أمُّ الكتــاــــب  :

        هذا من وجه في قوله تعالى : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبياً . سورة الزخرف الآية 3 } ومن وجه آخر  إنَّـه  أي القـرآن  { وَإنَّهُ فِي أمِّ الكِتـاــبِ لَدَيْنَا لَعَليٌ حَكِيمٌ . سورة الزخرف الآية 4 } ، فيجب أن نفهم ما { أُمُّ الكِتـَاــبِ  }  وما { عَلِيٌ حَكِيمٌ } .

        ففي اللغة العربية ، أمّ كل شيء رأسه وأصلُه ، فأم الكتـاـب إذن ، هي الأصل ،  الذي فرق عنه الكتـاــب ، وهو المصحف الموجود عندنا بين الدفتين . وفيه المحكم والمتشابه والمثاني  والقرآن العظيم .

        وإن كل ما صدر عن  { أمِّ الكِتـَاــبِ } ، إنما صدر بقدر الله وقضائه السابق على إهباط الإنسان إلى الأرض  واستخلافه فيها . ثم أتبعه بالتعاليم  تدريجاً ، { لِكُلِّ أمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوه . سورة الحج الآية 67 }. تلك هي الشرائع المتفاوتة ، بدءاً  بمرحلة بهيمية  الإنسان ( نتيجة للعقوبة بصدمة الإهباط وغربة المستقر ) ثم وعده  بشريعة مفصلة مسعدة ، في قوله تبارك وتعالى :

       { … فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ  مِنِّي هُدىً فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى . وَمَنْ  أعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ  القِيامَةِ أعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني أعْمى  وَقدْ كُنْتُ بَصيراً . قَالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسيتَهَا وَكَذَلِكَ  اليَوْمَ تُنْسَى . سورة  طه الآيات 123 ـ 126 } .

        ثم ضبطاً لمناهج المجتمعات  البشرية بين مبدأ الإنسان ومعاده اختص نوحاً بشريعة بدوية ، وإبراهيم بشريعة إجتماعية رعوية وموسى بشريعة كملت سابقتيها ، وعيسى : ” إنَّمَا بُعِثْتُ لإكمِّلَ الناموسَ لا لأنقُضَهُ ” . ومحمداً عليهم وعليه السلام بشريعة الإنسان المدني العالمي  { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } .

          وكل شريعة من هذه الشرائع ، هي  فرقان  من أم الكتـاــب ، وبكلمة  أخرى ، هي مجموع الأحكام التي عُمِلَ بها في النشأة الأولى ، ثم وزعت توزيعاً عادلاً ورحيماً على مراحل البشرية بعد الإهباط .