إنسان حضارة اليوم  ، طغى في الميزان

إنسان حضارة اليوم  ، طغى في الميزان .

          على أبواب القرن  الواحد والعشرين  يتأرجح العلم مختل  التوازن . الولايات المتحدة  الأميركية تمسك بالميزان العالمي  وتتحكم بأركان  الحضارة : الإيديولوجيات والسياسة والإقتصاد وثورة الإتصالات  .. تحاكم الدول ورؤساء الدول والشعوب ،  أميركا هذه هي  النموذج الأعلى عالمياً  بالمفهوم  الحضاري  السائد . وأميركا هذه هي  الزنديقة الكبرى والنموذج الأعلى  في الطغيان في الميزان .

          مثلاً واحداً نعطيه عن وجه أميركا التي تقود وتحكم العالم ، لنفهم  مدى التردي في بقية المجتمعات ، شعوباً وحكومات ، خلا بعض الدول المباركة  التي هاجرت  أو تهاجر إلى الله ،  متحدية الحضارة الزنديقة  وأسيادها في العالم ، بين روسيا وأميركا وأصحاب الشمال :

          جاء في جريدة السفير  عدد الإثنين ۵ تشرين الأول ۱۹۹۸ الموافق  ۱٤ جمادي الثانية ۱٤۱۹  وتحت عنوان : ” بكلمات ”  للمفكر والشاعر  الكبير سعيد عقل ما يلي :

          “في روسيا ۲۱۰۰۰ عصابة  وفي الولايات المتحدة  ؟”  من أخبار ” السفير ” ـ والخبر من موسكو  هذه المرة ـ أن ” مكتب التحقيق الفدرالي ” عندهم أحصى وجود ۲۱۰۰٠ عصابة إجرامية تنشط داخل البلاد .

          من المستحيل القبض على أفراد ۲۱۰۰۰عصابة وتحويلهم  إلى المحاكم . فما تعمل الدولة  ؟ تكتفي بأن تسكت مسجِّلة وجود المصيبة ، وتروح تتأقلم معها . هذا في روسيا . وما في الولايات المتحدة  ؟

          إقرأ هنا ملخصاً لما نشرته ، قبل بضعة أشهر ” تايم ” أهم مجلة لا في أميركا وحدها وإنما كذلك في العالم  .

          في  الولايات المتحدة عصابات مسلحة ومنظمة التسليح والقيادة  ، يبلغ عدد أفرادها ۱۲ مليوناً .

          وإن عرفت أن عدد جيش الولايات المتحدة هو نصف مليون  فقط أدركت أن عندهم  ، كما في روسيا ،  مصيبة تروح الدولة تسكت عنها وتتأقلم معها .

          قلنا : ( والكلام  ما زال لسعيد عقل )

ـ         هذا الوضع المأساوي يضرب الدولتين : “الأولى كبرى دول العالم  ، والثانية كانت ذات يوم ندَّتَها … “

         

طغوا في الميزان .. طغوا في العالم في ذبح الشعوب وفي حرق الشعوب وفي تجويع الشعوب ، وطغوا مع حليفتهم الصهيونية العالمية ، متوسلين كل الغدر وكل الخساسة ، وكل مفردات الشر بمضامينها لينالوا من دين الله ومن عباد الله المسلمين تحت كل كوكب .

          اليوم ، على أبواب القرن  الواحد والعشرين ، همُّ  العالم ، بما فيه طواغيت المسلمين ، همُّ الجميع محاربة دين الله ، الإسلام ، وهذا يعني محاربة الله ، وهذا  يعني أنهم أعداء  الله .

          وهذا يعني بمنطق الآية التي يقول فيها الله تبارك وتعالى :  { … وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } ، هذا يعني  أن غضب الله قد حلَّ عليهم ، وأنهم في الحقيقة قد هَوَوْا إلى أسفل سافلين . ومن ثم إلى الجحيم .

          أما  هُويُّهم فهو شديد الوضوح في شتى  جبهات الحياة ، فكل جبهة عندهم هي من مستدعيات غضب الله جلَّت عظمته .

          ويكفي أن نذكر مدى طغيان الفحشاء عند قدواتهم  رؤسائهم ، حتى نعلم  كيف يكون الناس على دين ملوكهم في الحقارات التي بعضها شذوذ الجنسين ، وأكثر من ذلك إباحة  هذا الشذوذ وحمايته بقوانين .

          القرآن الكريم ، يندِّد بهذه الفاحشة ، في تسع سور . ولعلها أكثر معصية يندِّد بها بهذا التكرار ، كما ويفصِّل أنواع العذاب الذي أنزله بأصحابها ، وهو من أشد أنواع العذاب .

          يطول تعداد مستدعيات غضب الله في أهل  هذه الحضارة .

          لذلك ليس عجباً أن تكون الكرة الأرضية اليوم محاصرة بالغيوم الحرارية ، وبانشقاقات الأوزون ، وانقلاع الجبال الجليدية الهائلة من قارة الأنتركتيكا في القطب الجنوبي ، لكي ترفد بدايات طوفان ، يحدثه ارتفاع الحرارة العالمية ، هو آت على أوروبا وأكثر سواحل العالم  بدءاً بأوروبا الوسطى ثم الغربية ، ثم .. وصولاً إلى نيويورك .

          هذا الكلام ، هو شديد الإختصار من تقارير علماء المناخ عندهم  .

          هذا في التقارير المعلنة ، التي صدرت عن أكثر من عشرين مؤتمراً تداعت إليها الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها أميركا ، بداعي الرعب مما تحمله إليهم السماء والأرض من غضب الله العزيز المنتقم الجبار . 

          مفزعة تقاريرهم المعلنة ، وقد تسرَّب أن ما هو غير معلن أشد إرهاباً وترويعاً .

          فهل نحن على أبواب قيامة أرضية ـ سماوية أم على أبواب قيامة كونية ؟

          قلنا في كتابنا ” العقل الإسلامي ” أن كليهما وارد ،  وقد تحدثنا  هناك بإسهاب عن أشراط الساعة ، وأنها قائمة ، ماثلة لكل ذي علم وذي عينين مؤمنتين ، تقرآن وتتبعان ما في الكتابين العظيمين : القرآن والكون .

          إلى هنا حقَّ للقارىء أن يسأل : وما علاقة كل هذا العرض بآيـة التسخير ، قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} .

تركوا الكتاب والتسخير .. وانشغلوا بالتكنولوجيا :

========================================

          قد ـ وكالعادة ـ قد يثور ذوو الرؤوس المملوءَة بالأفكار الحضارية الدسمة ، الثائرون على الدين  وعلى المتدينين المتخلفين عن التكنولوجيا وغزو السماء .

          في الحقيقة ، نحن معكم  من الثوار ، وإنما مشكلتنا التي باعدت بين منهجيتنا ومنهجيتكم ، هي أننا آمنَّا عميقاً بكتاب الله ، وأيقنا أنه الحق من رب العالمين :{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . سورة فصلت الآيات ( ٤١ ـ ٤۲ ) }  كما قال الله تبارك وتعالى .

          ووجدنا في هذا الكتاب ، العجب العجاب ، من إمكانيات التسخير بآيات الله بإذن الله سبحانه وتعالى عما يشركون .

          لا سحراً ولا شعوذة ، وإنما تسخيرات لقوى غير مرئية فاعلة ، سمِّها نورانية إذا شئت ، وبشتى أنواع الأشعة المعروفة ، وربما غير المعروفة  في علومنا الأرضية .

          يعرف ذلك كل عالم ديني ، وكل مؤمن ورع ٍ تعرض بشكل أو بآخر  لبعض ما تعلم من الغير ، أو لبعض ما علمه الله سبحانه من الرقى والتعاويذ .

          تعامل بذلك أنبياء وأولياء وأئمة أطهار، وهذا أمر مجمع عليه عند كافة المسلمين . لذلك أقدمنا على عرضه بقوة المحقِّ وعنفوان المحقِّ ، وبروح التحدي في مواجهة المستقيلين من الدين ومواجهة المبطلين .

          نحن هنا ، ندعو إلى كتاب الله المجيد ، دون أن نتنكر للتكنولوجيا ، ويا حبذا لو أننا ركبنا أجنحتها منذ  العباس ابن فرناس ، المسلم الذي اخترع أول طائرة في العالم ، ولكن لله في خلقه شؤون ، تبعاً لإقبالهم عليه وعلـى كتابه سبحانه ، أو تأجيلاً لهم أو تجميداً تبعاً لإدبارهم .

          وهل الله سبحانه أعطى التكنولوجيا لأهل الغرب وأهل الحضارة الزنديقة  حباً وكرامة ؟ لن نخوض في هذا لأنه يخرج بنا عن أصل موضوعنا .

          وموضوعنا الذي هو آية التسخير الكريمة لا يدخل إليه إلا بمفتاح أساسي وكبير ، والمفتاح هو هذا السؤال :

          هل الله سبحانه وتعالى ، سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ، وجعل أيدينا فوق كل ذلك ، ليكون كل ما في السماوات  وما في الأرض في خدمتنا بسلطان منه أم بسلطان منا ؟!

         

          هذا أولاً .. وثانياً ، هل للإنسان سلطان خارج عن سلطان الله عزَّت عظمته .

          ولنحسم الأمر وبسرعة بالنسبة للسؤال  الثاني ، فنرى بعين العقل أنه يستحيل الخروج من هذا الكون أو الوجود بأطواله وأبعاده وأعماقه وأسراره لأنه كله خلق الله وملكوت الله .

          فيبقى السؤال الأول ، وجوابه أن الإنسان لا يمكن أن يتوصل إلى علم أو إلى دراية أو انتفاع بشيء مما خلق الله في السماوات والأرض إلا بسلطان من الله .

          هذا السلطان هو نسبي ، يعطيه الله عز وجل للأقوام والأمم والأفراد مترتباً على قربهم أو بعدهم منه سبحانه  . ومنهم من يعذبهم به فيكونوا من مصاديق قوله : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا … سورة مريم الآية ۷۵ } وليريَ جميع البشر صـدق وعده جل شأنه : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .   سورة فصلت الآية ۵۳ } .

          ولشرح ذلك نذكر ما جاء في سورة الرحمن  قوله  عز  وجل :

{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلآء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ . سورة الرحمۤن الآيات ( ۳۳ ـ ۳۵ )  } .

          يروى أن الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ، استدعى أحد كبراء علم الكلام  عباية بن ربعي الأسدي وكان له أتباع يقول ويقولون إن الإنسان يستطيع بدون الله أن يفعل وأن .. وأن .. وقد دبجوا في ذلك مقالات ورسالات . فسأله أمير المؤمنين يا عباية  ماذا تقولون في الإستطاعـة . قال كما تسمع عنا يا أمير المؤمنين . قال : يا عباية  والله إن كنت تقول أنك تستطيع بدون الله قتلتك . وإن كنت تقول إنك تستطيع مع الله قتلتك . قال : إذن فما يجب أن نقول يا أمير المؤمنين . قال تقول : أن لا استطاعة إلا بالله  العليِّ القدير وحده لا شريك له . يا عباية أوَ ما تسمع  العلماء وعامة المؤمنين يتعبدون بالقول : لا حول ولا قوة إلا بالله . هنا سأل عباية : يا أمير المؤمنين معلوم معنى لا قوة إلا بالله ونحن نعلم أنَّ الحول من معاني القوة فلماذا التكرار . قال : ليس كذلك . وإنما المعنى : لا حول عن معاصي الله إلا بلطف من الله ، ولا قوة على أداء الطاعات لله إلا بتوفيق من الله جلت عظمته ..

          وفي كلام لأحد الصادقين سلام الله عليهم : ” هو سبحانه المالك لما ملَّكهم ، وهو القادر على ما أقدرهم عليه .. “

 

بومضة عين أتى بالعرش من اليمن إلى بلاد الشام :

====================================================================

          { قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ … سورة النمل آية ٤۰ } .

          قوله تعالى :{ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ .. } هذا الكتاب أي كتاب ؟  ما دام القائل الذي عنده علم من الكتاب ، في مجلس سليمان  عليه السلام ، فلا يمنع أن يكون الكتاب الذي عناه هو التوراة . أي الكتاب الذي أنزله الله تعالى قبل سليمان  على موسى عليه السلام .  وما دام الأمر كذلك ، ففي التوراة مفاتيح من مفاعيلها ما علمناه من نقل عرش ٍ من اليمن إلى الشام ، كان يقتضي مارداً من مردة  الجن بذل جهد ٍ وقوة ٍ ومدة زمنية ليتمكن من حمله ونقله إلى المكان إياه . بينما استطاع الذي عنده  علم من الكتاب أن يأتي به بومضة عين . وذلك معنى قوله : { .. قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. } .

          وما دام الأمر أيضاً كذلك ، فحتماً إن في القرآن الكريم مفاتيح من شأنها أن تكون أعظم فاعلية من تلك التي  في التوراة ، لسببين  أقوى من وضوح الشمس :

أولاً :  أن الله سبحانه نصَّ على أفضلية القرآن الكريم على الكتب السماوية التي من قبله .     

          قال سبحانه مخاطباً رسوله محمداً (ص) :

{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ

سورة المائدة آية ٤۸ }

          فقوله تعالى :{ .. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ..} يعني القرآن الكـريم ، وقوله :{ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ…} أي ما قبله من الكتب السماوية المنزلة . فجميع المنزلات أصلها كتاب واحد ، تدرَّج مع الأنبياء من البدائية إلى الكمال المتناسب مع ترقي البشرية ، بثورات العلم عقلاً ونقلاً وتجاريب . يتمحور ذلك كله حول التعاليم الإلهية ، حتى كان آخر الرسالات  مختوماً بكمال الرسالة الخاتمة  المنزلة على رسول الله محمَّد (ص) ، متمثلة بالقرآن العظيم . والكتاب الذي يهيمن عليه القرآن الكريم  ، هو كذلك حصراً ، التوراة والإنجيل . وإشارة إلى هذه المعاني  بخصوص لفظة (كتاب)  نستفيدها من قوله  تعالى :

          { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ  . سورة البقرة آية ۲۱۳} .

          والسبب الآخر في أفضلية  القرآن المجيد وبليغ أسراره في ظواهره وبواطنه ، هو حفظه من قبل الله  تبارك وتعالى ، من أن يزاد عليه أو ينقص منه أو يحرَّف  الكلم فيه عن مواضعه كما فعلوا بالتوراة وفعلوا بالأناجيل . قال تعالى فيه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . سورة الحجر آية ۹ } .

 

          وفي إشارة لفاعلية ما فيه من مفاتيح بإمكان القرآنييـن إذا أوتوها مأذونيـن بتفعيلها ، أن يغيِّروا بها وجه الأرض ، والحضارة الزنديقة هذه إلى حضارة كريمة ، يحكمها الشرف والعدل والمحبة ، وليس وحوش البشر  وطواغيتهم ، قوله تعالى   :

          { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ . سورة الرعد آية ۳۱ } .

بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا :

=================

          { ..  بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ..}  هذه الخلاصة هي خلاصة الآية السابقة : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} وهي قلبها ومحورها التي تدور عليه حقائقها وأسرارها ، بل هي المحور الذي يدور عليه القرآن العظيم كله ، والوجود الأزلي الأبدي السرمدي كله .

          وغاية درجات العلم  هي إدراك هذه الحقيقة : أنَّ { .. لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ..} .

          ولن تقوم للمسلمين قائمة من حالة التردي التي هم فيها حتى يدركوا هذه الحقيقة : أنَّ { .. لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ..} .

          ولن يدركوا هذه الحقيقة حتى يتبعوا هذه المنهجية الرائعة البسيطة المنجية ، على مستوى الأمة وعلى مستوى القيادات :  

أولاً  : على مستوى الأمة ، فأن يتوخى المسلمون العلم بالله . العلم  الذي آتاهم الله إياه عن نفسه وإحاطته بهم ، وقوة حضوره سبحانه معهم وهيمنته على الكون جملة وتفصيلا . وأن يتفهموا معنى الإحاطة ، انطلاقاً من الآية الكريمة ، التي فيها أعظم تعريف لله تبارك وتعالى عن نفسه :

          قوله جلَّـت عظمتـه : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .  سورة  الحديد الآية ۳ } .

          وبعد هذه الآية مباشرة قوله تبارك وتعالى :

          { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ . سورة الحديد الآيات ( ٤ ـ ۵ ) } .

          هذا أولاً  . وسنعود إنشاء الله لتفسير هذه الآيات .

          أما ثانياً ، وعلى مستوى الأمة ، فأن يكثر المسلمون من قراءة القرآن الكريم ، ويعملوا بظواهره ، فإن كانوا صادقين صديقين ، يؤتهم الله من بواطنه وأسراره ، ومن مفاتيح أرضه وسمـاواته التي فيه ، مع تفصيل ما شاء منها لمن شاء منهم سبحانه له الحمد .

          على أن تلاوة القرآن وتدبره واجب عينيّ ، وهي من أفضل العبادات وأفضل الطاعات التي لا يقبل في حال الإعراض عنها وعدم الإحـاطة بها عذر لمعتذر ، وذلك في نذيره سبحانه إشـارة إلى محاكمته الجاهلين بالقرآن المعرضين عن آياته أو المكذبين بها . قوله سبحانه  :

          { حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . سورة  النمل آية ۸٤ } .

َماذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ؟    مخيف هذا السؤال يوم الحساب ، يوم القيامة . ولا سيما لأكثر الأكاديميين من المسلمين والذين يطلقون علـى أنفسهم إسم النخبة ، أي المثقفين من حملة الإجازات فما فوق .

ومن البداهة لهؤلاء حتى يحملوا إسم النخبة  المتعارف ، أن يكونوا قد قرأوا وتمعنوا بعشرات الكتب  والمجلدات وربما بالمئات منها إضافة  إلى مواد الإختصاص  وهم مع ذلك لا يعرفون القرآن الكريم . وربما بعضهم يتلوه خطأ إذا تلاه ، وقليل منهم يقرأونه قراءة صحيحة وإنما لا يتدبرونه ، أي أنهم لا يفقهون معانيه ولا مراميه  ولا عظائمه ، ناهيك بأسراره ومفاتيح السماوات والأرض التي  فيه . هؤلاء ستمتقع وجوههم وترتعد فرائصهم  ويتمنون لو أن الأرض انشقت فابتلعتهـم ، عندما يطرح عليهم السؤال المخيـف : { .. أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي ؟!  وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ؟!  أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ؟! } .

          ويقيناً ـ كونهم النخبة ، ولو أنهم هم سموا أنفسهم كذلك ـ  فسيتحملون ، بل ويحمِّلهم سبحانه ، مسؤولية فشل هذه الأمة ـ زمانهم ـ وإحباطاتها ، بعد أن يحبط أعمالهم ، مهما كانت في أنظارهم وأنظار العامة مجيدة وجليلة ، حيث لا يقبل عمل بلا إيمان حقيقي ، ولا إيمان حقيقي لمسلم بلا قرآن ، وتدبر واع ٍ للقرآن .. الكريم والمجيد والعظيم ، تصديقاً وتطبيقاً .