إخلع نعليك :
========
قال الله تبارك وتعالى :
{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى . إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأََهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى . فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى . إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى . وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى . سورة طـه الآيات ( 9 ـ 13 ) } .
لأهمية الموضوع ، ولأهمية هذه الآيات المتعلقة به ، سنفصِّل في تفسيرها أولاً ، ثم نعود إلى التأويل بقدرٍ مقدور ولا قوَّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم .
القراءة :
قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو : أَني أنا ربك بفتح الألف ، والباقون : إني بالكسر . وقرأ حمزة لأهلهُ امكثوا ، وفي القصص أيضاً بضم الهاء . وأَنَّا مشدَّد مفتوح الهمزة ، اخترناك على الجمع ، والباقون لأهله بكسر الهاء ، وأنا اخترتك على التوحيد ، وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة طوىً بالتنوين والباقون بغير تنوين ، وفي الشواذ قراءة الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير أخفيها بفتح الألف .
الحجة :
من كسر إني فلأن الكلام حكاية كأنه نودي فقيل يا موسى إني أنا ربك ، ومن فتح فكان المعنى نودي بكذا . وقوله طوى يصرف ولا يصرف ، فمن صرفه فعلى وجهين :
أحدهما : أن يجعله إسم الوادي فيصرفه لأنه سمى مذكراً بمذكر.
والآخر : أن يجعله صفة ، وذلك في قول من قال أنه قدِّس مرتين ، فيكون طوى كقولك ثنى ، ويكون صفة كقوله مكاناً سوى وقوم عدى ، وجاء في طوى الضم والكسر ، كما جاء في مكان سوى الضم والكسر .
ومن لم يصرف احتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون إسماً لبقعة أو أرض فهو مذكر فيكـون بمنزلة أمرأة سميتها بَحر ، ويجوز أن يكون معدولاً كعمر ولا يمتنع أن نقدر العدل فيما لم يخرج إلى الإستعمال ، ألا ترى أن جمع وكتع معدولتان عما لم يستعملا فكذلك يكون طوى . وأما قوله وأنا اخترتك فالإفراد أكثر في القراءة ، وهو أشبه بما قبله من قوله إني أنا ربك ، ووجه الجمع أن يكون ذلك قد جاء في نحو قوله تعـالى : { سبحان الذي أسرى } ، ثم قال : { وآتينا موسى الكتاب } ، ويمكن أن يكون الوجه في قراءة حمزة وأنَّا اخترناك ، مع أنه قرأ : إني أنا ربك بالكسر ، أن يكون التقدير ولأنا اخترناك فاستمع .
اللغة :
ألإيناس : وجدان الشيء الذي يؤنس به ، والقبس : الشعلة من النار في طرف عودٍ أو قصبة ، والخلع : نزع الملبوس ، يقال خلع ثوبه ، وخلع نعله ، والوادي سفح الجبل ، ويقال للمجرى العظيم من مجاري الماء واد ، وأصله عظم الأمر ، ومنها الدية لأنها العطية في الأمر العظيم ، وهو القتل ، والمقدس : المطهر ، قال امرؤ القيس : ( كما شبرق الولدان ثوب المقدس ) يريد العابد من النصارى كالقسيس ونحوه ، وسمي الوادي طوى لأنه طوي بالبركة مرتين .. عن الحسن ، فعلى هذا يكون مصدر قولك طويت طوىً ، قال عديُّ بن زيد :
أعاذل إن اللوم في غير كنهه عليَّ طوىً من غيك المتردد .
المعنى :
ثم خاطب الله سبحانه نبيّه تسلية له مما ناله من أذى قومه ، وتثبيتاً له بالصبر على ما أمر ربه كما صبر موسى (ع) حتى نال الفوز في الدنيا والآخرة ، فقال { وهل أتاك حديث موسى } هذا ابتداء إخبار من الله تعالى على وجه التحقيق ، إذ لم يبلغه حديث موسى ، فهو كما يخبر الإنسان غيره بخبر على وجه التحقيق ، فيقول هل سمعت بخبر فلان ؟ وقيل إنه استفهام تقرير بمعنى الخبر، أي وقد أتاك حديث موسى { إذ رأى ناراً }
عن ابن عباس ، قال وكان موسى رجلاً غيوراً لا يصحب الرفقة لئلا ترى امرأته ، فلما قضى الأجل وفارق مدين ، خرج ومعه غنم له ، وكان أهله على أتان وعلى ظهرها جوالق فيها أثاث البيت ، فأضِلَّ الطريق في ليلة مظلمة ، وتفرقت ماشيته ولم ينقدح زنده وامرأته في الطلق ، فرأى ناراً من بعيد كانت عند الله نوراً وعند موسى نارا ( فقال ) عند ذلك ( لأهله) وهي بنت شعيب كان تزوجها بمدين ( امكثوا ) أي الزموا مكانكم ، قال مقاتل وكانت ليلة الجمعة في الشتاء ، والفرق بين المكث والإقامة أن الإقامة تدوم والمكث لا يدوم { إني آنست ناراً } أي أبصرت نارا { لعلي آتيكم منها بقبس } أي بشعلة أقتبسها من معظم النار تصطلون بها {أو أجد على النار هدى} أي أجد على النار هادياً يدلني على الطريق ، وقيل علامة استدل بها على الطريق ، والهدى ما يهتدي به فهو إسم مصدر ، قال السدي : لأن النار لا تخلو من أهل لها وناسٍ عندها { فلما أتاها } قال ابن عباس : لما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عنَّاب ، فوقف متعجباً من حسن ضوء تلك الشجرة ، وشدة خضـرة تلك الشجـرة ، فسمع النـداء من الشجـرة وهـو قوله : { نودي يا موسى إني أنا ربك } والنداء الدعاء على طريقة يا فلان ! فمن فتح الألف من أَني فالمعنى نودي بأني ، ومن كسر فالمعنى نودي فقيل إني أنا ربك الذي خلقك ودبَّرك ، قال وهـب : نودي من الشجرة فقيل يا موسى ! فأجاب سريعاً ما يدري من دعاه ، فقال إني أسمع صوتك ولا أدري مكانك ، فأين أنت ؟ فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك ، فعلم أن ذلك لا ينبغي إلاَّ لربه عز وجل وأيقن به ، وإنما علم موسى (ع) أن ذلك النداء من قبل الله تعالى لمعجز أظهره الله سبحانه ، كما قال في موضع آخر: { إني أنا الله رب العالمين } وأن ألق ِعصاك … إلى آخره ، وقيل إنه لما رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها تتوقد فيها نار بيضاء ، وسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نوراً عظيماً لم تكن الخضرة تطفىء النار ولا النار تحرق الخضرة ، تحير وعلم أنه معجز خارق للعادة ، وأنه لأمر عظيم ، فألقيت عليه السكينة ، ثم نودي إني أنا ربك ، وإنما كرر الكناية لتأكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة { فاخلع نعليك } أي انزعهما ، وقيل في السبب الذي أمر بخلع النعلين أقوال :
أحدهما : أنهما كانتا من جلد حمار ميت .. عن كعب وعكرمة وروي ذلك عن الإمام الصادق (ع) .
وثانيها : كانتا من جلد بقرة ذكية ، ولكنه أمر بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدس .. عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن جريج .
وثالثها : أن الحفاء من علامة التواضع ولذلك كانت السلف تطوف حفاة .. عن الأصم .
ورابعها : أن موسى (ع) إنما لبس النعل اتقاء من الأنجاس وخوفاً من الحشرات فأمنه الله مما يخاف وأعلمه بطهارة الموضع .. عن أبي مسلم { إنك بالواد المقدس } أي المبارك .. عن ابن عباس ، بورك فيه بسعة الرزق والخصب وقيل المطهر { طوى } هو إسم الوادي .. عن ابن عباس ومجاهد والجبائي ، وقيل سمي به لأن الوادي قدس مرتين فكأنه طوي بالبركة مرتين عن الحسن { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } إليك من كلامي وأصغ إليه وتثبَّت ، لما بشَّره الله سبحانه بالنبوة ، أمره باستماع الوحي .
تأويل الآيات :
قبل أن أبدأ بتأويل هذه ألآيات . ينبغي أن ألفت وباختصار إلى الفرق بين التفسير والتأويل ، علماً أني قد عقدت فصلاً مسهباً عن التأويل في كتابي ” الحكمة الإسلامية ـ بحوث من مقتضيات العصر” ونكتفي هنا بالقول أن التفسيرـ كما هو شائع عند العلماء ـ هو إظهار معاني ظاهر الآيات القرآنية حسب تراكيبها وصيغها في اللغة العربية . علماً أن ظاهر القرآن الكريم حجة بالإجماع عند علماء المسلمين ، ويسمى هذا الموضوع حجية الظاهر ، وقد قمنا بواجب إظهار هذه الحجة ، تفسيرا للآيات التي نحن بصددها . أما التأويل ، فهو استكناه بواطن الآي من حيث مجازاتها وكناياتها وكذلك أسرارها أو بعض أسرارها التي يطلع عليها الله عز شأنه من يشاء من عباده .
ولا بدَّ من القول كذلك ، أن ليس كل الآيات في المصحف الشريف ، ذات ظاهر وباطن ، أو ظاهر وبواطن ، فمثال على ذلك مما ليس له باطن ، وإنما هو يفهم على ظاهره فقط ، قوله تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الأََعْمَى . أول سورة عبس } فهي على ظاهرها ، سواء كان العبوس من رسول الله (ص) أو من غيره ، فيبقى المعنى أن المقصود بالكلام عبس وأعرض عن أعمى دخل عليه . ونبدأ بالآيات الكريمات تأويلاً :
بين الرموز والحقائق :
ففي قوله تبارك وتعالى { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } ثلاثة أمور زيادة على التفسير الذي رأيناه على مستوى الظاهر . الأول : خطاب لمن يجتبيه الله من عباده يريد تعليمه . الثاني : تنبيه لهذا المجتبى لكي يحسن الإستماع وأخذ العبرة . الثالث : موسى ، هو الرمز الذي يخاطب به الله أصفياءَه الذين اختاروا الهجرة من دنياهم ومن أبدانهم ومن أنفسهم إليه سبحانه وتعالى عما يشركون .
وقوله تبارك وتعالى :
{ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لإهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى . سورة طه الآية10 } .
النار في المتعارف ، أنها كذلك رمز وعلامة ، يوقدها في الليالي الباردة والمظلمة أهل الجود والكرم للأضياف وللمسافرين الذين بعدت بهم الشقة عن أهلهم وأوطانهم وللتائهين كذلك في البوادي والقفار . فهي النداء الذي يشفي ويكفي من وحشة الليل وأخطاره ومشقات السفر ، فيجدون عندها الأنس والراحة والكرم وحسن الضيافة .
والنار التي في الآية كناية عن هذه ، وإنما التي في الآية ينصبها الله للمسافرين إليه ، ويهديهم بها وإليها ، حيث يجـدون أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وأرحم الراحمين . أما كيف يريهم إياها ، فبالقلوب والبصائر ، نوراً بعد نـور ، ثم نوراً على نور .
والأهل , في قوله تعالى : { فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا } هم الأهل في الظاهر ، أي الزوجة وأهل البيت عامة ، أما الرمز فهو في قوله { امْكُثُوا } وهي ، أي الكلمـة في اللغة ، ليست بمعنى أقعدوا أو أقيموا ، وإنما فيها معنى التلبث والتحوُّل والإصطبار . ودائماً ، عندما يعزم الرجل على الهجرة إلى الله تبارك وتعالى ، تحصل ردود فعل من قبل أهله لا بدَّ منها . فالرجل ضمن تغيراته عامةً النفسية والعقلية والمسلكية ، يبدأ بالإنصراف تدريجياً عن الدنيا ومعظم شؤونها التي كانت شغله الشاغل ، وفي توجهه لربه عز شأنه ، تصبح حيثيات التعامل عنده والإهتمامات الصغيرة ، تافهة ، والأهل إذ يلمسون هذه التغيرات ، ولا يستطيعون إدراك كلية الحقيقـة التي أخذ فيها الرجل ، يبدأون بالتساؤل ، والتعليق ، والنقد ، إلى أن يدركوا تصميمه النهائي ، وهو أنه اختار ربَّه تبارك وتعالى على الدنيا وجميع ما فيها ، وأصبح هو سبحانه همه الأعظم وحبه الأعظم . فالأهل عندئذ يبتلون بإحدى حالتين إما إيجابية وإما سلبية ، فإذا اختاروا الحالة الإيجابية ، نجحوا ونجوا معه ، وتعاونوا على البر والتقوى ، بل وتنافسوا في حب الله تبارك وتعالى وفي طاعته . أما إذا كانوا في نظرتهم إليه سلبيين ، كانوا عند الله جلت عظمته من الخاسرين .
أما بقية الآية ، قوله تعالى : { إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } فالرمز فيها هو وعده لأهله إذ يحاول دعوتهم وإفهامهم الحقيقة التي صار إليها ، وخلاصتها دعوتهم إلى الله ، { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ . سورة فصلت الآية 33 } فإذاً الرمز فيها وعد أهله إذا هم تفهموا وأطاعوا بنجاتهم من الشرك الظاهر والشرك الخفي وسعادة الدارين .
أما قولـه تبـارك وتعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى . إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ .. سورة طه الآية 11 } فقوله تعالى : { نُودِي } ظاهرها النداء الذي هو برفع الصوت عادةً . قيل إن إعرابياً سأل رسول الله محمّداً (ص) يا رسول الله ربنا بعيد فنناديه أم قريب فنناجيه ؟ فسكت محمّد (ص) ونزلت الآية الكريمة : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي .. سورة البقرة الآية 186 } أي هي المناجاة لله تبارك وتعالى ، وليست المناداة . وحيث أن الله سبحانه أخبر أنه أقرب للإنسان من حبل وريده ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، هو سبحانه أقرب للعبد الصالح حيث يكون العبد في مقام القرب من ربه عز وجل ، فإذاً لا ضرورة ولا حاجة للنداء برفع الصوت ، ولذلك ، فكلمة { نُودِي } في الآية الكريمة ، مشتقة من نادى التي تفيد المشاركة وهي حديث أهل النادي ، حيث يكونون قريبين من بعضهم ، وعادة يكون فيه الود والتصافي .
{ نُودِي يَامُوسَى . إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } لا بدَّ أن يكون الله تبارك وتعالى قد تولىَّ موسى أو العبد الصالح برعايته وعنايته فترة من الزمن تمرُّ فيها نفس العبد الصالح بتجليات رموز قول الله تبارك وتعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة النور الآية 35 } . وقد شرحنا رموزها في كتابنا ” مفتاح المعرفة ” الجزء الأول .
حتى إذا أصبحت نفس العبد الصالح كأنها كوكب دريٌّ في صفاء نوره وقوة إشعاعه ، ونقائه كلياً من أدنى شائبة تعكِّر صفو التوحيد وصدق التوحيد ، أدخلها سبحانه في طمطام يم وحدانيته ، حيث تصبح صالحة للسماع ووعي ما يريده الله منها جلَّت عظمته .
وقوله تعالى { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } والعبد الصالح في الحال الذي ذكرت يغيب عن حدود بدنه وعن حدود نفسه ، وليس إلا خضم النور الذي تضمحلُّ دونه الأكوان .
تستذكر هذا الدعاء وهذا النداء : ” يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة ، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة ” تستذكر هذه المعاني ، إذ ترى هذه الأنوار وترى فيها نفسك بلا تحديد وبلا حدود : نور من نفس هذا النور في نفس هذا النور اللانهائي بحراً أو يمّاً أو خضماً . أيُّ حجاب هذا الذي نودي موسى أو ينادى من خلاله العبد الصالح : { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } وما هما هذان النعلان اللذان يؤمر العبد الصالح بخلعهما في هذه المرحلة النورانية الرائقة في بطنان الخضم ، المتألقة المشعَّة الوهاجة ببريق ٍ فضي يكاد يخطف الأبصار في لانهائياته ؟ .
ماذا قيل في النعلين :
قيل في النعلين ، أن تأويلهما الدنيا والآخرة ، قالها ابن عربي وربما غيره من المتصوفين وبعض السالكين من أهل العرفان . والحقيقة ليست كذلك ، لأن الإنخلاع من الدنيا والآخرة هو براءَة من الله جلَّت عظمته . إذ يستحيل على الإنسان أن يخلع الزمان والمكان ، حتى أن ينخلع من النور إذا تحوَّل إلى حالة نورانية . الله وحده فوق الزمان والمكان يغمرهما .
صحيح أن بعض الربانيين أو المتألهين ، يعبرون عن حبهم لله جل وعلا ، وعن شوقهم إليه ، وعن ولههم به وتعلقهم بمحبته سبحانه ، بعبارات تنم عن استغنائهم بذاته عن الدنيا والآخرة ، وعن مغرياتهما ، وعما فيهما من عناصر الجذب بين مال ٍ وجمال ومتع ٍ مشروعة ، وحتى عن زهدهم بعطاءات الآخرة رغم إغراءاتها وعظائم ما فيها من الوعود الجميلة الجليلة . وذلك لأن الله تبارك وتعالى عندهم أحب وأجل وأجمل وأعظم بلا قياس . بحيث تصغر مع محبته كل جمالات الوجود وعظائمه ، وهذه حقيقة لا مراء فيها ولا جدال . إلا أن الإنسان مهما فني عشقا ً وذاب حباً بالله سبحانه ، فإنه يبقى غير الله ، سواء تحوَّل إلى نور خالص أو استمر من لحم ودم .
وهذه أبيات لرابعة العدوية نذكرها كنمط عن التعبير عن الحب الإلـهي ، ورابعة هذه ، رضوان الله عليها ، اشتهرت بعفتها وصلاحها ، وانقطاعها عن الدنيا وتفرغها لعبادة الله وفهم توحيده من خلال التفكر والتأمل وتدبر القرآن الكريم .
قالت :
عرفت الهوى مذ عرفت هواك وأغلقت قلبي على من عداكا
وقمـت أناجيـك يا من ترى خفايا القلوب ولسنا نراكا
أحبـك حبيـن حـب الهوى وحبـا ً لأنـك أهـل لذاكا
فأما الذي هـو حـب الهوى فشغلـي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنـت أهـل لـه فكشفـك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
وقلنا من قصيدة ، هذه الأبيات (*) :
لكنما الروح في أشـواقها لغـةٌٌ
حبَّابة ٌ فوقَ هذا العـالم ِ الخَرِبِ
لـهمَّ حبُّك لولاهُ سقطـتُ على
حضارة ٍ بُنِيتْ للنـار ِ والحَطَبِ
به نَجَوْتُ ومثل النسر طائـرةٌ
سفينتـي فوقَ أمواج ٍ منَ اللَّهَبِ
مُذْ شَفَّ قلبي أعلاني إلى أفـقٍ
أبهى منَ المشتهى في سابع الحجبِ
أقفلتُ قلبيَ ما أبغي سواكَ بـهِ
أُنْساً ، ولا ليَ في الدارين من أربِ
الحبُّ أنتَ ، وإذ حدَّقْتُ في كبدي
ترقـرق النور بين الهُدْبِ والهُدُبِ
ورَاحَ يُتـْرِعُ روحي فانثنيتُ بهِ
نشوانَ كالعِطرِ حولَ الزنبقِ الرَّطِبِ
ريـَّان كالنهرِ والوديـانُ تسْمَعُهُ
موَّالَ حُبٍّ يرودُ اللهَ عن كَثـَبِ
*********************
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ديوان النهر . من قصيدة : الله حب هو المرسل .
الحزن بين الخاصة والعامة :
ونعود إلى قوله تعالى : { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } لنقرر بهداية من الله سبحانه ، أن المقصود بهما الحزن والغضب . ولقد ثبت بعد التحقق من مجمل آيات القرآن الكريم ، أن هناك إشارات فيه كثيرات ، تدل عن النهي عن الحزن للواصلين ، وليس للسالكين . وليس حزن يعقوب على ولده يوسف عليهما السلام ، دعوة من الله إلى الحزن ، وليس من الواجب اتخاذه قدوة ، بل لعلَّ العكس هو الصحيح ، ولقد ذكرنا في مكان آخر ، البديل الأوْلىَ من الحزن والأحب إلى الله ، هو التسليم له سبحانه وحسن التوكل عليه ، ولا سيما بعد المقدمات التي كان خليقا ً بيعقوب (ع) أن يعتمدها (*) ، من مثل الرؤيا التي فيها وعد من الله واضح بجمعه بأولاده كلهم ، ثم سُجودهم كلهم لله بحضرة يوسف . وكان هو صدَّقها ووصَّى يوسف بصددها ما أوصاه .
القرآن الكريم يدعو في عمقه إلى الفرح ، الله يدعو أنبياءَه وأولياءَه وعارفيه إلى الفرح ، أن يكون الله في قلوبهم ، يعني أن تكون قلوبهم غير حزينة ، حيث يكون الله يكون المجد والحب والفرح .
أقصى ما في القرآن الكريم بين الحزن والفرح آية واحدة ، هي آية التوازن أو الإعتدال ، قوله تبارك وتعالى :
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأََرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . سورة الحديد الآيات ( 22 ـ 23 ) } .
فقوله تبارك وتعالى { لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } فيه نهي عن الأسى وهو الحزن ونهي عن الفرح الذي هو البطر في حالة تجاوز حدوده .
والحزن لون من ألوان الشقاء ، وقد نهى الله سبحانه عنه بوضوح في قوله تبارك وتعالى : { طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . سورة طه الآيات (1 ـ 2 ) } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أنظر كتابنا ” مفتاح المعرفة للدخول في عالم العرفان الإسلامي” الجزء الأول .
ولقد نهى الله ورسوله وعامة المؤمنين عن الحزن في آيات عديدات نذكر منها ما يؤكد هذه الحقيقة . قوله تبارك وتعالى :
{ .. وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ . سورة النحل الآية 127} .
وقوله تبارك وتعالى :
{ .. فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ .. . سورة طه ألاية 40 } .
وقوله تبارك وتعالى :
{ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ . سورة العنكبوت الآيـة 33 } .
وقوله تبارك وتعالى :
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . سورة آل عمران الآية 139 } .
وقوله تبارك وتعالى :
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ . سورة الأنعام الآية 33 } .
{ وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . سورة لقمان الآية 23 } .
وأختم هذه الإشارات الواضحة بقوله تبارك وتعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . سورة فصلت الآيـات ( 30 ـ 31 ) } .
وفي القرآن الكريم ، إضافة على النهي عن الحزن ، حضٌّ على الفـرح وندب إليه ، وشرطه أن يكون فرحاً بالحق ، فرحاً بالله وبكلام الله وبكتاب الله ، وبكل ما هو مرضي ومقبول عند الله تبارك وتعالى ، من مثل نصره وآلائه وأنعامه وبشائره ووعوده ، ما يتحقق منها على الأرض وفي الحياة الدنيا ، وما هو متوقع مرجوٌّ في الآخرة . قوله تبارك وتعالى :
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ . قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ . سورة يونس الآيات ( 57 ـ 58 ) } .
أما الفرح بلا إيمان ، والفرح بلا تقـوى ، والفـرح بلا وقار ، والفرح بغير التعبُّد والشكر لله جلَّت عظمته ، هو فرح بغير الحق ، وهذا الفرح هو شأن المغنين والراقصين واللاعبين والماجنين ومشاهديهم والمستمعين إليهم ، هذا فضلاً عن الفاحشين والفاحشات على أعلى مستويات الإعلام في بلادنا وفي العالم ، وذلك بين الشـارع والتلفاز ، والفيديو وعامة بؤر وأجهزة الرذيلة . هؤلاء ، هذه الجماهير الغفيرة ، هي إلى الجحيم ، وهذا وعيد الله لهم :
{ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأََرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ . ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ . سورة غافر الآيات ( 75 ـ 76 ) } .
أما أن النبيّ محمّداً (ص) بكى لموت ولده إبراهيم ، فهذا أمر طبيعي وبديهي ، وهو كان حزناً لساعته ، أو ليومه ، أو في أقصى الأحوال لبضعة أيام معدودات . ولكن غير الطبيعي أن يتخذ حزن النبيّ (ص) ذريعة لحزن طويل ، يصحبه أذى النفس وأذى للآخرين في أسرة الفاقد أو في المجتمع ، فضلاً عن أنَّ الحزن الطويل ، قد يكون إثماً ، لما فيه من معاني عدم الثقة بالله وعم التسليم لقضائه وعدم الرضى بحكمه ، ولو كان كل ذلك بشكل غير مقصود . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية لوصايا الله تبارك وتعالى بعدم الحزن ـ كما أشرنا في الآيات الآنفة .
بين أبطال كربلاء وأبطال مؤتة :
أما موقف الحسين عليه السلام في كربلاء ، أو جملة مواقفه الشريفة ، فإن إظهاره الأسى والأسف فيها ، وبعض الحزن ، فكان ذلك دائماً لإلقاء الحجة على الآخرين ، وللإعتبار ، ولإلقاء الدروس المشرقة على أهل الظاهر . أما حقيقة الحسين عليه السلام ، وحقيقة قلبه ومشاعره ، فكانت السعادة بقرب لقاء ربِّه عزَّ وعلا ، ولقاء جده محمّد (ص) وأبيه علي وأمه فاطمة عليهما السلام وجميع الأحبة من أنصار الله وأحبائه الذين سبقوه إلى جوار الله والنعيم المقيم .
والإمام جعفر الصادق سلام الله عليه ، ليس أدرى من جده الحسين (ع) ، حيث يقول الصادق في تفسيره آية { قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . سورة الشعراء الآية 50 } : من أحسَّ بالبلاء في المحبة لم يكن محباً ( أي لله عز وجل ) ، بل من شاهد البلاء فيه لم يكن محباً . بل من لم يتلذذ بالبلاء في المحبة لم يكن محباً . ألا ترى السَّحرة لما وردت عليهم شواهد أوائل المحبة كيف زالت عنهم حظوظهم ، وهان عليهم بذل أرواحهم في مشاهدة محبوبهم فقالوا : ” لا ضير ” .
وقال عليه السلام ، في تفسير الآية : { .. كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ . سورة الشعراء الآية 62 } قال : من كان في رعاية الحق وكلايته لا يؤثر عليه شيء من الأسباب ، ولا يهوله مخوفات الموارد لأنه في وقاية الحق وقبضته . ومن كان في المشاهدة والحضرة كيف يؤثر عليه ما منه يصدر وإليه يرد ؟ ألا ترى كيف حكى الله تعالى عن الكليـم قولـه :
{ .. إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ } .
ومن الأدلة المادية على سعادة الحسين عليه السلام باستشهاده بين يدي الله عز وجل ، وبكل البلاءات التي شهدها ، والتي تصورها عن أهله وذويه بعد مصرعـه الشريف ، حيث هم في رعاية الله وكلاءته ، وفي حضرته وتدبيره ، ليجعل منهم للعالمين أبلغ عبرة ، وأرقى مدرسة فداءٍ وبطولة في تاريخ البشرية . قلنا من أبلغ الأدلة على سعادة الحسين (ع) وسعادة المستشهدين معه يوم كربلاء ، هو موقف أحد الأبطال من أتباعه وتلاميذه : برير الهمذاني .
إذ ورد في السيرة الصحيحة ، أن بريراً كان واقفاً قرب زميل له من الأبطال أتباع الحسين (ع) ، المنتظرين دورهم في القتال والمبارزة ، وكانت المعركة دائرة في ذروتها ، بين الحسين عليه السلام وأنصاره على قِّلتهم من جهة ، وبين الكفرة الفجرة أعدائهم على كثرتهم الكاثرة من جهة أخرى ، وعلى ساح المعركة رؤوس تطيح وسيوف تقطر دماً وأيدٍ وأرجل تتقطع ، وصهيل خيل ، وعجيج وضجيج ، وإذا برير يغمز بيده جنب صاحبه ويمازحه ويضاحكه ، وصاحبه يقول : يا برير ماذا جرى لك والساعة ساعة جِدّ ، انظر واتق الله ، قال برير : سبحان الله والحمد لله ، وما همّ ؟ ونحن في عين الله وفي سبيله ، وما هي إلاّ ساعة نجاهد بها هؤلاء الكفار بسيوفنا ونَقتل منهم ثم نُقتل ، ثم نعانق الحور العين .
الحسين عليه السلام أولى بهذه المعاني العالية ، والمشاعر السامية ، وتفهم الحقيقة الناصعة ، من برير الهمذاني رضوان الله عليه ، فهو أستاذه وإمامه ، وإنما تعلم برير هذا الشرف ، وهذه الشجاعة النادرة ، والثبات أمام الموت ، والسعادة بالشهادة المرتقبة من إمامه العظيم ، سيد شباب أهل الجنة ، الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام .
في معركة ” أُحد ” ، في بدايتها ، رسول الله (ص) امتشق سيفاً أمام ثّلَّة من أبطال المسلمين وقال ـ يحرضهم على القتال ـ من يأخذ ها السيف بحقِّه ؟ فاندفع الرجال كل يقول : أنا يا رسول الله .. إلاَّ رجل مُعْلَم بعصابة حمراء حول رأسه ، قال وما حقه يا رسول الله ، قال (ص) : أن تضرب به حتى يلتوي . قال أنا لها يا رسول الله . فأخذه وشهره ، وأخذ يمشي به ويتبختر ، والتبختر أبلغ من الخيـلاء . قال من كان من المسلمين ، يا رسول الله ، انظر إلى أبي دجانة ـ وهي كنية الرجل ـ إنه يمشي مشية يبغضها الله ورسوله كما قلت عن مشية الخيلاء . قال (ص) : ” إلاَّ في هذا الموقف ” . أي موقف تحدي أعداء الله وإظهار البأس والقوة وشجاعة الأبطال .
وأبلى أبو دجانة ، كما هو مشهور ، بلاءً حسناً في أُحد .
لو لم يكن أبو دجانة ، سعيداً بمواجهة الموت وقتال أعداء الله ، ما كان صدر منه ما صدر ، من صورة المقاتل السعيد بلقاء ربه ، وقد ملأ حب الله والنخوة برديه .
وفي سيرة ابن هشام ، أن رسول الله (ص) ارسل سرية لقتال الروم في مؤتة ، وهي ناحية من نواحي الاردن . وأَمَّر على السرية مولاه زيداً ، وأوصى أنه إن استشهد فالأمير جعفر بن أبي طالب ، فإن استشهد فالأمير عبد الله بن رواحة ، شديد الحب كان لرسول الله (ص) بطلاً وشاعراً .
وصل المسلمون إلى مؤتة ، ووصلت نجدات إلى عسكر الروم تفوق المائة ألف جندي ، ووجد المسلمون أنفسهم ضمن خضم من الأعداء يفوقونهم أضعافاً مضاعفة عدة وعددا . وإذ فوجىء المسلمون بذلك ، تشاور القادة ، بين أن يتراجعوا منسحبين ، وبين أن يبادروا القتال غير المتكافىء . فقرروا القتال على قاعدة إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة .
فاستشهد زيد ، وأخذ الراية جعفر ، فاستشهد وأخذ الراية عبد الله ، فاستشهد ، فانسحب ببقية العسكر خالد بن الوليد …
ما دعانا إلى تذكار هذه الوقعة ، أثران تركهما لنا جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة ، كل موقف منهما ، أو كل أثر ، يشكل في الحقيقة قيمة عالية في علم النفس ، ومعرفة حقائق ما تنطوي عليه الصدور المؤمنة من فروق ٍ بين درجات اليقين .
فأما الأثر الأول الذي تركه جعفر ، فبيتان من الشعر ، ارتجز بهما قبل الإندفاع إلى المعركة التي فيها الشهادة شبه المحتمة . قال :
ما أجمـل الجنـة واقترابها طيبـة وسائـغ شرابها
والروم روم قطِّعت أصلابها عليَّ إن لاقيتها ضرابها
واضحٌ لناقد الشعر المختص ، أنه ليس في البيتين شاعرية شاعر ، فجعفر بن أبي طالب لم يكن شاعراً كعبد الله بن رواحة . وإنما كان عليه أن يقول شيئاً بحكم عادة الأبطال المميزين ، قبل المبارزة أو الإنخراط في المعركة . وإنما في البيتين أولاً ، المضمون ، وهو يعبِّر عن الشوق إلى الجنة ونعيمها من جهة ، ومن جهة ثانية وهو الأهم في مثل هذا الموقف ، هو استبشاره باقترابها ، يعني باقتراب استشهاده ، وعميق اعتقاده أنه بالشهادة يدخل الجنة . وفي وصفها المختصر ـ لضيق الوقت ودقة الموقف ـ ( طيبة وسائغ شرابها ) دلالة على حنين مستبطن إليها . ثم يعلن عداءَه لهؤلاء الروم ، الذين هم أعلنوا عداءَهم لرسول الله (ص) وللدين المجيد . ثانياً ، في الشكل ، فجعفـر رضوان الله عليه ، اختار ـ وطبعا بغير قصد ـ بحراً من بحور الشعر ، يجري في أذن السامع كجدول ماءٍ عذب ، وهو الأكثر انسياباً في وقعه وتفعيلاته ، وحتى في القافية المرتاحة . فالمضمون كما قلنا ، يدل على شوق إلى الجنة وحنين ، والشكل ينم عن حالة نفسية هادئة هانئة فيما تصبو إليه من لقـاء الله عز وجل ، غير مترددة ، ولا أثر فيها للخوف أو الجزع ، واضحة عندها الطريق والنهاية الجميلة المشرفة ، إلاَّ غضباً في البيت الثاني ، في ثناياه ، من الطبيعي جداً أنه غضب لله على أعداء الله . وفوق ذلك كله ، قيل في استشهاد جعفر ، كما نقل لنا التاريخ المحقق ، أقوال ، لا ينتهي عندها الإعجاب بتلك البطولة الفذَّة ، ورباطة الجأش والبسالة في أعلى مستوياتها . فقد قيل إنه ضرب على يمينه ، فأخذ الراية بيساره ، حتى لا ينهزم من خلفه ممن يقود من المسلمين ، ثم قطعت يساره بضربة ، فاعتنق الراية بكلتا اليدين المقطوعتين ، حتى طعن ، فتلقف الراية عبد الله بن رواحة . عندما حدِّث رسول الله (ص) بحديث جعفر قال : : أبدل الله جعفراً بجناحين يطير بهما في الجنة ، أو كما قال (ص) . فعرف جعفر بن أبي الطالب في التاريخ فيما بعد بجعفر ذي الجناحين ، أو بجعفر الطيار .
أما عبد الله بن رواحة ، ذلك البطل الشاعر ، والصحابي المرموق ، المميز بصدقه وصراحته ، وصفاءِ شعره وصدق مواقفه ، فقد أخذ الراية ثم تراجع قليلا إلى فسحة في الميدان ، ليرتجز ، وليحفظ المقاتلون من حوله أرجوزته وينقلوها إلينا صافية بكامل صدقها وعميق دلالاتها . قال :
أقسمـتُ يا نفسُ لَتنزلِنَّـهْ لَتنزِلِــنَّ أو لَتُرْغَمِنَّـهْ
ما لي أراكِ تكرهينَ الجنَّةْ قد طالما قد كنتِ مُطمئِنَّهْ
ما أنتِ إلاَّ نُطْفـَةٌ في شِنَّـهْ
فأولاً ، في المضمون : عبد الله يخاطب نفسه ، يقسم عليها أن تنزل في المعركة الطاحنة ، التي قضت أمام عينيه على كبيرين في القادة ، شهيرين في البطولة ، ويبدو أن نفسه لا تطاوعه ، فهي ترى الهول والدماء ، وكثرة عدد الأعداء ، والنجدات التي ترفدهم . ثم باختصار شديد ، هو الموت الأحمر ، فنفسه تمانع ، ولكن هو حرَّض قومه في البداية على الثبات وعدم الإنسحاب كما ذكرت السيرة ، فما به الآن يتردد ؟ لا ! ( لتنزلِنَّ أو لترغمنَّه ) هو مع نفسه في صراع أي صراع ، وجدال صعب أي جدال ، يعاتبها عتاباً مريراً : ( ما لي أراك تكرهين الجنة ) هو على يقين كذلك بالجنة والنعيم في جوار رب العالمين ، ولكن نفسه ما زالت نزاعة إلى الدنيا ، يتابع عتابها ، هنا الوعي يعمل بسرعة مذهلة ، ثبت ذلك في الأخبار ، وثبت في التجربة ، وثبت علمياً ، أنه في ساعات الهول والرعب والفزع ، يستحضر الإنسان في لحظة أو لحظات ، تقارير مطوَّلة مفصلة عن نفسه وعن تاريخـه ، وإذا تكلم ، فبكلمات قليلة جداً ، يستحضر معاني ومواقف طويلة جداً . هكذا ، أرجوزة عبد الله بن رواحة ، تستعرض الواقع والمستقبل ، ولا يفوتها الماضي ، يقول لنفسه مستمراً بالعتاب المرير : ( قد طالما قد كنتِ مطمئنة ) أي أخذت قسطك كفاية من الدنيا والراحة فيها والإطمئنان ، وهذا وقت الجد ، أعلى درجات الجد ، بذل النفس في سبيل الله ، وكما قيل : الجود بالنفس أقصى غاية الجودِ . هذا المعنى هو في أعماق عبد الله بن رواحة . ثم شتم نفسه أهانها ، انتصر عليها : ( ما أنت إلاّ نطفة في شِنَّه ) أي في شن وإلهاء هنا في القافية هي هاء السكت . والشن هو السقاء البالي . حسم أمره وحزم قوَّته ، ثم اندفع في أتون المعركة ، وظل يقاتل حتى أبلى البلاء الحسن ، ثم استشهد تحت ضربات السيوف وطعن الرماح . راضياً كذلك ، فرحاً بما صار إليه من صدق العزيمة وشرف القرار .
موقف عبد الله بن رواحة ، هو لون آخر من ألوان البطولة الفذة الفخمة ، فبعد أن ترك للعالم ، خارطة واضحة المعالم لحالته النفسية ، وصراعه معها ، توَّج ذلك كله بالوصول إلى الهدف النبيل ، إلى أقصى الغاية ، وهل هناك هدف أو غاية أعلى من مقعد صدق ٍ عند مليك مقتدر ، عند الله تبارك وتعالى ، ومخلداً في النعيم المقيم مع الأنبياء والصديقين والشهداء . المهم في النتيجة ، هو الإنتصار على النفس ، فالإنتصار عليها هو الخطوة الأولى الصادقة ، لمتابعة الإنتصارات في الحياة العامة ، ولا سيما في المواقف الصعبة وأقصاها بذل هذه النفس رخيصة بين يدي عزة الله ، وهو بعد ذلك البديل الأعظم والأكرم والأرحم ، وبلا قياس ، فله سبحانه المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم .
كلا البطلين كان سعيداً في مواجهة الموت ، ما دام في سبيل الله ، مع فارق ٍ تبين بالمقارنة بين شعريهما . الحسين بن علي عليهما ، كان أكثر إدراكاً للسعادة في سره ، فنفس أبيه علي عليه السلام بين جنبيه ، وهو الذي ساعة ضُرب الضربة القاتلة بسيف ابن ملجم قال : فزتُ ورب الكعبة .
بين الغضب المقدََّس وغير المقدَّس :
ونعود إلى قوله تبارك وتعالى : { فاخلع نعليك } وقد قلنا أن المقصود بهما الحزن والغضب والله العالم . وكما تحدثنا عن الحزن انطلاقاً من القرآن الكريم مدعمين الآيات بأمثلة من تاريخ أنصار الله الأبطال ، الأصفياء والأولياء . كذلك وبنفس هذه المنهجية نتحدث عن الغضب ، لأنها الأعلى في الموازين والمعايير .
قبل أن أشير إلى الآيات التي تنهي عن الغضب أو الغيظ أو التجبر ، وهي معان ٍ متقاربة ، ينبغي أن أفصل بين الغضب المقدس الذي هو أمر تعبدي ، وهو غضب أنصار الله ومحبيه ، وبين الغضب غير المقدس وهو الذي يضر بصاحبه وقد يعاقب عليه .
أما الغضب المقدس ، فهو الغضب لله عز وجل ، ولدينه ولكتابه ولجميع شعائره . والله سبحانه يمنح به قوة غير عادية ، رهنا ً بالمواقف وأنواعها .
ومن أمثلته التاريخية ، غضب علي عليه السلام ، واقتحامه الباب الموصد لحصن خيبر ، واقتلاعه من مكانه ، ليتدفق منه جيش المسلمين ، بعد أن كان أعياهم لضخامته وصلابته .
ثم الكلام عنه عليه السلام ، وفي أكثر من موقف ، ولا سيما في ميادين القتال ، إذ كان يغضب لله ، فيكبر ويضرب ، فلا تخيب ضربته . أما إذا غضب لنفسه لسبب أو لآخر ، فإنه كان يحجم عن القتل ، فيسأل عن ذلك فيقول : إنما أقاتل غضبا ً لله وليس غضبا ً لنفسي .
وإذا كان الغضب المقدس ، أي الغضب لله ، مؤيدا ً منه سبحانه فلا بدَّ أن يكون مباركا ً ونافعا ً لصاحبه ، في نفسه وبدنه ونتائجه . وليس كذلك الغضب الشخصي ، أي غضب الإنسان لنفسه ، فقد ورد أن الإنسان إذا غضب لغير الله ، يبدأ غضبه بشرارة يأخذ الشيطان بالنفخ عليها حتى تتأجج ، ما لم يكبح الإنسان غضبه ويعقلن موقفه .
ولمعالجة الغضب الشخصي طرق . بعضها مستفاد من دين الله سبحانه ، وهذا يؤجر عليه صاحبه في الدنيا والآخرة ، وبعضها مستفاد من رياضات هندية مثل اليوغا ، أو غير هندية ، كبعض التقاليد الشعبية .
أما ما هو ديني ، فهو ناجح حتما ً ، وذلك معروف بالتطبيق والتجربة ، وأبرزه استحضار بعض آيات القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ } فبمجرد أن يستحضرها ويقولها الإنسان المغضب ، يروَّح عنه ، وتهدأ نفسه ، ومنها قول لا قوة إلاَّ بالله وتكرار ذلك ، أو لا حول ولا قوة إلاَّ بالله ، ومنها الإستغفار ، ومنها أن يقف الإنسان ، إذا كان سائرا ً ، أو يقعد إذا كان واقفا ً ، أو يستلقي إذا كان قاعدا ً ، ومنها أن يمسَّ رحما ً من أرحامه ، إلى غير ذلك من أسباب اللجوء إلى الله تبارك وتعالى .
ولعله غني عن القول ، الحديث عن مدى أضرار الغضب ، سواء في التفاعلات النفسية أو البدنية ، أو في النتائج . فقد تقع الجرائم الخطيرة ، والكبيرة والصغيرة ، من جراء الغضب الذي لا يكبح أو لا يعالج في حينه . وسجلات المحاكم حافلة بالجرائم التي سببها الغضب . هذا ، فضلا ً عما يتركه من آثار على القلب وعامة الجهاز العصبي ، من ندوب وتمزقات ، وفي بعض حالات تفاقمه قد يؤدي إلى الذبحة أو الموت كمدا .
والإنسان الغضوب ، غالباً ما يكون متوتراً ، أميل إلى العبوس والكآبة . مما ينغص علاقاته بجميع من يحتك بهم ، من أسرته إلى المجتمع ، وبالتالي ينغص عليه أمر دنياه وأمر آخرته ، وذلك بما يركم على نفسه من آثار سلبية وآثام صغيرة وكبيرة .
وهذه آيات كريمات ، لها صلة وثيقة بهذا الموضوع ؛ قال تبارك وتعالى :
{ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ . سورة الشورى الآيتان ( 36 ـ 37 ) } .
وقوله تبارك وتعالى :
{ وَسَـارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. سورة آل عمران الآيات ( 133 ـ 136 ) } .
شرط سبحانه في هذه الآيات لكي تتم مغفرته للمتقين ، شروطا ً ، أولها الإنفاق في سبيل الله على أي حال ، في العسر ما أمكن ، وفي اليسر مع التمكن ، وفي حالي الرضا وخلافه ، وثانيها كظم الغيظ ، وبمعناه لجم الغضب في ترجمة غضبه عمليا ً ، والعفو عمن ؟! عن النـاس ، وهي كلمة فيها إطلاق ، يعني عن جميع الناس على اختلاف أحوالهم ، طبعاً يستثنى الغضب المقدَّس كما أسلفنا . وما دام أمر الله تبارك وتعالى هو بالعفو عن الناس ، فأصبح من الأولى العفو عن الأقربين أرحاماً وإخواناً في الله . أما قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني كلما كانت درجة الإنفاق في سراء أو ضراء هي أحسن ، وكلما كانت درجة كظم الغيظ هي أفضل ، وكلما كان العفو عن الناس ولا سيما الأقربين هو بدرجة أعلى ، كان الثواب من الله تبارك وتعالى أجزل وأفضل .
أما بقية الآيات ، فواضح فيها فضل الله تبارك وتعالى في توسعة باب التوبة يذكرون الله ويستغفرونه نادمين أشدَّ الندامة على معاصيهم وذنوبهم ، وفي الندامة بكاء ، وفيها تمريغ الوجه على الأرض ذلاً بين يدي الله جلَّت عظمته ، هؤلاء ، وإن لم يغفر لهم الناس إذا اطلعوا على سوء أعمالهم ، والناس غالباً أميل إلى التحكم والتجبر والقسوة ، وبالتالي لعدم الغفران . وشتان بين رحمة الله ورحمة الناس ، ولا قياس .
كان رسول الله (ص) يوماً يسير في صحابة له ، فشاهد امرأة تحمل طفلاً لها رضيعاً ، فاستوقف القوم وقال : أرأيتم إلى هذه المرأة وطفلها . قالوا نعم يا رسول الله . قال : هل هي ملقية ولدها في النار ؟ قالوا : طبعاً لا يا رسول الله . قال : فوالذي نفسي بيده ، لله أرحم بعبده المؤمن من هذه المرأة بطفلها .
وكل متكبِّر ٍ متجبِّر ٍ غضوبٌ . وقد ذم سبحانه المتكبرين المتجبرين الذين يجادلون في آيات الله ولا يعملون بها ، وأوعدهم جهنم . قال تبارك وتعالى :
{ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ . سورة غافر الآية 35 } .
ولقد نهى رسوله (ص) عن التجبر وعما فيـه مـن الكبر والغضب . وبنهيه رسوله نهى عن هذه الصفات الذميمة في البشر ، كلَّ مسلم ومسلمة . قال تبارك وتعالى مخاطباً محمّداً (ص) :
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ .. . سورة ق الآية 45 } .
لله وحده الكبرياء في السماوات والأرض ، وله الجبروت وحده ، ولو أنه سبحانه حمد من تخلق بأخلاق الله ، وأمر الناس بالرحمة والعدل والإحسان والغفران والرفق والعفو عند المقدرة . قال سبحانه :
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ . سورة الحشر الآية 23 } .
والناس بفطرتهم ينكرون على أي إنسان أن يكون جباراً غضوباً لا يرحم . لذلك قال الرجل الوثني لموسى عليه السلام لما غضب لنفسه وللذي من شيعته وأراد أن يبطش به :
{ .. إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأََرْضِ .. . سورة القصص الآية 19 } فكفَّ موسى عليه السلام عن غضبه ، واعتذر واستغفر ، فكان نموذجاً صالحاً وقدوة حسنة لكل من تنفعه الذكرى ولمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . قوله تعالى :
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ . وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ . فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ . وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ . وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ . يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ . إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ . يَوْمَ تَشَقَّقُ الأََرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ . سورة ق الآيات ( 37 ـ 45 ) }.
يبقى أن نذكر أنه من غضب لقيمة أو لمنقبة أو لشيمـة من الشيم من مثل كرامة الإنسان أو عرضه أو ملكه ، فقد غضب لله ، لأن هذه الأمور وشبيهاتها ، هي مما حفظه الله لعباده وأمر بالحفاظ عليه كحقوق شرعية مقدَّسة .
والحقيقة أن الله تعالى أمر بالحلم لأنه نقيض الغضب ، وحبَّب الحلم وكـرَّه الغضب . قال سبحانه يثني على نبيّه ورسوله إبراهيم عليه السلام :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . سورة هود الآية 75 } .
وقال سبحانه واصفاً الغلام الذي وعدهُ به بعد عمره الطويل وصبره الجميل ، بأنه غلام حليم ، مما يشعر بأن هذه الصفة هي من أعلى المناقب التي يتفرع منها الكثير من الصفات العالية والمكرمات ، على أن كلمة ” حليم ” هي من جهة ضد الغضب وهي في نفس الوقت ـ ما دامت كذلك ـ فهي تعني العقل والذكاء . قال تعالى :
{ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ . سورة الصافات الآية 101 } .
ورغم أن الحلم منقبة عالية كما أسلفنا ، إلا أنه في مواجهة ما يمسُّ حقوق الله الذاتية أو حقوق عباده الشخصية ، فجدير بالحلم أن ينقلب إلى غضب مقدس . وفي رأس حقوق العباد متداخلة في حق الله جلَّت عظمته ، حق الأمة ، حقها في الحفاظ عليها ، في إعلاء شأنها ، وفي حفظ دستورها القرآن والعمل به ، وفي نصرتها وقتال أعدائها بالغالي والنفيس .
كانت بين عليّ عليه السلام وبين معاوية ، خلافات تاريخية ليس أكبر منها حجماً بمقياس ما بين الحق والباطل ، فنكـل معاوية وغـدر وخـان ، وأعدَّ لحرب علي (ع) فوجد عليٌّ (ع) نفسه مكرهاً مضطراً يُعدُّ بالمقابل لحربه . وفي هذه الأثنـاء ، وردت أخبار ، أن ملك الروم ، يُعدُّ كذلك لغزو المسلمين في بلادهم فقال علي (ع) وهو في العراق ، وملك الروم يريد بلاد الشام حيث معاوية . قال عليه السلام ، والله لوصدق الخبر ، وصدق ابن الأصفر ، لوضعت يدي في يد معاوية ، لنقاتله جميعاً ، وإلاَّ توجهت بجيشي وحدي لقتاله . هذه غضبة لله مقدسة ، على مستوى الأمة .
عندما نزلت آيات أول سورة النور ، وفيها :
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِين . وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . سورة النور الآيات ( 6 ـ 7 ) } .
وتلا رسول الله (ص) الآيات ، وفي مجلسه صحابة وفيهم الأحنف بن قيس ، وكان مشهوراً بالعقل والحلم ، وكان يقصده شيـوخ القبائل في الجاهلية ، يتعلمون الحلم منه ، حتى بعث محمَّد (ص) فكان سيد الحلماء . ومع ذلك ظل العرب يضربون المثل بحلم الأحنف . قال أبو تمام يمدح المعتصم :
لك حكم لقمان وصورة يوسف في حلم أحنف في ذكاء إياسِ .
فهذا الأحنف الأستاذ في حلمه . لما سمع الآيات ، التي فيها لزوم الإشهاد على الزوجة إذا كانت تزني ، ولا شهود غير الزوج : قال وقد غضب : والله يا رسول الله لو رأيتهما بعينيَّ هاتين ، لقطَّعتهما بسيفي هذا إربا . فضجَّ المسلمون في المجلس : أتعترض على رسول الله وآيات الله . فأسكتهم محمّد (ص) وقال : أرأيتم إلى الأحنف ، فوالذي نفسي بيده ، إني لأشد غيرة من الأحنف ، والله عز وجل أشد غيرة مني ومن الأحنف على نساء المسلمين . وإنما في فهمكم للآيتين لبس . أو كما قال . وشرح لهم الأمر ، وموجزة أنه قد يلجأ أزواج من الرجال مرضى في شرفهم وقلوبهم وأخلاقهم ويتهمون أزواجاً لهم افتراءً عليهن وظلما . فيكون المخرج الشرعي الرائع في هكذا حال : الملاعنة كما حكم الله وأنزل وهو خير الحاكمين . أما ما قصده الأحنف فهو أن يراهما حقيقة بعينه فهذا شأن آخر، ويؤخذ فيه في الشريعة ـ بعد التحقق من صدقه ـ بأحكام أخر، ينصف فيها الزوج الغيور على عرضه .
وقبل الخلوص إلى الغاية من قولـه تبـارك وتعالـى :
{ إخلع نعليك } نذكِّر بأن انتفاء الحزن كلياً من الإنسان في جميع أطواره أمر يكاد يكون مستحيلا . ولو كان الخلاص منه دفعة واحدة ممكناً ، لتخلص من ذلك سيد البشر وأمير الأنبياء محمّد (ص) . ولأنه (ص) لم يستطع ، أوليس بالإمكان التخلص منه دفعياً ، رأينا أن الله تبارك وتعالى يكرر عليه الوصايا بالنهي عنه : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } { وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ .. } { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ ..} إلى غيرها من الآيات الكريمات .
وكذلك الخلاص من الغضب ، ليس من السهل أن يكون أمراً دفعياً . وإنما الله سبحانه أراد أن يكـون الخلاص منهمـا ـ أي الحزن والغضب ـ كما يبدو ، بالتدريج ، وبالرياضة الروحية ، وجعل ذلك أمراً تعبدياً ، يرجى من ذلك رضاه ووجهه الكريم .
وأما الغاية القصوى من أمر الله تبارك وتعالى في قوله :
{ إخلع نعليك } فنجدها في أول الآية وفي مجمـل الحكايـة ، ابتداءً من قوله تعالى : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } إلى قولـه : { .. فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } .
أما بداية الآية ، فقوله عزَّ وجل مخاطباً موسى ـ الذي سيكون رمزاً فيما بعد ـ: { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } ومهما قلنا في وقع هذا الخطاب وتأثيره على المخاطب ، ومدى فعلـه فيه ، في نفسه وروحه وعامة كيانه ، فكل لغات الأرض لا تستطيع أن تعبرِّ تعبيراً ولو شبه كامل عن عظمة الموقف وأبعاده في نفس موسى ( الرمز ) وفي روحه وكيانه .
وفي معاني { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } ما يمكن أن يقال . ففي قوله عز وعلا { أنِّي أنَا } أن فيها حصر ، في فقه اللغة ، لا تحتمل اللغة حصراً أقوى منه ، وبماذا ؟ بالربوبيـة . أي { أنَا رَبُّكَ } ولا ربَّ لك غيري في هذا الوجود ، وفوق هذا الوجود ، وحول هذا الوجود . وفيها الإشعار بالعظمة التي ليس فوقها ولا بعدها عظمة { إنِّي أنَا رَبُّكَ } رب الأكوان ورب الخلائق الذي لا إلـه إلاَّ هو . ففي سياق الآية ، في خطابه لموسى (ع) { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى . إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي . سورة طه الآيات ( 13 ـ 14 ) } . وفيها الإيناس والعطف والرحمة ، وكم كان بحـاجة إلى كل ذلك موسى ، والدليل على ذلك مؤانسته سبحانه له بسؤاله ، { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } وفيها ما لا ينتهي معه التأمل والتفكير ، بالعظمة والرحمة ، والجبروت والرأفة وبأسمائه الحسنى التي لا تحدُّ ولا تعدّ .
أما قوله تعالى : { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } بعد الذي ذكرناه عن معناهما ، فقد اصبحت واضحة الغاية القصوى من خلعهما ، وهي التهيئة لنيل مقام القرب من الله تبارك وتعالى وعزَّ وعلا . فبخلعهما يغدو كل شيء في الإنسان صافياً طاهراً صالحاً للتلقي ، لتلقي الوحي ، لتلقي الهداية ، لتلقي النور المقدس ، ثم النور الأقدس . ثم … ثم مقعد صدق في جوار الحبيب الأعظم في جوار الله جل جلاله ، وهنالك الأنبياء والشهداء والصديقون ، وهنالك عليّون وسدرة المنتهى .
لا يحمل خطابي غيري ولا يجيبني سواي :
ولعلَّ أجمل ما نقل عن موسى (ع) وخطاب الله له ، رواية عن الإمام الصادق عليه السلام ما يلي :
” قيل لموسى عليه السلام : كيف عرفت أن النداء هو نداء الحق ؟ فقال : لأنه أفناني وشملني ، وكأنَّ كل شعرة مني كانت مخاطباً من جميع الجهات ، وكأنها تعبِّر عن نفسها بجواب . فلما شملتني أنوار الهيبة ، وأحاطت بي أنوار العزة والجبروت ، علمت أني مخاطب من جهة الحق ، ولما كان أول الخطاب { إنِّي } ثم بعده { أنَا } ، علمت أنه ليس لأحد أن يخبر عن نفسه باللفظتين جميعاً متتابعاً إلاَّ الحق . فأُدهشت وكان هو محل الفناء ، فقلت : أنت أنت الذي لم تزل ولا تزال ، ليس لموسى معك مقام ، ولا له جرأة الكلام ، إلاَّ أن تبقيه ببقائك ، وتنعته بنعتك ، فتكون أنت المخاطِب ، والمخاطَب جميعاً . فقال لا يحمل خطابي غيري ، ولا يجيبني سواي ، وأنا المتكلِّم وأنا المكلَّم ، وأنت في الوسط شبح يقع بك محل الخطاب . “
دفاعاً عن معرفة الله :
هذه المنهجية التي ذكرناها منذ بداية بحثنا هذا ، في إصلاح النفس وترقيها وارتفاعها عن سفساف الدنيا ومطامعها ، وحتى عن المطامع في الآخرة ، وأن يعرف الإنسانُ الله لذاته ، ويعبده لذاته ويحبه لذاته سبحانه وتعالى عما يشركون . هذه المنهجية لا تخدم ” الأنا ” فحسب ، كما ادَّعى بعض الباحثين (1) من الذين كتبوا في علم نفس الفرد وعلم نفس الأمة (؟!) وإن كنا لمسنا في ما نقل عـن الإمام الصادق عليه السلام فيما سمـَّاه ” كتابا الصادق : حقائق التفسير القرآني ومصباح الشريعة ” فوائد جمة ، وكنوزاً من تأويل بعض الآيات المتفرقات ، والخروج بهذا التأويل عن حدِّيَّة الحروف والعبارات . إلاَّ أنه في مقدمة كتابه هذا ، يبدو تارة محكوماً بقوة اعتقاد العرفانيين والصوفيين ، وتارة يشن عليهم حملات لا هوادة فيها ، متهماً إياهم ، كما أسلفنا ، بالأنانية والرهبانية التي حرَّمها الإسلام حيث أنها تعتزل الناس والمجتمع . ونحن إذ نقدِّم نموذجاً من هجماته ، نذكِّر أننا إذا كنا لم ننقل من إيجابياته ، فلأننا محكومون تجاهه وتجاه أنفسنا بمضمون هذا الدعاء :
” اللهمَّ ما كان من خير فهو منك لا حمد لي فيه ، وما عملت من سوء فقد حذرتنيه لا عذر لي فيه ، اللهمَّ إني أعوذ بك أن أتكل على ما لا حمد لي فيه ، أو أن آمن مما لا عذر لي فيه”.
وعلى هذا الأساس ، هذه عيِّنة مما قاله في الصوفيين وأهل العرفان :
” المذهب الصوفي ، في ميدان القيم والجمال والمقدَّس ، مغرق في الذاتانية . وسبق أن شككنا في قدرته على أن يتعمم ، وعلى أن يقود المجتمع والمواطن ، وهو مذهب فرداني ، يدَّعي قدرته على تجاوز القانون الأخلاقي (؟!) والواجب والإلتزام الإجتماعي (؟!) . كما أننا لا نستطيع قبول مذهب في المقدس والجمال والفضيلة أو القيمة يكون تجاوزاً للإجتماعي وللأخلاقيِّ نفسه بحجة أن الإنسان [ الصوفي الفاضل ] يبني لنفسه مجتمعاً أو يشرِّع أخلاقاً وقيماً . “
ثم يتابع في الفقرة التي بعد هذه ، ويتعرض فيها للفلسفة العرفانية : ” إن في هذه الفلسفـة ما هو مضاد للمجتمع . ” … ( الفقرة الثالثة ص 45 ) .
والحقيقة في مقابل هذه الدعوى الظالمة ، نرى أكثر مَنْ كَتَبَ وحقق في تاريخ المعرفة الإلـهية والصوفية ، على أنهما استفادات من القرآن الكريم ، من عباراته وإشاراته وأسراره ، في آيات كثيرات ، بسط معانيها رسول الله محمّد (ص) للعامة ، وأظهر بواطنها لخاصته من أهل بيته وأصحابه ، على أن أكثر أسراره أودعهـا ابن عمه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر افتراءاته في كتابه ” حقائق التفسير القرآني ومصباح الشريعة” مؤسسة عز الدين ـ الطبعة الأولى 1413 هـ ـ 1993 م .
وصهره علياً بن أبي طالب بإرشادٍ وتفضل من الله تبارك وتعالى ، ولا يختلف المسلمون في صحة الحديث ، قوله (ص) : ” أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ” ولا يكادون يختلفون في قول علي (ع) ” علمني رسول الله من العلم ألف باب ينفتح لي من كل باب ألف باب .”
وكبار أهل العرفان وكبار الصوفيين . من الصادقين والصديقين ، ينسبون مناهجهم وسلوكهم الروحاني وتواصلهم الفكري ، بعلي بن أبي طالب عليه سلام الله ، تارة مباشرة ، وتارة ، وهو الأرجح ، عبر أبنائه وأحفاده وعامة أهل بيت النبوة عليهم السلام .
وعلى هذا الأساس ، إذا كان علي بن أبي طالب (ع) هو الرمز وهو القدوة للصوفية الحقة ولأهل العرفان الصديقين ، فمن ذا يجرؤ أن يقول أن علياً (ع) كان ذاتياً أو غير قيادي كأشرف وأنبل ما تكون القيادة للأمة وللمجتمع ؟ وهو قـد ملأ الدنيا ، في زمانه ، وشغل الناس ، وما يزال . وكذلك القول في أولاده الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية ، ولا سيما الحسين (ع) الذي ما زالت مواقفه في كربلاء ، تحرك الدنيا وتحرك الناس ، كلما هجعت الهمم ، واستبيحت الحقوق ، وهيمن الظلم ، واستبد طاغية ، وتغطرس عدو ، فيكفي أن تحدِّث عن الحسين وأهـل بيته وأصحابه ، في آثارهم الكربلائية ، لتلهب مشاعر أهل الإيمان ، وتنفخ فيهم روح النخوة والثورة وصدق العزيمة والتزاحم على الشهادة في سبيل الله .
ثم الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام ، الذي اخترق المجتمع الظالم الكابي في عهد بني أمية قتلة أبيه ، الذين تنكروا لله عزت عظمته ولكتاب الله المجيد ، وحوَّلوا الخلافة إلى ملك عضوض ، لا يميزه عن جوهر الوثنية والجاهلية إلاَّ الإسم الذي هو الإسلام وشكلياته من أذان وصلاة أفرغوها من قدسيتها وغالباً ما كانوا يؤمون الناس بها مخمورين . فالإمام زين العابدين عليه السلام اخترق هذا الترس الماجن المتكالب على جيف الدنيا ، باسلوب أدبي راقٍ ، مجدِّدا الدعوة إلى الله ، بأبهى حلة من القول ، وأزهى أسلوب ، وأروع مناجاة عرفها تاريخ الدعاء ، منذ مزامير النبي داوود عليه السلام وربما إلى قيام الساعة ، حتى إنه ليدعى بحق شاعر الله . حيث ترك للأمة الإسلامية ولجميع المؤمنين من شتى الملل ، تراثاً ، أو قل كنوزاً من الدعاء والإبتهال ، مشحونة بالروحانيات ، وبمفهوم التوحيـد الذي جعله محوراً أساساً لجميع أدعيته ومناجاته . مما ألف بين المؤمنين وجمع شملهم ، بعد أن كادت تعصف بهم رياح التفرقة والفساد ومكائد السلطان الغاشم .
وزين العابدين هذا ، عليه سلام الله ، كان من أبرع المؤسسين بعد جدّيه محمّد (ص) وعلي (ع) وأبيه الحسين(ع) لعلم العرفان أو فلسفـة العرفان ، أو المعـرفة الإلـهية ، في جميع شؤون الحياة ، الأخلاقية منها ، والإجتماعية بأنواعها ، وحتى السياسية . وحتى كلامه عليه السلام في أدعيته ومناجاته كان له ظاهر تفهمه العامة وتستسيغه وتأنس به ، وتصلح به عقيدتها وعامة سلوكها . وباطن تفهمه الخاصة ، من الذين تفضل الله عليهم بأنواع أسراره ، من السرِّ وسرِّ السرِّ والسرِّ المستسر . وهذا نموذج مما ترك هذا الإمام النبيل علي بن الحسين (ع) مما يعتبر مثالاً متقدماً رائعاً مما يتوصل إليه أهل العرفان بفضل الله وعنايته ورعايته ، قال شعراً :
إني لأكتم من علمي جواهره
كي لا يرى الحقَّ ذو جهلٍ فيفتتنا
وقد تقدمَ في هذا أبو حسـن ٍ
إلى الحسين ووصى قبله الحسنا
يا ربَّ جوهرِعلم ٍ لوأبوحُ به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنـا
ولاستحلَّ رجالٌ مسلمونَ دمي
يرَون أقبحَ ما يأتونـه حسنـا
*************
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
هل نرى الله .. للعلامة الطهراني
تناقضات في كتاب هل نرى الله :
===============
وما زالوا يذهبون بعيداً عن القرآن المجيد ، عن كلام الله الحي القيوم الذي لا إلـه إلاَّ هو ، إلى الفلسفة وعلم الكلام ، وكلاهما ما أنزل الله بهما من سلطان . بعد نزول التعاليم الإلـهية وختمها بالقرآن .
قال تبارك وتعالى :
{ .. قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ .. . سورة سبأ الآية 23 } .
وقال تبارك وتعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . سورة سبأ الآيات ( 31 ـ 33 ) } .
يلاحظ في هذه الأيام ( ونحن في القرن الخامس عشر من الهجرة المباركة والواحد والعشرين الميلادي ) هجمة على ما يسمى بعلم العرفان الإسلامي ، وهي هجمة بائسة ، باعتبارها أولاً ليس فيها من جديد يذكر ويتلاءَم مع ما أوصـل الله إليه العالم من العلم والكشوف والأعاجيب في خلقه ، وثانياً أنهم يستخرجون ما ينشرونه بغزارة ، وبطريقة تبدو فيها بقوة النزعة التجارية عند الناشرين ، وليس كما هو المفروض ، النزوع إلى معرفة الله أكثر فأكثر ، ومن مصادره الصافية والتي أصفاها على الإطلاق ، ذاته القدسية ، آمراً ناهياً ، مفهِّماً الخاصة ، معلماً العامة ، في قرآنه المجيد . بل يستخرجون هذا العلم مما تراكم في بطون الكتب والمجلدات القديمة من الفلسفة اليونانية والرومانية ، ومما تداخل في كل ذلك من علم الكلام مع الفلسفات القديمة مشرقية ومغربية .
أكتب هذا الآن ، وأنا خارج للتو من مطالعات مرهقة في مجلدات ” الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ” وبين يديَّ كتاب ” هل نرى الله ” للعلامة الطهراني .
ويبدو بوضوح أن الكتاب متأثر كمعظم الكتابات العرفانية ، بأنماط الفلسفة التي في الأسفار العقلية الأربعة ، كما أن هذه المجلدات من الأسفار متأثرة وبحدود قصوى بالفلسفات الدخيلة على الإسلام .
وكتاب [ ” هل نرى الله ” الطبعة الأولى ـ بيروت ـ 2001 ] انتشر انتشاراً سريعاً وملفتاً بين الشباب المتعشق لكل جديد عن الإسلام ، ولا سيما عن معرفة الله عزت عظمته . وقد نقله إليَّ أحد الطلبة الجامعيين ، وهو صديق محب لله تعالى ولدينه الحنيف ، معروف بالاتزان وعدم التعقيد ، وإنما بدا لي مع هذا الكتاب ، وبعد أن طالعه ، وفي وجهه وعينيه الكثير من علامات التعجب والإستفهام ، يخالطها مسحة من الخـوف والحيرة . وإذ اطلعت على الكتاب ، عرفت السبب وبطل مني العجب .
وقبل أن أبدأ بعرض ما يناقش في الكتاب ، أريد وبفضل منه تعالى وبإذنه ، أن أعرِّف عن نفسي هذه التي تفضل عليها ربي وأخرجها من الظلمات إلى النور ، وإلى نور على نور …
وحقيقة الأمر ، أن الله تبارك وتعالى جنَّبني فوضى التعلم من المعلمين غير الأصيلين ، وألجأني إليه وحده سبحانه مستقلاً عن الآخرين ، بعد أن جعلني على بينة من أمري ، مدخلاً إياي في منازل النور ، فيما يقال وفيما لا يقال . وقد ألمحت في بعض شرائح كتبي على بعض فضله ومننه وآلائه عليّ . وقد جنبني الإنفعال الغضبي ، وقواني في روحي ونفسي ، ليطلعني على الأرقى والأنقى من الحقائق ، نصاً وروحاً فيما يدور حول معرفته سبحانه ، وذلك في كتابيه العظيمين : القرآن والكون ، وبين القرآن والكون ، سنة خاتم النبيين محمَّد وآله الأطهار الميامين .
ومن أنواع قوتـه سبحانه التي قواني بها ، أن جنَبني ظلمات المعلمين غير المجتبين ، والخلاص من فوضى أتباعهم ومقلِّديهم ، تحت عناوين الفلاسفة والحكماء والمتكلمين . ليرفع بما يعلمني سبحانه من يشاء من عباده الصالحين ، من بؤر التقليد والعبث والإنحراف عن صراطه في داري الدنيا والآخرة .
وهذا نمط من اختلاف أراء وأقوال فلاسفة كبار وحكماء وعلماء كلام : فقد ورد في ” كتاب الحكمة المتعالية ” هذه العبارة : [ وكذلك الحال في أكثر التعريفات الحقيقية للأشياء كتعريف الحيوان بأنه الجسم الذي من شأنه أن يحسّ ويتحرك وتعريف الإنسان بأنه الحيوان الذي من شأنه أن يدرك الكليات أي يتعقل المعاني الكلية ويتصورها ] (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المجلد السادس ص 16 الطبعة الثالثة 1981 دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .
هذه التعريفات ، أصبحت من المضحكات للتلاميذ في الصفوف المتوسطة ، في عصرنا هذا ، عصر فلق الذرة . ومع ذلك ما زالت هي هي تدرَّس في حوزاتنا الدينية في مادة المنطق ، وهي في معظمها مأخوذة من منطق أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان ، أيام تعدّد الآلهة .
فاليوم أصبح بين الكتابين العظيمين : القرآن والكون ، كل شيء يحس ويتحرك . أما في القرآن المجيد ، قوله تبارك وتعالى :
1) ـ { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأََرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا . سورة الإسراء 44 } .
وقوله تبارك وتعالى :
2) ـ { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ . سورة النور الآية 41 } .
وقوله تبارك وتعالى :
3) ـ { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأََرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . سورة [ الحديد + الحشر + الصف ] الآية1}.
وقوله تبارك وتعالى :
4) ـ { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ . سورة الرعد الآية 13 } .
وقوله تبارك وتعالى :
5) ـ { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ . سورة ص الآية 18 } .
وقبل أن أتشرَّف بالإلفات إلى المضامين الحقيقية للآيات الكريمة ، أريد أن أثبت نماذج كذلك من المنطق الذي ما زال يدرَّس في الحوزات الدينية ، بعد أن أصبح معظم ما فيه في وادي القديم البالي ، وأصبح ما فتح وما يفتح الله تبارك وتعالى على عباده من العلم المتسارع المذهل في قمم عالية ، تفسِّر مغلقات القرآن وتفسِّرها مغلقات القرآن . ويبقى القرآن هو القول الفصل الذي ليس فوقه فوق دون منازع .
ورد في كتاب المنطق المفروض على طلبة العلوم الدينية ما يلي ، وذلك تحت عنوان الكليات الخمسة (1)(2) :
” وقد يسأل السائل عن الإنسان والفرس ….. والقرد( ما هي ؟)
” وقد يسأل السائل عن الإنسان فقط ….. ( ما هو ؟ )
” لاحظ أن الكليات هي المسؤول عنها هذه المرة ! فماذا تـرى
” ينبغي أن يكون الجواب عن كل من السؤالين ؟ ـ نقول : أما
” الأول فهو سؤال عن كليات مختلفة الحقائق ، فيجاب عنه بتمام
” الحقيقة المشتركة بينها ، وهو الجنس ، فتقول في المثال : ( حيوان)
” وأما الثاني ، فهو سؤال بما هو عن كلي واحد . وحق الجواب
” الصحيح الكامل أن نقول في المثال : (حيوان ناطق)”
وقبل هذا ص 79
” أنه إذا كان الإنسان يساوي الناطـق فإنَّ لا إنسـان يساوي لا ناطق ” .
ويلاحظ القارىء مدى التقارب بين هذا المنطق وبين نظرية دارون في النشوء والإرتقاء ، والتي ثار عليها هؤلاء العلماء ، واضعوا هذا المنطق ، لأنهم لم يرضوا أبداً أن يكون جدَّهم قرد وهم بهذا الجانب محقون . فكيف إذاً يناقضون أنفسهم بهذا الوضوح ؟
ثم إنهم يعارضون كتاب الله تبارك وتعالى ، فانظر كيف أخذهم منطق أرسطو وغيره من مناطقة وفلاسفة بعيداً جداً عن قرآنهم المجيد ، وهو بين أيديهم ، يتلونه ويقدسونه !!
وهكذا ففي منطقهم أن الإنسان والفرس والقرد ، حيوانات وأن الإنسان وحده حيوان ناطق .
بينما في القرآن الكريم ، الهدهد ، يخاطب سليمان (ع) ويتحداه { .. أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ . سورة النمل الآية 22 } . ويذهـب ويجـيء واعياً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب المنطق ـ تأليف العلامة المظفر . الطبعة الثالثـة ـ المجلـد (1ـ3) . مطبعة النعمان . النجف الأشرف . السنة 1388 هـ 1968م .
(2) ص 85 و 86 .
عاقلاً مفكراً ناطقاً كأحسن ما يكون النطق . وظاهر القرآن حجة على جميع خلقه ، وبعد الظاهر ، فليتأول ما يشاء المتأولون . وكذلك النملة إذ تخاطب قومها : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين . سورة النمل الآيات ( 18 ـ 19 ) } .
ويجب أن لا ننسى كذلك قوله تعالى :
{ قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ } و { فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ .. } و { وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ } .
وتحت عنوان : الفصل . ورد ما يلي :
” فإذا رأينا شبحاً من بعيد وعرفناأنه حيوان وجهلنا خصوصيته
” فبطبيعتنا نسأل ( إلى أن يقول ) والجواب عن الأول ( ناطق)
” وهو فصل الإنسان أو ( صاهل) وهو فصل الفرس . وعن
” الثاني ( حساس ) مثلاً وهو فصل الحيوان(1) . “
وفي مكان آخر من نفس الكتاب ، نكتفي بهذا النموذج من النماذج الكثيرة المفتونة بالفلسفة بعيداً عن النصوص الإلـهية ، من مثل أنه حتى الله لا يقدر أن يجمع النقيضين ، وقد عالجنا هذا الموضوع الخطير في كتابنا ( العقل الإسلامي ) وغيره وغيره كثير . يقول في صفحة 76 :
” ( نسبة التساوي ) : وتكون بين المفهـومين اللذين يشتـركان
” في تمام أفرادهمـا ، كالإنسـان والضاحـك ، فإن كل إنسان
ضاحك وكل ضاحك إنسان (2) .”
ثم في الصفحة 77 :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر ص 86 و 87 .
(2) نفس المصدر .
” (نسبة العموم والخصوص) وتكون بين المفهومين اللذين يصدق أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر وعلى غيره . ويقال للأول : ( الأعم مطلقاً ) ، وللثاني ( الأخص مطلقاً ) كالحيوان والإنسان والمعدن والفضة ، فكل ما صدق عليه الإنسان يصدق على الحيوان ولا عكس (1) .”
فقوله كل إنسان ضاحك وكل ضاحك إنسان ، صحيح في أن كل إنسان ضاحك ، وليس صحيحاً في كل ضاحك أنه إنسان ففي لغة العرب ، يقولون ضحكت الأرنب وضحكت الضبع أي حاضت ، وقد ورد ذلك في أشعارهم . هذا إلى جانب قولهم ضحكت المرأة أي حاضت . وقد فسَّروا قوله تعالى { .. فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ .. } أي حاضت (2) .
ويلاحظ في القسم الثاني من هذا النموذج تحت عنـوان ( نسبة العموم والخصوص ) ، وكذلك في بقية النماذج الآنفة ، مدى الإصرار على عدم الفصل بين الإنسان والحيوان . وعلى الإصرار في نفس الوقت على الفصل بين الإنسان والحيوان من جهة وبقية خلق الله من جهة ثانية ، فلماذا لا تكون الملائكة أناساً ـ بحكم هذا المنطق ـ وهي ناطقة ، ولماذا لا يكون الجن كذلك وهم ينطقون ويتكلمون ويسمعون القرآن ويبلغون قومهم بأفصح النطق وأبلغ الكلام . ولماذا لا يكون الطير وأنواع الحيوان كذلك أناساً وقد أثبت الله عز وجل كونها ذوات لغات أطلع عليها وأفهمها بعض أنبيائه عليهم السلام ، ولماذا لا تكون كذلك الأشياء أناساً بحكم هذا النطق ، وقد ثبت في كلام الله تبارك وتعالى وهو أصدق المصادر على الإطلاق ، وهو المعيار ، وفيه القول الفصل ، وقد ثبت فيه أن الأشياء تسبِّح مدركة واعية ناطقةً { .. كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ .. } كل في درجته من سُلَّم الخلق وبالتالي من سُلَّم الوعي والإدراك .
وكذلك كما رأينا في أحد نماذج كتاب المنطق الآنف الذكر قد حصر الإحساس في الحيوان قوله ص 87 : ” والثاني ( حساس ) مثلاً وهو فصل الحيوان . يريد بالفصل أن ما دون الحيوان من نبات وحجر وحديد وغير ذلك مما تعارفـوا علـى تسميتها بالجمادات أنها دون إحساس . وقد أثبت الله تعالى كذلك في القرآن الكريم أن الجمادات ، لها إرادة نسبية وحس نسبي لا يعلم مداه إلاَّ الله تبارك وتعالى ، قال سبحانه : { .. فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ .. سورة الكهف الآية 77 } وقال تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر .
(2) أنظر باب ضحك . لسـان العرب لابن منظور المجلد العاشـر ـ دار صادر ـ بيروت .
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . سورة فصلت الآية 11 } .
ولقد أثبت العلم لغة للنبات تحت ( بوقال ) زجاجي معزول عن الأصوات الخارجية ، وضع فيه جهازٌ للتسمع يلتقط ما تحت مستوى الصوت . وكانت المفاجأة : أن النبات يتكلم . ولغة أخرى ، عند حيوان البحر ذلك الذكي ، الدرفيل .
قال تبارك وتعالى : { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا . قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا . أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا . سورة الإسراء الآيات (49 ـ 51 ) } .
والحقيقة أن هذا تصوُّر مما يخطر في بال من يتأمل ، وقد قيل ( ساعة تأمل أفضل من سنة عبادة ) أن يصهر الإنسان في فرن حديد ، أو أناس كثيرون ، أو في أتون حجارة مما يصنع الكلس ، فلا يبقى من الإنسان خبر يذكر . ففي الحديد يصبح حديداً في سقف منزل أو في قطار … وفي الكلس كما يرى القارىء ، إما في عمران المنازل أو غير ذلك ، ثم التحدِّي في الآية { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ .. } { .. مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. } { .. مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } . و { عسى } القرآنية واجبة ليس فيها خلف ولا تردد .
كان الرد على عجب المتعجب في الماضي أصعب . أما اليوم ، فقد تبين بالعلم القطعي ، ، أن جميع المجسمات ذرية أو نووية ، ومنها هذا الإنسان وذلك الحديد أو الخشبة أو الحجر . وأن ذرات الحديـد بمضامينها من النوى والبروتونات والألكترونات إلخ … هي في حركة دائبة لا تتوقف ، حتى أنها لا تكف عن الإشعاع إلا عند درجة الصفر المطلـق ، أي 273،1 تحت الصفر في الميزان المئوي ( سنتيغراد ) .
أما في القرآن ، فهي إضافة إلى ذلك واعية تسبِّح بحمد ربها ، والناس لا يفقهون تسبيحها ، فإذا حصل الإمتزاج بين الإنسان وهو ذري ويبن الحديد أو أي شيء آخر سيكون ذرياً قطعاً ، فسيبقى الحديد على حديديته ، أو أي شيء على شيئيته ، وكذلك الإنسان على إنسانيته ، وكل صنـف في حدود شخصيتـه ، ووحده الله عزت عظمته ،
وحده القادر على الفصل بين الأجناس (1) وأوصافها ، وبكلمة كن فيكون .
ولا ننسينَّ أن المعَّول على الأنفس بعد الموت . فبمجرد أن يموت إنسان ، تفارق نفسه بدنه . فيلبسها الله بدناً كما يشاء عند بعثها ، قال تعالى :
{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سورة الأحقاف الآية 19 } وقال تبارك وتعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الزمر الآية 42 } .
فالأنفس يمسكها الله ويحفظها الله دون الأبدان التي تتحلل إلى عناصرها الأصلية ، أو يبقى بعضها محفوظاً مكرماً بإذنه تعالى وبحكمته ، حتى يقضي الله فيها قضاءه أو يرفعها إلى حيث يشاء ، كما رفع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام .
والأنفس لا يحتجزها حديد ولا حجر ولا أفران حامية . ويطلقها الله عندمـا يتوفاها ، أو يجعلها حيث يشاء في برزخها ، أو يرفعها إليه تبارك وتعالى ، وهو بكل شيء محيط وعلى كل شيء قدير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشحنات التي في أجزاء الذرة لا تولد ولا تموت ولكن تبقى محفوظة .
ويحسن بنا كذلك هنا ، أن نذكر كلمة موجزة عن أصغر شحنة كهربائية موجودة في الطبيعة . تلـك هـي التـي أسموهـا الكوارك : Les Quarks ، وإلى سنة 1936 كان يظن الفيزيائيون أن شحنة الألكترون هي الأصغر في الكون وأنها الشحنة الأوليَّة . وفي السنة 1936 اكتشف علماء الفيزياء أن النوترونات والبروتونات مكونة من عناصر Particules اعتبروها الأصغر في الوجود وسموها Quarks .
فتبين أن النوترون ليس هامداً أي Neutre كما كان متفقاً عليه عند الفيزيائيين .
عوداً إلى كتاب :
هل نرى الله ؟
يقول العلامة الطهراني في أول الكتاب تحت عنوان الله نور :
” قال الله الحكيم في كتابه الكريم :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسـْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُـورِهِ ( إلى منزل قربه ) مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة النور الآية 35 } ” .
وما بين هلالين بعد قوله تعالى : يهدي الله لنوره ، عبارة ( إلى منزل قربه ) هي تعليق من العلامة ، صحيح لا نقاش فيه .
إلاَّ أنه يتناقض مع قوله في الصفحة 11 حيث يقول بالحرف : ” إنَّ ذات الله سبحانه نور ” (*) .
وهذا ليس صحيحاً ، لأنه تشبيه واضح ، حيث يتبادر لذهن القارىء أو السامع وبالضرورة ، النور المألوف المتعارف لدى الناس . ثم ، وإن كان قصده كما سيظهر فيما بعد ، أنه نور غير الأنوار المعروفة ، فمهما أعطاه من صفات النورانية ، يبقى نوراً ، ولو كان بينه وبين بقية الأنوار مليارات الدرجات ، ومع ذلك يبقى متعارضاً مع قـول الله { .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. . سورة الشورى الآية 11 } وإن أدنى الأنوار المعروفة ، يوجد بينها وبين أرقى الأنوار المعروفة ، وأصفـى الأنوار المتخيلة ، وأسمى أنوار التجلي ، شبه ومماثلة . يقول تعالى : { .. وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا .. . سورة البقرة الآية 25 } سواء كان نوراً أو فاكهة أو أنواع الجمال المادي والمعنوي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) أنظر صورة ً للصفحة التي فيها العبارة وكذلك صوراً لبعض الصفحات ذات العلاقة آخر كتابنا هذا .
وفوق النور المجلِّي للنور وغير النور ، لا بدَّ أن يكون شيء أرقى من النور ، وأبهى وأجمل من أجمل الأنوار ، هو مرصود في قوله تبارك وتعالى :
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ . سورة السجدة الآية 17 } .
فإذا كانت ألوان الجمال وروائع المشاهد والسعادات ، في الآخرة ، هي في واقع خفاء قبل قيام الساعة على جميع ما خلق الله من أنفس في السماوات والأرض ، حتى نفوس الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين ، فمن الأكثر بداهة أن تكون ذات الله تبارك وتعالى هي أخفى وأخفى على جميع خلقه . قال تعالى في كتابه الكريم { ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ . لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . سورة الأنعام الآيات ( 102 ـ 103 ) } .
وقال جلَّت عظمته في قضية موسى (ع) وطلبه أن يرى الله سبحانه :
{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ . سورة الأعراف الآية 143 } .
ومعلوم عند أهل اللغة أن لفظة { لَنْ } في قوله تعالى : { لن تراني } هي للنفي القطعي . فالمعنى لن تراني إطلاقاً ، لا على الحقيقة المجـردة ولا حتى بتجلي الذات . لأن تجلي الذات ، كما رأينا في الآية ، يدمِّر الجبل ويسويـه بالأرض الصحراوية ، أي يفقده جبليته ، ولو كان تجلي الذات لإنسان ، لأفناه وأفقده بشريته . والذي صعق موسى ليس تجلِّي الذات الإلـهية ، وإنما الرهبة من تدمير الجبل وجعله قاعاً صفصفاً .
فكيف كان تجلِّي الله بذاته ، حتى جعل الجبل دكا ؟ فهل كان بقوة ذرية أو هيدروجينية أو نيوترونية أو أية طاقة هائلة مما ركبه الإنسان وأخرجه من المادة ؟ فإذا كان ذلك ، صحَّ أن نقول إنه تعالى نور في ذاته ، أي طاقة مميزة رهيبة ، فوق الأنوار المعروفة ، كما يقول أصحاب هذا الزعم . ولكن هل يملك أي نور متخيَّل أو متصور ، هل يملك أن يكون عاقلاً وعادلاً وخلاقاً وخيراً محضاً ، ورحماناً ورحيماً ، وحليماً وكريماً، وحنَّاناً ومنَّاناً ، ومبدعاً السماوات وأفلاكها ، ونظام الذرة مكبَّراً في النظام الشمسي ، موسَّعاً في أنظمة المجرات ، متعالياً في نظام السماوات ، متحجباً بحجب الجمال وحجب النور ، فعَّالاً لما يريد ، يقول للشيء كن فيكون ؟! …
هل صحيح أن كل ما هو موجود هو الله ؟!
ورد في الكتاب المذكور ” هل نرى الله ” في الصفحة 13 السطر الرابع هذه العبارة : ” كل ما هو موجود هو الله . “
ثم في الصفحة 18 ، ابتداءً من السطر الثامن ، يقـول :
” لقد خلقنا الله عز وجل في أحسن تقويم ، وأودع فينا من جميع الأسماء الحسنى والصفـات العليا وجعل أنفسنا من الهيولى .”
ثم يتابع في نفس السياق : ” ولم يجعل لنا حداً ولا حدوداً من جهة الإستعداد والقدرة على التقدم والتكامل والإرتقاء في سلَّم اليقين والوصول إلى العرفان والتوحيد ، والفناء في ذات الله المقدسة . ” .
ثم يوقع نفسه في تناقض شديد ، حيث يستشهد بالتتابع بهذه الآيات الثلاث ، ص 48 :
{ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ .. }
{ .. فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }.
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
فبعدما ثبت أن الشك في وجود الإنسان العياني ووجود عامة المخلوقات والأشياء ، سفه وسفسطة ، وأن الأدلة عن الوجود العياني لأفراد الكون ، لا تنتهي إبصاراً وإحساساً ومعاناة ، ما كنا مضطرين لإثبات ما هو ثابت ، وما هو موجود بديهة وعقلاً وشرعاً ، لولا أن بعض الكتاب والمتكلمين نفوا وجود الإنسان ووجود الحيوان ووجود عامة الموجودات جملة وتفصيلاً ، واعتبروا أنَّ ” كل ما هو موجود هو الله ” وهي العبارة التي أشرنا إليها في الكتاب المنوه عنه ، وغيره من الكتب الفلسفية الدخيلة على تعاليم الله ورسله وأوليائه الصالحين .
ولو كانت هذه الكتب تزين بعض مقولاتها بين الحين والآخر ، بآيات من القرآن الكريم ، والقرآن كلام الله ، والفلسفة منطق المخلوقين .
ولنقارن بين هذه المقولة :
” كل ما هو موجود هو الله “
وبين قوله تبارك وتعالى :
{ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ..}
فإذا كان ” كل موجود هو الله ” فإن كل موجود تدركه الأبصار أي ببساطة هي تراه بحدوده الظاهرة ، وقد تفصِّله تفصيلاً دقيقاً ، الإنسان يرى الحيوان ويصنِّفه فصائل ، ويدرسه ، حتى أن الإنسان يدرس طبائع الحيوان من الحشرة ، بل من الخلية البسيطة المفردة في مياه البحار إلى الفيل وفرس النهر ، والحيوان يرى الإنسان ويألفه ويعطيه مما أودع الله فيه من منافع ، أو يستوحش منه ويظل بعيداً عنه في بحاره وأنهاره أو براريه وأجوائه . وكلا هذين المخلوقين يعرفان حدودهما وحدود الصخرة والشجرة والماء والهواء وطيب الطعام وخبيثه، فيقبلان على الأول ويجتنبان الآخر ، فإذا كان كل فرد من أفراد الإنسان أو الحيوان أو الأشياء هو الله ، فكيف يقول الله تعالى أنه { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ .. } وهذه آية في كتاب الله { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . سورة فصلت الآيات ( 41 ـ 42 ) } .
وهؤلاء الفلاسفة لا يريدون قطعاً ، أن يردُّوا القول على الله ، ولا أن يشككوا في كتابه المجيد ، ولكن تُغويهم الفلسفة وشياطين الفلسفة ، وتشطح بهم بعيداً عن الحقائق الإلـهية فيقعون في الأوهام ويحسبون أنهم يحسنون صنعا .
ولو كانت الفلسفة حقاً ، لما تناقض الفلاسفة وخطَّأ بعضهم بعضاً وانقسموا إلى أكثر من فرقة ، حتى طلع عليهم وما زال يطلُع من الملهمين ، من يطعن بأصل الفلسفة ، فيرمونها تارة بالسفسطة وتارة بالتهافت وتارة بأنها جنت على جوهر الإسلام أكثر مما جنته حملات الغزو البربرية .
وهذا نموذج من اختلاف الفلاسفة ، وتعدُّد آرائهم وتناقضها حول الحقيقة الواحدة :
فقد ورد في كتـاب ” الحكمة المتعاليـة في الأسفار العقلية الأربعة ” وتحت عنوان (1) : ” في ذكر اختلاف الناس في تحقق الجوهر الجسماني ونحو وجوده الذي يخصه .” ما يلي :
” فمن قائلٍ من زعم أنه مركب من ذوات أوضاع جوهرية غير منقسمة أصلاً لا وهماً ولا فرضاً ولا قطعاً ولا كسراً ، وهؤلاء أيضاً تشعبوا إلى قائل بعدم تناهي الجواهر الفردة في كل جسم حتى الخردلة وهو النظَّام من المعتزلة وأصحابه .
وقائلٍ إلى تناهيها وهم جمهور المتكلمين .
ومن قائل أنه متصل في نفسه .
فمن هؤلاء من ذهب إلى أنه يقبل الإنقسام بأقسامه لا إلى نهاية وهم جمهور الحكماء .
ومنهم من ذهب إلى أنه يقبل عدداً متناهياً ثم يؤدي إلى ما لا ينقسم أصلاً ، وهو صاحب كتاب الملل والنحل .
ومنهم من ذهب إلى أنه لا يقبل من الإنقسام إلاَّ ما سوى الخارجي أعني الفك أو القطع لكون الجسم المفرد عنده صغيراً صلباً لا يقبل شيئاً منهما لصغره وصلابته وهو ذيمقراطيس من الفلاسفة المتقدمين .
والقائل بانقسامه لا إلى نهاية افترقوا ثلاث فرق ففرقة ذهبت إلى أنه جوهر بسيط هو الممتد في الجهات المتصل بنفسه اتصالاً مقدارياً جوهرياً قائماً بذاته وهو رأي أفلاطون الإلـهي كما هو المشهور ومذهب شيعته المشهورين بالرواقيين ومن يحذو حذوهم وسلك منهاجهم كالشيخ الشهيد والحكيم السعيد شهاب الدين = يحي السهروردي في كتاب حكمة الإشراق. وفرقة إلى أنه جوهر مركب من جوهرين أحدهما صورة الاتصال والآخر الجوهر القابل لها وهم أصحاب المعلم الأول ومن يحذو حذوهم من حكماء الإسلام كالشيخين أبي نصـر ( يعني الفارابي ) وأبي علي ( يعني ابن سينا ) . وفرقة إلى أنه مركب لكن من جوهر قابل وعرض هو الاتصال المقداري وهو ما ذهب إليه الشيخ الإلـهي في كتاب التلويحات اللوحية والعرشية وقد شنَّع عليه بعض الناظرين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المجلد الخامس ص 16 و 17 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت . الطبعة الثالثة 1981.
في كتبه لما وجد تناقضاً بين كلاميه في هذين الكتابين حيث حكم ببساطة الجسم وجوهرية المقدار في أحدهما واختار أنه مركب من جوهر سمَّاه هيولى وعرض هو المقدار بناءً على تجويزه تركب نوع واحد طبيعي من جوهر وعرض وبين الكلامين مخالفة بحسب الظاهر”. انتهى كلام الحكيم الإلـهي صدر الدين الشيرازي مؤلف الكتاب .
وما دام للفلسفة ، نفس قواعد المنطق والمصطلحات ، وطرق الاستنتاج والاستقراء ، التي تؤسس عليها وتنطلق منها ، فلماذا إذاً يتفرق أصحابها هذا التفرق المنكر ، حتى انقسموا إلى فلاسفة ماديين ملاحدة ، وآخرين مؤمنين إلـهيين . ثم انقسم الماديون وتفرق الإلـهيون ، بين مليين أتباع كتب منزلة ، وأتباع كتب غير منزلة … إلى أن تلملمت فلسفة ، فيها الكثير من أفكار الفلاسفة الإغريق مثل أرسطو وديمقراطيس وأفلاطون الإلـهي وغيرهم ، وأُلبست ثياباً إسلامية مطرزة ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ثم سميت فلسفة إسلامية .
وهذه الفلسفة الإسلامية ، كذلك ، دهيت بمزاعم منكرة ، كان من شأنها أن تنحرف بكل من يطلع عليها عن مضمون الإسلام ، إلاَّ من تحصن بربه جلَّت عظمته ، وبدينه الحنيف ، ومن أخطر هذه المزاعم ، أن الدين بفرائضه وعباداته المرسومة ، إنما وضع للعامة وليس للخاصة ، لأن الغاية من الدين ، هي أن يكون الإنسـان مهذباً خلوقاً مستقيماً ، والعامة وحدهم بحاجة إلى هذه الصفات لأنهم جهلة ، أما أهل الخاصة فهم مثقفون متعلمون متحصنون بتربية صالحة وخلق قويم .
هذه المزاعم ، أدت بأكثر من اطلع عليها ، سواء كان مثقفاً أو غير مثقف ، إلى أن يعتبر نفسه . هو كذلك من أهل الخاصة ، فيتحلل من الفرائض والعبادات .
هذا نور ما يُرى ! فأين نور ما لا يُرى ؟
في كتاب ” هل نرى الله ” وفي أكثر من مكان فيه ، أمر يعتبر اليوم بديهة لأنها يساندها العلم ، وهي أن الأشياء وعامة الموجودات ، إنما ترى بواسطة النور أو الضوء الذي يحيط بها أو ينبعث منها ، كما ثبت أنه حتى في الليل الدامس ، وحتى في درجات الحرارة المتدنية جداً ، تنبعث من الأجسام أشعة تكشفها لبعض المناظير الخاصة ، والتي أصبحت من جملة أسلحة الحرب والقتال في الأجواء المعتمة .
والعلم اليوم يقول إن الفضاء الذي تسبح فيه سفن الفضاء ، هو في حقيقته كالحد الفاصل بين نواة الذرة وألكتروناتها ، وأن الحد الفاصل بين نواة الذرة والألكترونات ، هو في حقيقته كالحد الفاصل بين الشمس والكواكب السيارة . وهذه الفاصلة سواء كانت في الوحـدة الذرية أم وجدت بين الشمس وبين الأرض أو الزهرة أو المريخ وغيره من الأجرام ، هي جزء من المادة . والدليل على ذلك أن الجاذبية تمر فيها ، وقوة الجاذبية لا تنفصل عن المادة ، ولا تنفصل المادة عنها .
وقد تعلمنا في الكيمياء أن الذرَّة لها عدة مستويات من الطاقة ، وأن كل مرة يمر فيها الألكتـرون من مستـوى طاقـة إلى مستـوى طاقة أدنى ، يسبِّـب موجـة ألكتروـ مغناطيسية .
هذه الموجات Les ondes electromagnetiques ، بعكس الموجات الميكانيكية ، لا تحتاج إلى وسط معدني لتنتشر فيه ، إذ بإمكانها أن تعبر الفراغ ، أي تنتشر في الفراغ ، وبنفس سرعة الضوء التي هي 300,000 كلم /ث . هذه السرعة ليست هي ذاتها في أوساط كثيفة أخرى .
ومما لا ريب فيه أن الجاذبية ليست أشعة . ومن المناسب هنا أن نذكر المغناطيس لنقول كلاماً موجزاً فيه ، وعن بعض الحقائق المعاصرة حوله .
ـ أصل المغنطة هي في مادة اللوديستون ، وأكثر ما توجد في معدن الحديد .
ـ المغناطيسية المتوازية في المواد غير المعدنية ، تتميـز بتبعية درجة الحرارة . ذلك بأن العزم المغناطيسي ، ينخفض مع ارتفاع درجة الحرارة ، ويزيد بانخفاضها . هذه النتيجة تجعل الصعوبة متزايدة في الإنتفاع من العزم المغناطيسي .
إضافة إلى ذلك فإن المواد المعدنية عندما تسخَّن ، تفقد صفاتها المغناطيسية كلياً في النهاية . هذه الخسارة تصبح كاملة فوق درجة حرارة كيوري ـ سميت باسم العالم الفرنسي بيار كيوري . درجة حرارة كيوري للحديد هي حوالي : 770 سنتغراد . وقد ثبت أن للمغنطة في المواد الصلبة ترتيبات أكثر تعقيداً . وفي المادة بشكل عام ( أي في الكون جملة وتفصيلاً ) يوجد نوعان من الأيونات الحديدية ، كل نوع منهما بعزم مغناطيسي مختلف .
هذه التغيرات الحادة في الطاقة والمادة ، تطعن بقوة في زعم من يزعم ” أن كل ما هو موجود هو الله ” .
فلا قوى الجاذبية التي بين الذرة والكتروناتها ولا التي بين الشمس والكواكب وبالعكس ، هي الله ، وهي لا من الضوء ولا من النور ، ولا الجاذبية في كل أنحاء الكون هي الله ، لأنها تتغير، تضعف وتقوى على كل كوكب على حدة ، وبين الأجرام السماوية عامة ، إذ تضعف حتى يظن أنها انعدمت ، وتقوى حتى ليصبح وزن الإنسان الذي على الأرض سبعون كيلوغراماً ، يغدو وزنه الآف الأطنان . يعني مغروساً كجبل من الهم ، على قلب ودماغ إنسان نتخيله معتقلاً معاقباً في مكان هائل الجاذبية من هذا الكون . بينما هو يصبح على القمر مثلاً حوالي إثني عشر كيلوغراماً .
ولا الموجات الممغنطة التي تحدثنا عنها ، والتي يسببها قفز الألكترونات بأعدادها اللامتناهية ، هي الله ، لأنها تسرع في الفراغ ( 300,000 كلم/ث ) وتبطىء في غيره حسب كثافة المادة .
ولا المغناطيس هو الله ، لأنه كما رأينا ، تعدمه الحرارة العالية ، وهو ينتشر في المادة بشكل عام ، بعزم مختلف متفاوت ضعفاً وقوة .
ثم إن هذه الموجودات التي ذكرناها ، والتي هندسها الله بقدرته التي لا تحاول ولا تطاول ، وبحساباتـه المعجزة ، والتي تكاد تكون ممسكة بمادة الكون ، بإذنه تعالى وبتدبيره ، من الجاذبية إلى الموجات الممغنطة الألكترونية إلى المغناطيس وأشباهها ، إلى الإنسان الذكر والأنثى ، والأسود والأبيض .. والطفل والشاب والهرم ، الذي يولد ويتنامى ويموت . ويضحك ويبكي ، ويسعد ويتألم ، وتعتوره الأمراض والتحولات النفسية ، إما صاعداً وإما هابطاً ، وإما متأرجحاً بين الصعود والهبوط ، وباختصار شديد ، أوله نطفة وآخره جيفة . فكيف يتجرأ المتجرئون على القول إن هذا الإنسان هو الله ؟! …
كل شيء يتغير ويتحول باتجاه أن يموت ويفنى ، الحيوان والنبات والجمادات . حتى الحديد الذي فيه بأس شديد ، يصدأ ويتآكل ، وكذلك جميع المعادن . { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ . سورة الرحمن الآيات ( 26 ـ 27 ) } هذا قول الله تبارك وتعالى { .. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاَ . سورة النساء الآية 122 } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا . سورة النساء الآية 87 } . فكيف يذهبون بعيداً عن تعليم الله في قرآنه الكريم ، ويزعمون خلاف الحقيقة الناصعـة ، التي هي وحدانيته وفردانيته وصمديته ، فيقولون بدون أي خوف ولا وجل ” إن كل ما هو موجود هو الله ” والله تبارك وتعالى يخاطبهم معلناً غيريته عن خلقه وتعاليه وعزته وعظمته وكبرياءه ، وأنهم هم المخلوقون وهو الخالق لهم وللسماوات وللأرض وما فيهن وما بينهن قائلاً جلَّت عظمته :
{ مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا . أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا . وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا . سورة نوح الآيات ( 13 ـ 16) } .
وقوله جلَّ جلاله الذي نختم به ردَّنا على مقولة ” إن كل موجود هو الله ” حيث لا تنتهي الأدلة على غيريته عن خلقه :
{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . سورة الجاثية الآيات ( 36 ـ 37 ) } .
ثم نعود إلى موضوعنا : هذا نور ما يرى فأين نور ما لا يرى ؟! فنقول رداً على دعواهم أن الله تعالى هو في ذاته نور، وأن كل شيء لكي يكون موجوداً ينبغي أن يكون إما منيراً بذاته أو أن يكون مضـاء بالنور . نقول إن الله تبارك وتعالى خلق الكهرباء ، وقد ظلت كامنة لا يرى لها نور ولا تُرى هي في نور ، ظلت كذلك فاعلة عاملة في نواحي الكون ، ظلت من جملة القوى الهائلة العجيبة التي يحفظ الله بها وبقوى أخرى هائلة وعجيبة ، كما ألمحنا ، يحفظ ويدير بها ويدبِّر خلقه وممالكه ، حتى شاء لحكمة منه أن يظهرها في عصر ٍ كان في علمه وتدبيره عصر إظهارها ، فقيض لها رجلاً اسمه أديسون فكشف عنها النقاب والحجاب الأول ، ثم توالى بعده كشف الحجب عن أعاجيبها وأسرارها لتاريخه .
يحكى أنه يوم اكتشف أديسون الكهرباء ، وأقام الدنيا وأقعدها أو أنها لم تقعد بعد ، بسبب هذه الثورة العلمية التي غيرت وجه التاريخ . وحرَّك الله بمشيئته بها المصانع والمعامل وشتى أنواع المحركات والقطارات … وأضاءَ بها ليالي هذه الأرض .
حصلت إحدى الصحفيات الناشطات بعد انتظار على موعد مع صاحب هذا الحظ العظيم أديسون ، فزارته في معمله ، وأطلعها على أول محرك صنعه ليديره بقوة ضغط الماء ، وأكثر ما أدهشها أن أمسك بسلكين معدنيين مغلَّفين ، لا يظهر عليهما ولا فيهما أية حركة ولا حرارة ولا ضوء ، فيصلهما بقنديل كان مما جهزه ، فيضيء بسرعة وبدون عود ثقاب أو ما شابه . ثم يصلهما بقطعة معدن على فخَّارة فتحمرَّ وتصبح كالجمرة تتوهج بحرارة شديدة . هنا كان لا بدَّ أن تسأل عن الشيء أو عن القوة التي تلد أو تولِّد هذا الضوء وهذه النار الحامية . وهي لم تشاهد إلاَّ محركاً وسلكين نحاسيين بين يديه . هو يومها احتار في الإجابة . وجلَّ ما قـال ، ما كان يعرفه ، أن هذه القوة هي التيار الكهربائي . Le courant electrique . قالت عرفت الإسم ولكن ما هو كنه وحقيقة التيار الكهربائي ، فإني أريد أن أشرح لقرائي ، وحيث أنه لم يكن يومذاك يعلم الكثير من الحقائق حول التيار ، طلب إليها أن تجلس على كرسي معدني كان في الغرفة ، ثم التفَّ وعقد الشريطين بناحية من الكرسي وضغط على الزر المتصل بهما ، فقفزت هي عن الكرسي وقد قذفها التيار الكهربائـي الخفيف ، فنظرت إلى أديسون وهي خائفة شاحبة اللون . فتبسم وقال : سيدتي هذا هو التيار الكهربائي ، فحدثي عنه قراءَك كيف تشائين .
فذات التيار وكنهه وكينونته هي غير ما يلد من آثار النور أو الضوء والحرارة . هذه من جهة ومن جهة ثانية ، فإن الخلق غير الولادة . فأن نقول إن الإنسان خلق السيارة أو الطائرة بما علمه الله تعالى من قوانين وأسرار عن الطاقة والميكانيك ، هذا غير أن نقول إن الإنسان ولد السيارة . وبهذا التقريب نفهم كم هو الإنسان أعظم وأسمى وأجمل وأعلم بما لا يقاس من السيارة والطائرة والكمبيوتر وغير ذلك من المدهشات التي أتاحها الله تعالى لخلقه .
وبنفس هذا التقريب كذلك ، ينبغي أن نفهم أن كل موجود خلقه الله ، هو غير الله ، من أعلى درجات النور الخفي الذي يظهر للعارفين بالله من أهل خاصته ، بالتجلي ، أو الإشهاد ، أو أعلى درجات النور المعروف تحت السماء الدنيا ، وحتى ولو بالتخيل أو بالتصور ، إلى آخر ما خلق سبحانه من أشياء في الأرض أو في السماوات مما يعقل ومما لا يعقل ، ومما يرى ومما لا يرى . سواء كان في النور الساطع ، أو في الظلام الدامس ، أو في غيب من غيوب علام الغيوب .
وهنا يجب أن يستوقفنا جمال وجلال وعمق قوله تبارك وتعالى :
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }
هذا هو القول الفصل والحقيقة الحاسمة . وفيها أن خلقه للموجودات ، غير صدورها كأجزاء من ذاته القدسية ، وهـو : { ليس كمثلـه شـيء } جـلَّ عـن ذلك { وسبحانه وتعالى عما يصفون } وأنه أجمل وأجل وأسمى وأعلى بدون قياس . { له المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . } المثل الأعلى الذي ليس مثله مثيل ، وليس فوقه فوق .
ولنبق قليلاً مع بعض أسرار الله تبارك وتعالى ، في هذه الطاقة المتنوعة العجيبة : الكهرباء ، ونحن ما زلنا تحت عنوان : هذا نور ما يرى فأين نور ما لا يرى ؟
فأنت تدخل إلى بيتك ، وقناديل الكهرباء مطفأة . وإنما تسمع الغسالة الأوتوماتيكية تعمل سواءً أظهرها نور النهار أو غمرها ظلام الليل ، وكذلك المروحة ، وكذلك المصعد الكهربائي ، وكل أدوات الكهرباء التي ليست بحاجة إلى أن يظهرها النور ، ولا هي بحاجة إلى أن تُظهر النور .
ثم أين أنوار الملائكة يروحون ويجيئون بيننا في النهار وفي الليل . ما نراهم إلاَّ بآثار تصدر عنهم ، إذا شاء الله لأحد أن يشعر بهذه الآثار ، أو إذا شاء تبارك وتعالى أن يريهم لأحد متمثلين أو متشكلين بأشخاص قوله تعالى { فتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَويا } أو الملائكة الذين أتوا إبراهيم (ع) وجاءَهم بطعام ، وهم طبعاً لا يأكلون ، فانتبه إلى أن أيديهم لا تصل إلى الطعام ، قال تعالى : { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ..} ، وهكذا فإنه لا إبراهيم (ع) ولا أحد غيره تمكنه رؤيتهم إلاَّ برحمة من الله لمن يشاء من عباده .
فأين نـور ما لا يُرى في العـادة ، ولماذا لا يظهـره النور ؟!…
قال تبارك وتعالى :
{ يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ . سورة النحل الآية 2 } .
والملائكة موجودون ، والله ينزلهم ، كما هو يقول سبحانه ، على من يشاء من عباده ، وهو يحملهم هذه الرسالة الواضحة : أنه لا إلـه إلاَّ هو سبحانه ، فلا الملائكة هم الله ولا أي مخلوق في الأرض أو السماوات هو الله ، لأنه لا إلـه إلا هو ، فسبحانه عما يشركون .
وصفوة القول ، أن هذه القوى الهائلة ، والتي يحكم الله بها وبغيرها الأكوان والخلائق ، من مثل الجاذبية إلى المغناطيس إلى الكهرباء ، إلى النظم الألكترونية ، والتي ليست بحاجة إلى أن يظهرها الضوء أو تخفيها العتمة وهي تعمل دائبة ما قامت السماوات والأرض . وتدرك آثارها فيزيائياً وكيميائياً بالحسابات العلمية الدقيقة ، التي علمها ويعلمها الله تعالى لمن يشاء من عباده . هذه القوى ليست هي الله تبارك وتعالى ، وهي موجودة ، وإنما هي كما قدمنا ، من جملة آياته الكبرى وأعاجيب خلقه ، الدالة على وحدانيته وفردانيته وغيريته وتعاليه عن جميع أصناف خلقه . ولو كان هو الرؤوف الودود ، والحليم الكريم ، والرحمن الرحيم .
ثم لننظر نظرة ثانية وثالثة ، في رحاب قوله تبارك وتعالى :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار. لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ . سورة النور الآية 35 } .
والملاحظ بوضوح مدى استعمال المعاني المجازية ، متداخلة بالمعاني الحقيقية ، ليدل سبحانه عن نور خصوصي هو ضمن النور العمومي الذي يغمر الأكوان ، وأن هذا النور المصفَّى من مشكاة المصباح لزجاجة من الدرِّ ، في مقابل الأنوار التي تنعكس من الأجرام الترابية أو الصخرية ، كما في الكواكب السيارة ومنها الأرض والقمر ، أو في عامة الأجسام التي هي أدنى جوهراً من الدرِّ . ليختص بهذا النور الأصفى والأسنى والذي هو كذلك نوره سبحانه ، ليختص به رجالاً وقلوب رجال ٍ في بيوت أذن الله أن ترفع ـ سواء كانت مساجد أو بيوتاً عادية أو أبدان أناس هي بيوت أنفسهم ـ وشيمة هؤلاء الناس أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة لله وإيتاء الزكواة قربة إلى الله … يعني أناس متفرغون لخدمة الله وخدمة دينه وعبادته والجهادين الأكبر وهو جهاد النفس والأصغر وهو جهاد أعدائه سبحانه . لا يريدون من الدنيا مكاسب تجارتها ولا إغراءات زينتها ، وحسبهم من ربهم الحبيب الكفاية ورضاه وحبه الذي يكمل لهم به خير الدنيا والآخرة .
هذه البيوت النادرة المنوَّرة بالنور الخاص ، ليست كبقية بيوت غير الموحدين العارفين بالله سبحانه ، وهؤلاء الرجال النادرون الذين تفضل عليهم ربهم الكريم ، الغفور الودود ، واختص قلوبهم بتجلي أسمائه بنوره الأسنى ، وبتجليات نورانية لها صفاتها المميزة جداً ، ولها درجاتها عنده جلَّت عظمته ، هؤلاء الرجـال هم أهل العرفان بالله تعالى ، سواء كانوا كمَّلاً ، أو كانوا ما زالوا في السالكين ، برعاية أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .
وعلى كثرة آيات النور التي يتداخل فيها المجاز بالحقيقة ، أو التي تعني المعنى الحقيقي لكلمة نور ، أو التي تعني المعنى المجازي ، نختار آية لكل حالة ، نكتفي بها اعتماداً على نورانية القارىء إن شاء الله . فبالنسبة للمعنى الأول المتداخل قوله تعالى :
{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . سورة البقرة الآية 257 } .
ومثالاً على المعنى الحقيقي ، قوله تبارك وتعالى :
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ . سورة البقرة الآية 17 } .
وعن المعنى المجازي ، قوله عز شأنه :
{ .. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ . سورة الأعراف الآية 157 } .
كلمة عن إيجابيات كتاب ” هل نرى الله “
لا بدَّ من كلمة للإنصاف ، ولمكانة العلامة الطهراني في أهل العرفان بشكل عام ، نشير فيها ، إلى أن أكثر العرفانيين ، على قدسية منازلهم من حيث السلوك صعداً في الدرجات ، إلا أنهم لم يبلغوا كمـال المعرفة بالله تبارك وتعالى ، وكيف يبلغون هذا الكمال ، وهم لم يبلغوا ولن يبلغوا كمال العلم ، في الله وفي غير الله ، حتى محمّد (ص) أوصاه ربه سبحانه قال { .. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } .
يحكى أن موسى (ع) عندما جلس مع الرجل الصالح على ظهر السفينة ، كان أول درس تلقاه منه ، هو قوله له : يا موسى انظر إلى هذا البحر المحيط ما أغزر مياهه ، وما أعظم اتساعه ، وانظر إلى تلك النوارس ( طيور البحر ) ، كم يأخذ الواحد منها من هذا البحر ؟ يا موسى إن علم البشرية بالنسبة إلى علم الله تبارك وتعالى ، هو بمقدار ما يأخذ ذلك الطائر بالنسبة إلى هذا البحر المحيط .
يقول الله تبارك وتعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأََرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . سورة لقمان الآية 27 } كناية عن لا محدودية علم الله واستحالة الإحاطة به أو استكماله . وحتى عن القرآن وحده قال عزَّ من قائل : { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا . سورة الإسراء الآية 88 } فكيف بعلم ما في السماوات والأرض وغيب ما فيهما وبينهما .
من هنا نقول إنه وإن كان في الكتاب المذكور للعلامة الطهراني تناقضات وشطحات ، كما ذكرنا وكما سنذكر بعضها ، إلا أن إيجابيات وفوائد جمة تنم عن درجة وصول هذا العالم المميزة والمتقدمة . نقول هذا ولو كنا في موقف المعترض على المتناقضات فقط ، ولسنا في موقف التعريض والثناء .
هذا ، إلى أنني احتاط احتياطاً شديداً بالنسبة لإمكانية سلامة النص الأصلي للعلامة الطهراني ، وإمكانية صفائه من الشوائب ، إذ أن في مقدمة الكتاب الذي بين يديَّ أنه مترجم وأنه مختصر ، ولعلَّ الذين ترجموه واختصروه ، هم وقعوا في ما تصدينا نحـن لإصلاحـه ومناقشته . ومع ذلك كان لزاماً عليَّ ـ وجوباً ـ أن أعلن وأثير هذه القضايا الحساسة جداً بالنسبة للعرفان الحقيقي بالله تبارك وتعالى ، اعتماداً ، حصراً ، على قرآنه المقدس الكريم ، وحيث أن الكتيب المذكور أصبح متداولاً جداً ، بين أيدي الأبرياء من المؤمنين ، ولا سيما الشباب ، وهم في هذه الأيام متعطشون لكل جديد عن الإسلام ولا سيما عن أسرار التوحيد والعلوم العرفانية ، وهذه ظاهرة رائعة ، تنبىء بالخير العميم لنهضة هذه الأمة المباركة ، ولكن الخطر شديد في سوء التسويق والتشويق ، إذا كانا على غير أساس الحق وأساس تعاليمه سبحانه في كتابه المجيد .
ولعل ما أقوله هنا عن إمكانية وقوع الخطأ في الترجمة والإختصار ، يستحسن أن أقوله كذلك عن كتاب ” وصايا عرفانية ” للإمام الخميني قدس سره ، حيث أن النسخة التي علقنا عليها ، والمتداولة جداً ، هي كذلك بالعربية مترجمة عن الفارسية .
ما الهيولى ؟! وما الفناء في ذات الله المقدسة ؟!
كذلك رجوعاً ، إلى الصفحة 18 من كتاب ” هل نرى الله ” فقد ورد في كلام المؤلف هذه العبارة : ” وجعل أنفسنا من الهيولى ” وهذه العبارة : ” … والوصول .. إلى الفناء في ذات الله المقدسة ” .
فأولاً ، ما هي الهيولى ؟
الهيولى لفظة فلسفية يونانية نقلت بلفظها إلى بقية اللغات ، وكما اختلف حول مفهومها ، الفلاسفة اليونان ، كذلك تبعاً لهم ، إختلف الفلاسفة الإسلاميون . وهذا نمط من الخلاف (*) ، نثبته ، كنموذج عن خلافاتهم حول أكثر القضايا الفلسفية إن لم نقل جميعها . آملاً من القارىء المشتاق إلى الحقيقة ، أن يصبر معي صبراً جميلاً لعلنا نعتاض عن مفردات القرآن الكريم ، بمفردات ومصطلحات جاهلية اليونان ، بدلاً من اشراقات نور الله في كتابه العزيـز ، الذي { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . سورة فصلت الآية 42 } . معتذرين من الذين يقولون بتمددات الحضارة الإنسانية وتداخلها ، بأنه صحيح في الهوامش ، وغير صحيح في الأصول ، حيث من غير الحق القبول ، بخلط الظلام بالنور ، والعماية بالهداية والحقائق بالأباطيل . وإليك أخي الكريم ، هذا الخلاف حول الهيولى : فقد ورد تحت عنوان عقد وحل (*) ، ما يلي :
” وربما قال قائل إن هذا الرسم غير صحيح بوجوه :
أما أولاً : فلصدقه على الهيولى الأولى لأنها جوهر يقبل الأبعاد وإن كان بواسطة الصور الجسمية فإن صحة فرض الأبعاد بالواسطة أخص من صحة فرض الأبعاد مطلقاً ومتى تحقق الخاص تحقق العام بالضرورة .
وأما ثانياً : فلأن الوهم مما يصح فيه فرض الأبعاد الثلاثة كذلك للمقادير الموجودة فيه والتعليمات مع أن الوهم ليس جسماً طبيعياً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أنظر الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة . ج 6 ص 13 و 14 .
وأما ثالثاً : فلأن الصحة والإمكان ونظائرهما أمور عدمية وأوصاف لا ثبوت لها في العين والتعريف بالعدميات لو جاز لجاز في البسائط التي لا سبيل إلى معرفتها إلاَّ باللوازم وأما الجسم فمهية مركبة لوقوعها تحت جنس الجوهر فلها فصل تتركب هي منه ومن الجنس ولتركبها من الهيولى والصورة والتركيب في الوجود يستلزم في المهية .
إلى ان يقول :
وبهذا يندفع كثير من الإشكالات التي تكون من هذا القبيل فإن المعلم الأول (*) حدَّ المتصل بأنه الذي يمكن أن يفرض فيه أجزاء يتلاقى على حد مشترك ورسمه بأنه القابل لانقسامات غير متناهية ، وحدَّ الرطب بأنه القابل للأشكال بسهولة واليابس بأنه القابل لها بصعوبة فيتوهم ورود النقض بالهيولى الأولى في جميع هذه الحدود ونظائرها …
إلى أن يقول :
ولنا أن نجيب عنه بأن القبول ههنا بمعنى مطلق الإتصاف بشيء سواء كان على وجه الانفصال والتأثر التجددي الذي يقال له الاستعداد لا مطلق الاتصاف لوجود الأوصاف الكمالية في المفارقات من غير انفصال هناك ، فقبول الأبعاد الثلاثة بحسب الغرض لا يحتاج إلى انفصال مادة أصلاً ، أولا ترى أن الجسم لو كان محض الجسمية من غير هيولى لكان قابلاً للأبعاد العرضية باتفاق العقلاء ، ولهذا عرف الجسم به من لا يعتقد وجود الهيولى الأولى … أو نقول إن إمكان القبول للأبعاد صفة للجسم لا القبول فلا ينافي هذا كون القبول من جهة أحد جزئيه أولا ترى ان إمكان الإنسانية صفة للمنيّ وليس المني إنساناً فإمكان قبول الأبعاد من لوازم الجسم التي لا يحتاج ثبوتها له إلى قابلية واستعداد …
هذا عن الهيولى .. وبقطع النظر ، عن أنه عندنا بدائل تقربنا من الحقيقة ، بل وهي الحقيقة الأصلية ، قوله تبارك وتعالى : { .. وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِنْ طِينٍ . سورة السجدة الآية 7 } . إلا أننا نتساءل ، إلى أين مع الفلسفة ، ولماذا هذه اللفظة أخاذة لعقول الناس . ونحن لم نجدها يوماً في التاريخ ، حلَّت مشكلة ، كان الحل فيها بديلاً عن دين رب العالمين ، في جواهره وتعاليمه ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) هو عند أهل الغرب سقراط ، وقد اعتمد هذه التسمية كذلك الفلاسفة الإسلاميون كما ترى .
خلافات ، وتناقضات ، وفلاسفة كبار وحكماء وعلماء كلام .. فبمن يقتدي الباحث المتعلم ، ومن يقلِّد ؟ وبكلمة أهم ، من منهم المجتبى عند الله ، نقول بعصمته ؟ فإذا كانوا جميعهم مجتبين ، فلماذا خلافاتهم الحادة هذه ، وإذا كان واحداً منهم فكيف نحصره ونحدده ؟ وإذا كانوا جميعهم غير مجتبين ، فكلهم عرضة للسقوط والإنحراف عن الحق وعن صراط الله الذي عليه الحقائق المجردات .
إذاً ، الحكم الفصل هو القرآن وأهل القرآن ، فمن تجاوز القرآن آملاً الوصول عن طريق غيره ، ضلَّ وارتبك وخلَّط .
{ .. وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . سورة النحل الآية 33 } .
ثم انظر إلى هذا التناقض البيِّن : هم يقولون إنهم لا يتوصلون إلى معرفته سبحانه عن طريق العقل ، والفلسفة طريق العقل ، وهم يسترشدون بالفلسفة ، كما رأينا عن الهيولى وغير الهيولى ، عند العلامة الطهراني في كتابه ( هل نرى الله) وهو في هذا الكتاب كذلك يقول ما نصه بحرفيته :
ليس بمقدور الإنسان معرفة الله بواسطة الفكر والتفكير ولا حتى بطريق الإدراك ، ذلك أن الفكر والتفكير محدودان بينما الله سبحانه لا حدَّ له . فكلما حاول الإنسان جهده الإحاطة بالتفكر والقدرة العقلية كان ذلك له محالاً ، ذلك لأن صورة تفكيره ، وهو ذهنه ، هي صورة تخيليّة من صنعه وصنيعته هو ، فأين ذلك من الله عزَّ وجل (*) ؟
ولا بأس أن نذكِّر هنا بما أوردناه سابقاً ، بأن رسول الله محمّداً (ص) سئل كيف عرفت الله ؟ قال : بالله عرفت الله .
وصحيح أن العقل لا يكفي للوصول إلى معرفة الله عزَّ وجل ، وحتى لا يكفي لبناء أمة أو جماعة أو أسرة من أب وأم وأولاد أو حتى علاقة سوية بين شخصين ، وما أقصده بالبناء ، هو البناء السوي القائم على الحق والعدل والجمال والحرية والفضيلة ، وهذه الركائز في بناء المجتمعات أو الأمم ، هي صبغة الله ، التي أرادها وعلمها الله تعالى للبشرية ، فإذا حصَّلها أو حصَّل بعضها العقل فيكون ما حصلَّه ، من تعليم الله والفطرة التي فطر الناس عليها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ص 21 آخر سطر وما بعده .
وهنا يجـب أن ننبه إلى أن العقل الذي نتحدث عنه هنا ، هو الذي في عرف الناس ، والذي هو نتاج التفاعل بين النفس والدماغ ، وهو ليس كذلك في الحقيقة ، ولقد تحدثنا بإسهاب عن العقل الحقيقي في كتابنا ” العقل الإسلامي ” فلا ينبغي التكرار . سوى ملاحظة سريعة نقول تريح القارىء الذي لم يطلع على كتابنا من الحرج ، وهي أن العقل الحقيقي إنما هو الروح ، أو النفخة التي في كلام الله تعالى ، قوله : { .. فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا .. } .
كم من الأمم سادت ثم بادت ، لأنها استبدلت بتعاليم الله العقل العرفي ، أي التركيب الغريزي بين النفس الأمارة والدماغ.
هذا الدماغ ، قلنا عنه إنه ( اللب ) الأوسع نشاطاً ، أو المفاعل الأعلى خطراً في عالم الجواهر المادية ، فهو مركز التبليغ والترجمة والتفسير ، إضافة إلى الإحساس والذاكرة ، والعواطف والقدرة على الحركة ، فإن ضاق عن العقل ، تحوّل إلى الآلية والغريزية بنسبة ما يضيق ، وبقيت له هذه الأمور كما هي للدماغ الألكتروني أو المخلوقات الغريزية الراقية .
أما العلاقة بين العقل الحقيقي والدماغ ، هي علاقة الطاقة الغيبية الموجهة لبرمجة مفاعلها الأرقى في جواهر المادة. والنفس هي التي تسبب انفتاح الدماغ على العقل أو انغلاقه دونه ، أو جعله في حالات بين الحالتين . يعني يكون هذا الواقع المتكيِّف ، رهن بمدى إقبال الإنسان على ربه ، أو تباعده عنه جلَّت عظمته .
وفي حال تلبس النفس بكفر أو شرك أو استكبار ، أو الوقوع في هوىً أو إثم ، ينشغل الدماغ والنفس بالحدث منصرفين عن العقل ، فتفقد النفس بذلك الهداية والسداد والرشاد، وتحاول الإستئثار ضالة ظالمة بموقع القيادة ، مأذوناً لها بذلك تبعاً لاختيارها وتنكرها لولاية الله ورعايته ، فيتخلى عنها الله امتهاناً وإمهالاً وتحجيماً ، وليس إهمالاً أو تفويضاً . وفيها قال سبحانه :
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا . سورة الشمس الآيات ( 7 ـ 10 ) } .
وباختصار شديد ، إن مجمل نشاطات الدماغ وعلاقته بالنفس حصراً ، مستقلَّين عن الروح أو الروحانيـات ، هذا المجمل هو ما يعنيه الناس بجميع درجاتهم عندما يقولون : العقل ، وهو هو بالنتيجة العقل الفلسفي ، أو هو العقل الذي يعتمده الفلاسفة ، مستقلين به إجمالاً عن التعاليـم الإلـهية . منذ منطق أرسطو مروراً بالفلسفات اليونانية ـ الهلينية والرومانية ، والفارسية ، وفيها الزرادشتية والإثنية وغيرها وغيرها ، كل ذلك قبل الإسلام المجيد ونزول القرآن الكريم ، من لدن الله تبارك وتعالى على قلب عبده ورسوله محمّد (ص) . ثم تمددت هذه الفلسفات الوثنية ـ حيث كان تعدد الآلـهة عند جميع من ذكرنا من الأمم ـ داخلة أو مدخلة فيما سمي بعد ، بالفلسفات الإسلامية ، عند توهج الحضارة بالتوحيد وبالقرآن ، الحضارة التي أوشكت أن تعمَّ العالم ، لولا زندقة الفلسفة ، وركوبها متون الفلسفات التي ذكرت ، فضلاً عن جنوح أكثر الخلفاء عن دين الله بردة عنيفة إلى الجاهلية تارة ، وإلى الملك العقيم العضوض تارة أخرى .
في هذا الوقت الذي كانت الفلسفة والملك الباطل والردة تنخر بالحضارة المرشحة لخلاص العالم وإسعاده ، كان الغرب يستيقظ من ظلام أمّيته وبدائيته ، ليدخل من جديد في عهود ، هي بمقياس الآخرة ومقياس دين رب العالمين ، هي أشد ظلاماً. فكان من نتاج هذه الفلسفات في تمدداتها في الفكر الغربي الهجين ، الذي كان حتى المسيحية حوَّلها إلى وسيلة ابتزاز وسحق لعامة المسيحيين ، إنطلاقاً من ديكتاتورية الكنيسة ، مروراً بمحاكم التفتيش وقتل عباقرة العلم باسم الدين ، ناهيك عن اتخاذهم إلـهاً من دون الله ، إنساناً بشراً ، هو رسول الله عيسى المسيح بن مريم عليه وعلى أمه الصلاة والسلام . مما أسس في الغرب حضارات زنديقة ، وليدة فلسفات مادية معلنة ، كالفلسفة التي بني عليها الإتحاد السوفياتي عالياً وشامخاً ، وفجأة دمَّره الله المنتقم الجبار ، فجعله قاعاً صفصفا . وفلسفات أخرى مادية كذلك ، وإنما غير معلنة ، كفلسفات بقية دول أوروبا الوسطى والغربية ، ثم الفلسفات التي بنيت عليها الولايات المتحدة الأميركيـة ، والتي هي أشد كفراً وظلماً وزندقة ، وتنكراً للمسيح وأمه وجميع القديسين والأناجيل . غير مرجع واحد يرجع إليه الجميع يدَّعي روحانية كاذبة مشوهة ، هي التي ستقود أوروبا وأمريكا وعامة حضارات الغرب الراهنة ، إلى دمار وانهيارات سيكون صوت دوِّيها أعظم من دويِّ انهيار ندِّها الإتحاد السوفياتي ، عنيت بهذه الروحانية الكاذبة والدجالة ، الصهيونية العالمية ، والتي هي في هذه الأيام تحفر قبرها في فلسطين بأيدي أبنائها وأيدي المؤمنين ، الذين هم لها بإذن الله تعالى بالمرصاد .
وآتية هذه الأمة ، التي ستخلص العالم إن شاء الله .
{ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا . وَنَرَاهُ قَرِيبًا . سورة المعارج الآيات ( 6 ـ 7 ) } . ولا قوة إلاَّ بالله العزيز الحكيم .
والآن بعد أن تحدثنا عن ( الهيولى ) وعن الشأن الفلسفي وغربته عن علم العرفان الإلـهي ، وعدم الوصول بواسطته إلى الحقائق العرفانية الصحيحة المتلائمة مع كتاب الله المجيد ، بل الشأن الفلسفي كما أوضحنا ، وكما سنتابع الإيضاح بإذنه تعالى ، يجر إلى التناقض الشديد مع بعض الحقائق المبيَّنة بالنصوص الإلـهية القرآنية التي لا تعلو عليها أية نصوص في هذه الحياة الدنيا . والتي يجب أن تكون هي المرجع الذي يحكم بحكم الله جل وعز ، في ما يصدر من تناقضات وخلافات بين القرآن المجيد من موقعه الإلـهي من جانب ، وبين الفلاسفة أو علماء الكلام أو الحكماء ، من مواقعهم البشرية من جانب آخر ، ولو كانوا ـ مما لا شك فيه ـ كثيراً ما يصيبون ، إلا أنهم في الوقت نفسه كثيراً ما يخطئون ، كما نرى بوضوح في نصوصهم التي بين أيدينا .
وإذا قيل إن تأويل الآيات قد يختلف ـ وحتى تفسيرها ـ بين مفسِّر وآخر ، أو عالم وآخر ، قلنا هذا صحيح . ولكن إذا أُخرج معنى النص عن حقيقته وعن مجازاته ، وإذا كان قلب المفسِّر أو المؤوِّل غير صالح ٍ للتلقي وغير مؤهل للتفريق بين العبارة والإشارة والحقائق القرآنية ، فلا يقتحمنَّ هذا الميدان ، فإن في ذلك حساب صعب ، كما أن فيه الثواب ، كذلك فيه العقاب ، في الدنيا والآخرة . وإذا لم يوافق التفسير أو التأويل إرادة الله عز وجل كانت الداهية الدهياء . أما الحديث المزعوم: من اجتهد فأخطأ له أجر واحد ، ومن اجتهد فأصاب له أجران ، فينقضه قول الله تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه . سورة الزلزلة الايات ( 6ـ 7 ) } . وأي شر هو أدهى من تحريف كلام الله أو الإنحراف بمعانيه عن إرادة الله تبارك وتعالى ! ..
بقي أن نجيب عن السؤال الثاني الذي طرحناه في عنوان هذا البحث ، وهو :
ما ” الفناء في ذات الله المقدسة ” ؟!
هذه العبارة هي الإشكال الثاني الذي ورد في كتاب ( هل نرى الله ) والذي وعدنا بالرد عليه(*) .
لقد أوردنا في بداية هذا الفصل ، استحالة رؤية ذات الله المقدسة ، من خلال النص القرآني وفيه طلب موسـى (ع) أن يـرى الله عز وجل . فكانت النتيجة أن تجلىَّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أنظر الصفحة 133 .
سبحانه للجبل فجعله دكاّ وخر موسى صعقا . بعد أن عمّم تعالى على البشر هذا الخبر : { لن تراني } وهو القول الفصل الذي قاله لموسى ، وبيَّن له عملياً استحالة رؤيته من قبل خلقه سبحانه .
هذا أولاً ، وثانياً ، من المعروف عند السالكين من أهل العرفان ، أي الذين هم في هجرة من بيوت نفوسهم إلى الله تبارك وتعالى . وقد تحدثنا في سياق هذا الكتاب عن برمجة هذه الهجرة ، كما تحدثنا في كتابنا ( العقل الإسلامي ) عن المحطات الأولى فيها ، ومما ذكرناه أنَّ فناء المهاجر ، إنما يكون ( في فِناء الله ) جلَّت عظمته وتبارك وتعالى ، وأن هذا الفَناء هو شعور الإنسان بانمحائه كلياً من الوجود ، ويكون هذا الإمحاء ، أو الأولى أن نقول هذا المحو ، غالباً أثناء السجود ، ثم يبعث الله عبده بعد محوه الذي يدوم عادة لثوان ٍ معدودات . ولأن جميع السالكين يمرون في هذه الحالة فقد تعارفوا على تسميتهـا ” الصحو بعد المحو ” أما ” فِناءُ الله ” بكسر الفاء ، فالفِناء في اللغة ، نقول فناء البيت أي داره ، وفِناء الله بالمعنى العرفاني التطبيقي ، هو دار بيته العتيق ، أي الكعبة المشرَّفة . وقد يتدرج الفَناء في المطلق ، دون تحديد مكان ما ، إلى أن يمرَّ في فِناءِ الكعبة أعزها الله ، وقد يتم الدخول إليها بالنفس الكلية . وفيها تظهر النفس الخامسة للمجتبين . وهنا يعرف معنى قوله تبارك وتعالى { .. وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا .. . سورة آل عمران الآية 97 } .
أما هذه المراحل التي أوجزنا الحديث عنها ، فتتم بوضوح في اليقظة وليس في المنام كما قد يخيَّل لبعض القارئين .
والخلاصة النهائية ، هي أن الفناء العرفاني ، إنما هـو ” فَناء في فِناء الله ” وليس فناء في ذات الله المقدسة لأن هذا الأخير مستحيل .
ونكتفي بهذا المقدار من هذه التناقضات التي أشرنا إليها علماً أن في الكتاب المشار إليه ، غيرها ، يحصِّلها من تفضل الله عليه بتجليات نورانية من الأرقى إلى الأنقى والأصفى ومن نور عظيم إلى نور أعظم ، إلى بحر أحديته ، إلى يم وحدانيته ، إلى سعة فضاء رحمته يطير في الأفق الأعلى بجناحين لازورديين …