  في كتب التاريخ  ، قد انحرفت انحرافاً  خطيراً عن تعاليم المسيح عليه السلام ، فضـلاً عن أنها لم تكن عندها معطيات أن تناقـش  أيـة قضيـة علمية في ضـوء النصوص الدينيـة ، الموجـودة لديها في القرون المتأخرة ، لأن تلك النصوص لم تكـن صالحة لتقويـم أي موضوع علمي ، بسبب ما مرّ عليها من تحوّلات : بين فقد أصولها الأساسية  من جهـة ، وبين نقـل وترجمـة وتحريف من جهة ثانية  . وهذا  يستحيـل  أن يقال شيء منـه عـن القـرآن الكريم ، بشهـادة جميع الباحثين العالميين ، الذين تصدّوا لدراسة مقارنـة بين الكتب  الدينية الثلاث ، ولا سيّما في مجـال الحقائـق العلميـة التي توصّلت إليها الكشوف .

        ولعل أبرز من تصدّى لهذا الموضوع  في السبعينات والثمانينـات ، هو المفكر الفرنسي  الدكتور موريس بوكاي .

        ونحن إذ نهنىء هؤلاء الباحثين المنصفين  ـ على قلّتهـم ـ بنتائـج صدقهم  وتجرّدهم ونبارك لهم الفتوحات العقليـة التي فتحها الله بسبب انتصـارهم  للحقّ وتصميمهم على انتهـاج طرق العقل ، بدلاً من التعصّـب الأعمى والانفعال ، ندعو المفكّرين خاصة ً ، والمهتمين بقضايا الفكر  عامـةً ، إلى قراءة ذلك  الباحث موريس بوكاي،  في كتابيه الصادرين تباعاً ، الأول : ( التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ) الصادر سنة 1976م  والثاني : ( الإنسان من أين جاء ) .  حيث يعرض في هذين الكتابين  ، وبالبراهين العلمية والعقليـة  الحاسمة أن الكتاب الوحيد المنـزّل من لدن الله تبارك وتعالى ، أو الذي يستحيل إلاَّ أن يكون من عند الله سبحانـه ، والذي لا يزال في الأرض  على ثباته كما أنزل هو القرآن الكريم ، وأن الكتاب المقدّس Bible  بعهديـه القديم والجديد ، أي التوراة والأناجيل ، حرّف وحوّر وبدّل وأنقص منه وزيد عليه ، وأنه يتضمن مغالطات ضخمة من وجهة نظر العلوم .

        ونحن هنا  ، وإبراءً للذمّة ، نورد لموريس بوكاي بعض الفقرات ، مـمّا سيكون حجة على المفكرين والباحثين في جملة الحجج وما أكثـرها : لمـاذا توصّل  موريس بوكاي وأمثاله إلى الحـق فارتاحوا وأراحوا ، بينما بقـي الآخرون مصرّين على العمى والضـلالة ، فتعبـوا وأتعبـوا معهم الذين لا يعقلون … إلى الأبـد …

        يقول موريس بوكاي :

        ” إننا عندما  نقيم الدليـل ، وبالاستناد دائماً إلى النصـوص ، على أن القرآن يحتوي  في طروحاتـه ، حول نقاط معينة على أفكار  تتطابق  والعلـوم  الحديثة ، في حين  أن الإنجيل يعالج نفس النقاط  بطريقةٍ مغلوطةٍ علمياً ” .

        ” إن الفترة الأعظم من تاريخ الحضارة الإسلامية ، والتي شهدت تقدّمـاً علمياً ضخماً ، هي تالية وبقرون عديدة لعصر تنـزيل القرآن “.

        ويقول في مكان آخر من بحثه :

        ” كل هذه الملاحظات المثيرة لكلّ من يتناولها بتجرّد ، والتي لم تثبت علمياً إلاَّ بعد قرون عديدة متأخرة ، تضع حديثنا في إطـار  يمنـح المسألـة أبعاداً كبيرة ً ” .

        ولكن يبقى السؤال المطروح نفسه :

        ” ولكن ينبغي  أن نعلم أن خاصيّة  القرآن هذه ، ليست نتيجةً لعمليات حذف خضع لها النص القرآني ، في العصـر الذي كانـت تكتشـف تلك الأخطاء … إذ أن المخطوطات  الأكثر قدمـاً للقرآن ، والنصوص المعاصرة ، تتماثل بشكل قاطع ، برغم مرور  أكثر من ألف سنة ، على تنـزيل القـرآن ، وبالتالي لو كان محمّـد  ، هو مؤلف القرآن فعلاً ـ وهو الغرض الذي يأخذ به البعض ـ فكيف أمكنه أن يكتشف الأخطاء العلمية الواردة في الإنجيل حول مسائل كثيرة ، وأن يتلافاها عندما وضع ـ حسب الغرض ـ نصاً يتناول نفس المسائل ؟ علمـاً بأنه منذ كتابة الإنجيل ، وحتى عصـره ، لم تتوضـح أيـة حقيقة علمية جديدة ، بحيث يمكنه  على ضوئها ، تلافي تلك الأخطاء ” .

        ” لقد رأينا سابقـاً ( أي في فصل سابق ) أنه بالنسبة لمفسـري الكتاب المقدّس ، ينبغي اعتبـار  كتب العهـدين القديـم والجديـد ( أي التـوراة والإنجيل ) على أنها كتبت بالإلهـام  ” .

        وفي مكان أيضاً من كتابه :

        ” وهناك مخطـوطات من القرن الأول للهجرة توثـق النص المتـداول الآن ، ثـمّة عنصر آخر للتوثيق ، هو حفظ القرآن غيباً ، وقد تواصـل ذلك منذ عصر النبي ” .

        ” … وقد وجدت أجـزاءً من القرآن ، تعـود للقرون الأولى للهجرة ، متشابهة تماماً للمخطوطات الأكثر قدمـاً . وكل الطبعات المعاصرة ، ليست إلاَّ استنساخاً للنماذج الأصلية . فالقرآن  لم يخضع لعمليات كتابة متعددة يصبـح معها نصّه عرضة للتحريف عبر الزمن . إذ لو كـان مصـدر القرآن مشابهاً للإنجيل ، لكان من المتوقع ، أن تستند الموضوعـات  التي يتطرق لها إلى مفاهيـم  ، تعكس معتقدات عصر التنـزيل ، مع ما فيها من اساطير وخرافات مختلفة … وبالتالي  فإن النص ، سيكـون ممتلئاً بالأقاويـل الموروثة ، ذات المنشأ الأسطوري غالباً . وهكذا فإن فرص إدخال أقوال مغلوطة في النص ، ستصبح فرصاً مضاعفـة ، كما بخصوص الموضوعـات  المذكورة آنفاً … ولكن أي شيء من هذا لا نجد له أثراً في القرآن … ( أ.( المنطلق ) العدد 20 ـ 1402 هـ . تحت عنوان : القرآن لا يمكن إلاَّ أن يكون وحي..   المؤلف : موريس بوكاي . ترجمة : حسين الحكيم .) .

*  *  *

هذا ،  وإضافة  إلى الدكتور بوكاي ، فإن مجموعـة من العلمـاء  الغربيين ، تصدّوا لموضوع عـدم ثبـات التوراة والأناجيل ، وثبات القرآن  وتطابقه المدهش ، مع الحقائق العلمية المكتشفة حديثاً . وقد كانـت الغايـة من دراساتهم تلك ، هي البحـث عن سبب انفجـار الغرب في موجتين خطيرتين من الانفلات الهستيري ، اجتاحتا أوروبا وأميركا في السبعينـات ، وهما موجتا الخنافـس في بريطانيـا ، والهيبيين في الولايـات المتحـدة الأميركيـة .

        وتوفيراً لجهد القارىء  وضعنا خلاصة لتلك الدراسات ، مفادها أن الإنجيل والتوراة ، كانا سبب خيبة أمل كبيرة للطلاب ، وللشباب بشكـل عام وجملة من المثقفيـن حيث إن الكتـابين المقدسيـن ، لم يصمـدا للحقائـق العلمية ، مـمّا شكّل سبباً مباشراً لعدم الثقـة بهما ، وبالتالي لمراودة الإلحاد ، ومعه لتحولات نفسية خطيرة في المجتمعـات الغربيـة نتيجـة للصدمـات التي من جرائها تزعزعت العقيدة الدينية في أعماقها ، حيـث أصبحوا ـ حسـب تصريحاتهم ـ يشعرون  أنهـم بلا هـدف ، في خضـمّ  متلاطـم من نشازات الحضارة المادية الحديثة .        

        وهكذا فلم يبقَ إلاَّ القرآن ، هو الكتاب الوحيد في الأرض ، المنـزّل من لدن الله عزّ وجلّ ، بواسطة جبرائيل عليه السلام ، على محمّد صلى الله عليه وآله رسول الله وخاتم النبيّين.  وبقي القرآن ـ وهو باق إلى يوم القيامة ـ هو الحقيقة الراهنة ، على أنه كلام الله تبارك وتعالى وأنه الكتـاب الوحيـد في الأرض ، الذي لم يطرأ عليه أي تغيير ، أو تعديل ، أو تبديل ، منذ وجوده على هذا الكوكب  . كذلك الحقائق العلمية  التي فيه ، هي باقية تتحدّى  العلم والعلماء ، وتساعدهم ضبطاً وتصحيحاً وإرشاداً .