استعدادا ليوم القيامة العقل أمانة … نحاسب عليها أدق الحساب
العقيدة ، هي ما ينعقد عليه القلب ، حقّـاً كان أو غير حق . والسبيل إلى الحق ، هو العقل الذي شرفنا به الله عزّ وجلّ ، وهو سبحانه وتعالى في كثير من الآيات في كتابه الكريم ، يهيبُ بالناس أن يستعملوا عقولهم ، تفكراً وتدبّراً وتأملاً . ليتوصلوا إلى خلاص أنفسهم ، بمعرفة الحق الذي هو الغاية الأسمى ، وهو مناط الرجاء .
وما العقل الذي تتعدّد العناوين والمعاني المنتهيـة إليه ، من مثل الإسـلام أو الحنيفية أو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، أو الروح التي فيها قوله تعالى :
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }(سورة الحجر ، الآية 29) .
أو الدين الذي دان به الإنسان لرب السموات السبع ورب العرش العظيم :
{..وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا..}(سورة الأعراف ، الآية 172).
ما العقل إذن ، أو الإسلام أو الحنيفية أو الفطرة أو الروح أو الديـن الإلـهي ، إلاَّ الأمانات التي أمر الله بعدم خيانتها :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }(سورة الانفال الآية 27) .
هذه هي الأمانات التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال ، لأجل نسبة التكليف العالية ، التي يتلبس بها الإنسان من جرائها :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ] أكرمه الله بها [ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } (سورة الاحزاب الآية 72) .
الذي يخون عهود الله ولا يستعد لملاقاة الساعة ، استعداد الصديقين والشهداء وأولو الألباب .
إلاَّ أن فرقاً من الناس شذَّت ، ولا تزال فرق وأفراد يشذُّون . يرفضون ما أهاب به الله سبحانه ، ونبّه إليه بصريح الآيات ، مصرّين على هجر العقل ، آخذين بالسماع والتقليد ، فيما لا يجوز التقليد فيه من أصول الدين ، توحيداً ونبوة وإمامة ومعاداً وعدلاً ، وهذه في الحقيقة أمور اعتقادية ، ينبغي التوصّل إليها بالدليل العقلي ، والبرهان القطعي ، لأنها الأساس الذي تترتب عليه مدارج العبادات الصحيحة المقبولة عند رب العالمين .
هذا فضلاً عن تعامل الإنسان على أساسها مع نفسه ومع مجتمعه ، وبالتحديد ينبغي التوصّل إليها عن طريق العقل الذي لم تحجب فطرته ،
فتستقلّ بالعمل النفس الأمّارة .
بين تهجّد الليل وصناعة القنبلة :
فإذا بقيت الفطرة سليمة أو إذا أزيلت عنها الأقنعة والحجب ، بخروجٍ شجاع من دوائر الجذب الأرضي ، وقرار حاسم جريء ، يختار به الإنسان ربّه الله تبـارك وتعـالى دون سـواه . عندها يشـرح الله سبحانه صدر هـذا الإنسان لدينه ، فتنجلي البصيرة ، وينجلي حتى البصر … حتى الألوان تتبدّل عنده ويصبح لها مذاق خاص … فإذا الأرض غير الأرض ، وإذا السماء سماوات ، وإذا سرّ الله في قلب عبده ووليّه سعادة حقيقية يستحيل أن يتوصل إليها إلاَّ بقلب طفل أو بقلب شجاع .
إذن بالعقل يستمطر النور من الله :
{ ..يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ..}(سورة النور ، الآية 35)
فيستضيء القلب ويزهر ويتلألأ بنور الله ، بين الناس في الحياة الدنيا :
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ..} (سورة الأنعام ،الآية 122)
وفي الآخرة ، وبين الدنيا والآخرة :
{ .. نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ .. }(سورة التحريم ، الآية 8)
أما بالسماع ، والمحاكاة ، والتقليد ، في مجال الاعتقاد ، بعيداً عـن التوحيد ، فصريح قول الله تبارك وتعالى :
{.. إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ..}(سورة الزخرف ،الآية 22)
الله عزّ وجلّ يذكر قولهم هذا ، ثم يقرعهم بقوله تعالى :
{..لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ .. }(سورة الأنبياء ،الآية 54)
أما ما يتوصل إليه العقل وينعقد عليه القلب ، فبحاجة إلى مدد يزيده خيراً وبركاتٍ من لدن الله عزّ شأنه ، فالإنسان لا يقـوم بذاته ، إنّما عليـه أن يخطو الخطوات الأولى تصميماً على المعرفة ، صدقاً ، وحبّاً ، وإلتزاماً ـ وحتى هذا لا يكون إلاَّ بإذنه تعالى ـ ثم تأتيه الهداية من حيث لا يحتسب :
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ..} (سورة مريم ، الآية 76) . صدق الله العظيم .
أما بدون اليقين عن طريق العقل ، فلا يكون الوهج بين تخشّع وحنين في العبادة ، وصفاء في التوجّه ، وصدق في مجاهدة النفس وتزكيتها ، وإقدام وبسالة في مجاهدة أعداء الله .
بدون اليقين عن طريق العقل ، يبقى الإنسان إذا الريح مالت مال حيث تميل . وبدون اليقين عن طريق العقل ، تبقى النفس خاوية ، خالية ، تتعكز على ظاهر البدن ، وعلى الظواهر الشكلية عامة .
والناس في تاريخ التديّن ، غالبيتهم من هذا النمط . بينما المطلوب الذي يتناسب مع الكرامة التي أكرم الله بها هذا الإنسان ، وهي العقل ، المطلوب أن لا يفرط الإنسان بهذه الكرامة ، وأن يحسن الشكر لخالقه ، تعبّداً على خوف ورجاء ، وتقرّباً إليه سبحانه وتعالى بكل صلاح يزكيه العقـل المستنير بربّه ، بين تهجّد الليل وصناعة الرغيف وصناعة القنبلة ، جهـاداً في سبيل الله .
أمّا كيف يتوصـل العقل إلى الكشف ومعرفة الحقـائق ؟ وعلى ماذا يجب أن ينعقـد القلـب ؟ فهنـا تبدأ الحكاية ، حكاية الإيمان الحقيقي والكفر الحقيقي .
في الواقع أن ما تعارفنا على تسميته ” بالإعتقاد ” هو الخطوط الرئيسية لدين الله عزّ شأنه ، مضافة إلى الأساس الذي يستحيل أن يقـوم بدونـه ، عنيـت به التوحيد ، هذا المخطط الهندسي الفذ ، الذي أسـاسـه ولحمـته التوحيد ، مطبوع في النفس البشرية ، منقوش نقشاً ، وهـو وإن كان قابلاً لأن يحجب أو يطمس ، إلاَّ أنه غير قابل لأن يبدّل أو يمحى …
{.. لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ .. }(1) .
{.. لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ .. }(2) .
نهاية الرحلة … فرح أعظم ، أو وجع أعظم … في الأبدية :
أما حكاية الإيمان الحقيقي والكفر الحقيقي ، فبما أنهما عقلاً ، يستحيل أن يجتمعا في إنسان واحد ، فيبقى أنه لا بدّ لكل نفس من أن تختار ، أما الذي يختار الكفر فمحسوم أمره .
يبقى امتحان القلوب الذكية ، التي نجحت ابتداء باختيار الإيمان ، كيف تكمل مراحـل التعليـم الأشـرف ، والأنقـى ، والذي فيه حـي علـى الفلاح … من أين تبدأ ؟ ومـا هي الوسائـل ؟ وإلى أين تنتهي ؟ فمعاً إن شاء الله في هذه الرحلة المجيدة ، التي سنحاول بعونه تعالى أن تكون قصيـرة وممتعـة .
ـ وهنا لا بدّ أن نستدرك ملمحين إلى أن الإنسان قد يستبطن كفـراً ويظهر إيماناً ، فتلك حالة مرضية ، يتميـز صاحبها بالخسّـة ، ومن أسمائها النفاق ، وهي حالة ثالثة لسنا بصدد بحثها الآن ـ .
فعوداً إلى السؤال عن الإيمان الحقيقي ، من أين يبدأ ؟
كثيراً ما نسمع في مجتمعاتنا الإسلامية ، وكذلك العالميـة ادّعاءات عجيبة من مثل: فلان شيوعي . ولكنه مؤمن بالله ويصلي أو لا يصلي …. المهم أنه مؤمن بالله … وفلان يدين بالقومية ـ أيَّة قومية من قوميات أهل الأرض ـ أو العرقية ، ولكنه مؤمن بالله … وفلان يدين بالعلمـانية ، ولكنـه مؤمن بالله …
وكل أولئك يحسبون إنما الله سبحانه وتعالى خلقهم وقال لهم تصرفوا على أهوائكم وأمزجتكم ، ودينوا بالدين الذي يريحكم ، واسلكـوا السلـوك الذي تشتهون ، واختاروا النظام الذي يروقكم ، وضعوا القوانين التي تتوصل إليها آراؤكم وتجاربكم ، واعتنقوا الفلسفة الأكثر دعاية وتفلسفوا إن شئتم وكيف شئتم ، ويكفيني منكم خلال ذلك كله وفي النتيجة ، أن تقولوا : لا إلـه إلاَّ الله ـ هذا لمن يقولها ناهيك بمن يشرك به سبحانه وتعـالى عمّا يشركون ـ كأنما الله عزّ شأنه بالنسبة إليهم ” ناطور صحراء ” ، أو أنه أخذ على نفسه سبحانه أن يدير الفلك ، ويراقب نظام الكواكب ومساراتها ، وأن يمسك السموات حتى لا تقع على الأرض ، وأن يرسل المطر وينبت الزرع ويداول بين الليل والنهار والفصول الأربعة ، ويضبط عقارب الساعة الكونية ، وعليه إذا قَدَّمَتْ وعَليه إذا أَخَّرَتْ ، وغير ذلك من قضايا الكون في السموات والأرض ، كل ذلك أوجبوه على الله سبحانه ، إلاَّ الإنسان زعموا أن الله تبارك وتعالى تركه واكتفى منه بأن يقول : لا إلـه إلاَّ الله ، ثم سمـح له بعـد ذلك أن يتخذ ماركس نبياً ولينين إماماً وأي رئيس للولايات المتحدة أو أي بلد أوروبي ، رمزاً للحضارة الإنسانية .
ترى أي فطرة إنسانية سوية تقبل بذلك ؟ أليس العقل يحثّنا أن اسألوا وتأمّلوا : لماذا خلقنا الله سبحانه ؟
فإذا كان الجواب أنه خلقنا كما خلق الأبقار والثيران والدببة ، فأين تذهب ميزة العقل وكرامة العقل ؟
وإن كان الجواب ليس كذلك ، وإنما خلقنا لكي ندين بدينه ، ونستمتع بحبّه وكرمه ورحمته .
فما هو دين الله سبحانه ؟
هنا وعلى الإجابة على هذا السؤال ، يتوقف مصير الإنسان ، وتتعين نهاية رحلته الأرضية الدنيوية : إما إلى الفرح الأعظم ، وإما إلى الندم الأعظم المصحوب بوجـع في العظـام وغصص ، وفي كـلا الحاليـن الزمـن يطول ويطول … أين منه عمر الأرض الخاطف الذي معه يتخطف الموتُ وليّ الله والماركسي والعلمـانـي علـى حـد سـواء، دون أن يجـرؤ علـى الاعتراض حتى ” نيتشه ” فيلسوف القـوة أو أتباعـه . ثم إننا على يقين أيضاً من أن هذا الموت له إيقاع على الناس ، درجات هـو ، بيـن ألف السعادة وياء المرارة .
الرسل … أم الفلاسفة ؟
بعد أن عقلنا الأصل الأساس الذي هو التوحيد ثم منه عقلنـا النبـوة والمعـاد وما يتفـرع عنهما ، نجد أنفسنا أمام رياضة من نوع آخر ، هي رياضة التلقي والتمثل والاستجابة ، رياضة أن تغتني النفس ويغتني القلب بالروائع ، بدءاً بأرقى تطلعات الروح : عنيت الحب ، طبعاً حب الله جلّ جلاله ، فكل حب دونه ، هو ظلّ أو انعكاس ، هنا إذا أهاب بنا الحبيب الأعظم ، إلى صلاة وزكاة ، وصيام وحـج وجهاد ، ولإقامة الدولة التي ترضيه ، والنظام الذي أمـر به ، والاحتكـام إلى ما شرّع هـو سبحانه ، لا ما شرّع الناس ، وإلى طاعته وطاعة نبيّه والقرآن الذي نزل على نبيّه وطاعة وصيّه ، وطاعة الأئمـة الأبرار وأولياء الله الأطهار وعدم الشرك ، وعدم الإهتمام بأيـة قوة في الأرض أو السماء غير قوته ، ومعرفة أن لا قوة إلاَّ به ولا عزّة إلاَّ به ولا نصر إلاَّ من عنده ، ولا كرامة في الدنيا والآخرة إلاَّ منه ، وحب أوليائه وبغض أعدائـه ، مـمّن لا يؤمن به ولا يدين بدينه، أو من هو سادر في معصية أو متلبس بظلم ،كل هذه الأمور مجتمعة مترابطة متماسكة هي دين الله تبارك وتعالى ، وإذا أخذ بعضها وترك بعضها فهو الشرك إذ ليس الشرك فقط أن نعبد الصنـم إضافة إلى عبادة الله سواء كان الصنم بشرياً أو حجرياً ، وإنما الشرك ألوان كثيرة ، معظم الناس واقع في جحيمها .
أوليس شركاً أن نؤمن بالله وندين بغير دينه ؟ أوليس شركاً أن نترك شرائع الله ونحتكم إلى ما يبتدعه الناس من قوانين ، أوليس شركاً أن نؤخذ بفلسفات ما أنزل الله بها من سلطان ، أوليس شركاً أن نتبع رجالاً مرضى النفـوس ، يشكّكون بالله وبدين الله ، وبنبوّة الأنبياء وخاصة بنبوَّة محمّـد ( صلى اله عليه وآله ) ومع ذلك نسميهم قادة وفلاسفة وعباقرة ، ثم نقول صدق رسول الله ، وصدق رسول الشيطان …
صدق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام ، وصدق فلاسفة المادة والإلحاد … وهل يجتمع النقيضـان . لِنَعُدْ إلى عقولنا نسائلُها : هل يجتمع النقيضان في عقل واحد ؟ إذا كان الجواب لا ، وهو قطعاً ، لا ، فإلى متى الإنتظار وداعي الله يدعوك أيها الإنسان إلى كرامة الدارين ، وسعادة الدارين وخير الدارين . وإذا كان الجواب أنه بالإمكان الخلط والترقيع ، فاتـّهم نفسك بالتزوير والفساد ، وجناحيك بالكساح وستقرأ يوماً ما بحروف قاهرة :
{ .. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ( سورة النحل – الآية 33) .
اتخاذ القرار :
قد يقتنع القارىء بما مرّ به ، ويصمّم على التطبيق العملي ، صدقاً والتزاماً بدين الله ، ولكن هذا التصميم ، يكون عـادة ردّة فعل آنية للقارىء في حال تأمّله وتحكيم عقله ، والكتاب أو المقالة بين يديه ، فيقّر ويذعن ، ثم يعود إلى قواعده في المجتمع ، حيث يأخذه التيار الجاهلي من جديد ، فتصبح قناعاته نسياً منسياً .
والقارىء في هذه الحالة ، كمن يقف أمام وردة عطرة ، تلفته حقيقتها الوردية ، رونقاً وعمقاً جمالياً ، ويشم عطرها فينتشي ، حتى إذا تركها ، نسي العطر ونسي الوردة . فما هو المطلوب ؟
المطلوب الذكر والتذكّر .
{ .. إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }(سورة الرعد ، الآية 19 . وسورة الزمر ، الآية 9) .
ويكون ذلك باتخاذ القرار الجمالي ، كأن يتأمل ويقول : تلك الوردة حياتها سر عطرها وجمالها :
{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ .. }(سورة لقمان ، الآية 11) .
إذ لو كانت اصطناعية ، لكانت بلا حياة ، يعني بلا سر . ونحن ندرك هذا ونعقله فأيهما أكرم للنفس ، أن تتعامل مع الجمال البلاستيكي المحّنط ؟ مع النتاج الإنساني ، أم مع الجمال المطلق الغنيّ بالحياة وأسرار الحياة ؟
بديهي أنه أكرم للفطرة أن لا تلوث ، وللفكرة أن لا تتحجم فتنتكس ، أكرم لها أن تتجاوز الأرض والسماء ، أولى بها أن لا تنكمش فتتعذب بانكماشها . أولى بالإنسان الذي كرّمه الله سبحانـه ، وسخّر له ما في السموات والأرض جميعاً منه ، أن لا يكـون مقلِّداً لأدعيـاء الفكـر ، المنكوسين ، الشذاذ . التقليد شيمة القرود . إلاَّ إذا كان اتباعـاً لأولياء الله ، قوله تعالى :
{ .. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ .. } (سورة لقمان ، الآية 15) .
التيارات اللادينية:
التيارات الفكرية والفلسفية اللادينية ، تغـري ذوي الشخصيات الهزيلة ، ومن هؤلاء يتشكل للأحزاب اللادينية رصيدها الشعبي ، والأحزاب تستغل ضحالة تفكيرهم ، حيث تنفخهم نفخاً بالمفاهيم التي تريد ، وتلقنهم تلقيناً ببغائياً ، وبالتالي تعتمد عليهم اعتماداً أشبه ما يكون بالتحريك الآلي ، مستفيدة من الاندفاع العاطفي ، الناتج عن ردّات الفعل العصبية والعضلية عندهم . لذلك لا نجد في هذه الأحزاب ، مفكرين ، ومنظرين إلاَّ القادة . والقادة اللادينيون شياطين أو أخوة شياطين ضلّوا وباتوا يسوقون مبلبلي النفوس إلى الضلالة . وتعريف هذه الأحزاب تحديـداً ، هـو ما كـان منهـا بيـن العلمنة والإلحاد .
كل حزب بما لديهم فرحون :
قد يثور القارىء الحزبي هنا ، هذا إذا ما تحملت أعصابه وتمكن من الوصول إلى هذه الفقرة من هذا البحث . وإلاَّ فالعادة أن مثل هؤلاء إذا كانت الشحنة الحزبية فيهم قوية ، أو كانوا دون الثلاثين ، فإنهم غالباً يطرحون الكتابات العقلية ، يعني المؤمنة ، وكثيرا ً ما يشتمون الكاتب ، ويحكمون عليه بالرجعية ، وهي التهمة الجاهزة دائماً نتيجة للتكرار في التلقين .
أقول قد يثور القارىء الحزبي هنا فيكون مصداقاً لما ذكرت من أنه لا يفكر بشخصية مستقلة ، قوية ، مجردة . وأعني باستقلال الشخصية ، استقلالها عن المخلوق ، وليس استقلالها عن خالقها لأن هذا مستحيل .
أما إذا توفّر قارىء يمكنه أن يعقل آنياً ، فليس من السهولة بمكان أن يتخلى عن قواعده الحزبية ـ أو حتى المتفلتة ـ رغم تصديقه وَتَشَبُّعِهِ إيماناً بما أسلفنا .
صحيح أن التجرد والتعقل ، مدعاة للمعرفة والإقرار بالحقيقة ، ولكن المعرفة الآنية شيء . واتخاذ القرار الحاسم شيء آخر . فإن المعرفة إذا لم تتوَّج بقرار جريء ، تذهبْ سدى مع أول لقاء حميمي ، مع الأخلاء الذين لا يدينون حقيقة بهذا الدين . تذهب القناعات كلها، مع أول هبّة ريح ، من محازب أو صديق ، أو رفيق ، أو صاحب أو صويحبة . ولا سيمـا إذا كان اللقاء مع مجموعة ، حيث يذهب بهذه القناعات ، بريق ضحكات فارغة ، أو أحاديث خاوية ، تحت تأثير الخلة والحميمية . لذلك قال سبحانه :
{ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }(سورة الزخرف ، الآية 67).
التضحية … في سبيل شرف الغاية :
فالقرار المصيري ، يحتاج إلى شجاعة أصيلة ، إلى جرأة ، يوطن الإنسان معها نفسه ، على أن يضحي بصحبة الرفاق والرفيقات ، وإذا اقتضى الأمر بماله ومصادر ماله ، إذا كانت مظـنّة شبهة عنـده ، ويضحـي حتى بحب المجتمع له ، إذا كان المجتمعُ مجتمعَ رعـاع ، يحكمه أشبـاه الرجال ، ولا رجال .
وليجاهدنّ حتى يصل إلى حالة ، يفهم معها ، أنه أصبح فريـداً ، معتزلاً الناس ليس له أنيسٌ إلاَّ اللهَ ، ولا وليٌّ إلاَّ الله ، ولا حبيب إلاَّ الله ، عنـد هذا فليحمدنّ الله ، مصعداً بقلبه ، وكأنـه يرفعـه على كفيـه ، إلى الله تبـارك وتعالـى .
ولا يداخلنّه أنَّ ذلك رهبانية ٌ ، أو هروب ، أو حالة نفسية سلبية ، إنما هي أشد المواجهة ، وأروع التحدّي ، هي مرحلة في جهاد النفس عزيزة ، ييسّرها الله لمن يشاء من عباده ـ ومشيئة الله لا تتخلَّف عن مشيئة عبده ـ وهكذا يكون معها ـ مع النجاح ـ سرّ الانفتاح .
ولا يغيبنّ عن البال أنه طبيعي جدّاً ، لمن يتخذ قراراً بالتحوّل عن جوّ عاشه فترة طويلة من الزمن ، بما فيه من حميميات ، وعادات ، ووجـوه يألفها ، ومناخات ذهنية أنس بها ، طبيعي جـداً أن يجد صعوبة في تركها ، ولكن شرف الغاية وسموّ الهدف يهونـان كل ذلك ، حتى أنه يأتي يوم ، يصبح مجرد تذكر هذه الأجواء ، موجع لذاكرته ، بغيض إلى نفسه، فالهدف أسمى من التضحية بما لا يقاس .
رياضة محببة وجهاد أكبر :
هذا كله إذا قُبِلَ هذا الإنسان في الإمتحان ، فإذا قُبِلَ فهو في بدايـة النعيم ، فليكثر من حمـد الله سبحانـه ومن الإستغفـار ، بلى ، الشـروط حساسة ودقيقة ، فإيانا ثم إيانا أن ننظر إلى الأمر بقلة اكتراث : نحـن هنـا أمام التوبة ، التوبة إلى الله العزيز المتعال ، ذي الكبرياء والجبـروت ، الغنـي عنّـا وعن توبتنا وعن العالمين . ومن شروط التوبة أن تكون مقترنة بنيّة الامتناع عن الرجـوع إلى معصية ، امتناعاً قطعياً مطلقاً ، وملازمة الشعور بالندم الشديد ، ولمجرد تذكّر ما فات من ذنوب . وبطريقة أنه لو خـيّر التائب بين رجوع إلى معصية ، وبين أن يحرق بالنار ، فليصمّم على اختيار الحريق بالنار على أن يعود إلى معصية، وليبك إذا استطاع ، خوفاً وامتناناً ، أما المواظبة على العبادة ، وأما الإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ ، فحدث ولا حرج ، إضافة إلى قضاء ما فات .
قد يقول القارىء هذا كثير ، وهذا متعب . لا ليس كثيراً ولا متعباً ، إذا كان بِحُبٍ وشوقٍ ، ومعرفة أمورٍ عن عظمـة الخالـق ، أمـا كـل عظمتـه سبحانه ، لا يحيط بها عقـل مخلوق لا في الأرض ولا في السموات . وفي المواقف الصعبة ، ليتذكر قول الرسـول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) :
” ربي إن لم يكن بك عليّ غضب ، فلست أبالي ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك . يا حبيباه ، يا الله ، يا ربّاه ، يا رب العالمين ” .
لا كل ذلك ليس كثيراً ، بل هو قليل قطعاً ، إلى جانب عظمة الله ، ونعم الله ، وكرم الله ، ورحمة الله . ذلك كله قليل وقليل جداً ، إذا عرف التائبُ ـ مع اكتمال شروط توبته ـ أن الله عزّ وجلّ يبدِّل سيئاته حسنات ، ويضاعف له أجره ، ويزيدُهُ من فضله ، وهو ذو الفضل العظيم ، ويصلح بالـه ، ويصلح حاله ، وذلك كله بوعد منه سبحانه في كتابه العزيز :
{ .. أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ .. }(سورة يونس ، الآية 55) .
{ .. وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ .. }(سورة التوبة ، الآية 111 ) .
وهاتيك النتائج والحبوات والعطاءات ، معروفة بالتجربة المحسوسة ، يعرفها العارفون :
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا }( سورة الكهف ، الآية 29) .
* * *
ومـمّا هو من اختصاص العقل في الصميم ، وجدير بالعقلاء أن يُلموا به ويعقلوه، لكي لا يكونوا مـمّن قال الله تعالى فيهم :
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }(سورة الجاثية ، الآية 23).
قلت مـمَّا هو من اختصاص العقل في الصميم هو وجوب إدراك معنى الآيتين الكريمتين ، قوله تبارك وتعالى :
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً..}(سورة الأنفال ، الآية 25) .
وقوله عزَّ شأنه :
{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمـًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ..}(سورة التوبة ، الآية 115) .
ولنكون في ضوئهما بنسبة عالية ، لا بدّ من إيضاحات :
فواقع الحال ، هو أن كل مؤمن متعرض لابتلاءات ، وممتحن بامتحانات لا بدّ منها ، قوله تعالى :
{الـم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيـنَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }(سورة العنكبوت ، الآيات 1 ـ 3) .
وهذه الامتحانات قد تكون فردية ، كامتحان أيوب عليه السلام في نفسه وبدنه ، وقد تكون في بعض متعلقات الإنسان ، من أهل ومال ، كإمتحان إبراهيم في ذبح إبنه عليهما السلام ، الإبن الذي كان ما زال وحيداً ، وهو أغلى على أبيه من كل أهل الأرض آنذاك فاستجابا لربهما طائعين راضيين ، وكان الفداء العظيم للبلاء العظيـم . وامتحان سليمان عليه السلام في ماله الذي ضحىَّ به وهو من خير المال وأجمله ( الصافنات الجياد ) ، إذ أوقعه هذا المال في معصية الانشغال عن الصلاة ، فأعدمه وثاب إلى ربِّه خائفاً خاشعاً . وقد تكون في مواجهة جمهور من الناس ، على صعيد قرية أو أكثر ، أو مدينة أو أكثر ، أو شعب أو أمة أو العالم بأسره ، مواجهتهم بما لا يحبون . مـمّا يعتبرون أنه حدّ من حرياتهم المزعومة ، من دعوة للحشمة بدل التسيّب الأخلاقي والانتحار الجماعي بالفواحش ، أو دعوة إلى النظام بدل الشتات والفوضى ، أو إلى العدل والرحمة ، في أزمنة الظلم والطغيان والتشوّه وسفك الدماء ، إلى آخر ما تتعرض له المجتمعات البشرية في مراحل بعدها الزمني عن عهودها مع الله ومنـزلاته :
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }(سورة الحديد ، الآية 16) .
وإنما تكون هذه المواجهات بالنسبة للمكلفين على درجتين : الأولى :درجة النبوة وورثة الكتاب ، والثانية : درجة الفقهاء والعاديين .
فالدرجة الأولى هي التي تكون بأمر من الله بيّن لا لبس فيه ، عموماً هو الوحي والإلهام، فيختلف فيه التكليف وفق أزمنة المكلفين ومجتمعاتهم ، فتارة يكون بمجـرد توجيـه النـداءات وعرض التعـاليم المنـزلة ، مع تحمّل صنوف الأذى والائتمـار بالصـبر عـلى ردود الفعـل مهما كان شـرّها ، وذلك كما حصل لرسول الله عيسى عليه السلام ، وتارة يكون التكليف مُلْزِماَ بالدفاع عن الرسالة ، وهنا يضاف إلى ما ذكرناه عن تكليف المسيح عليه السلام ، أمر الله عزّ وجلّ بالدفاع عن الدعـوة إليه سبحانه وعن الرسـالة ، بأسباب القوة ، كالتكليف الذي كان لمحمد صلى الله عليه وآله ( بتبليغ الرسالة والقتال دونها ) . وفيه تكليف بتوجيه النداءات وعرض التعاليم المنزلة ،مع تحمل صنوف الأذى ، والائتمار بالصبر على ردود الفعل الشريرة، وفوق ذلك كله ، تكليفه بالتصدّي لقتال من يقف في وجه الدعوة إلى الله وحده لا شريك له، وقتال كل من يقف موقفاً عدوانياً من الله ورسوله ، والدين الذي أنزل على رسوله ، دين التوحيد أو الحنيفية ، وهي الاستقامة والعدالة والرحمة ، قال تعالى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }(سورة الحديد ، الآية 25 ) .
على أن ابتلاءات الأنبياء والرسل كثيرة ومتعددة ، بتعدّد الغايات منها ، سواء ما كان شخصياً متعلقاً بكل فرد من الأنبياء على حدّه ، أو ما كان منها ذا وجهين خاص وعام ، فوجه يخصّ النبيّ والآخر عامة الناس ، كأَنْ يكون درساً أو قدوة أو عبرة لأولي الألباب . وما دام موضـوعنا ليس سـرد أنـواع الإبتلاء ، وإنما معنى آيتي الجاثية والتوبة الآنفتي الذكـر ، فسنكتفـي بهـذا المقدار عن الإبتلاء الذي توخينا بـه أن يكـون مدخـلاً للكلام عن الآيتين الكريمتين .
ومن هذا الفريق ( الأنبياء والرسل ) ورثة الكتاب ، وهـم كذلك اصطفاهم الله سبحانه قبل ولادتهم ، لأدوار ، مثلما اصطفى الذين من قبلهم من النبيين والمرسلين ، واجتباهم ، وأورثهم الكتاب ، وذكر ذلك في كتابه الكريم مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وآله :
{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ . ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }(سورة فاطر ، الآيات 31 ـ 35 ) .
والمقصود من ظلم النفس في الآية الثانية ، لا هو من الكفر ولا من الشرك ولا من ظلم الآخرين ، وإنما من الظلم السلوكي الشخصي : من السيئات التي هي مع التوبة والإنابة ، يبدّلها الله سبحانه لمصلحة صاحبها بحسنـات . ويوضح ذلك سياق الآيات ، وصـولاً إلى قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ..} فهو سبحانه لم يستثن من المصطفين حتى الظالم لنفسه من دخول الجنة .
كما يوضح ذلك كثير من الآيات المتعلقة بتصريحات لبعض الأنبياء ، مثل قول إبراهيم عليه السلام :
{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ . وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }(سورة الشعراء ، الآيات 81 ـ 82)
وكلمة خطيئة قد تعني الجمع في اللغة ، ومثلها كلمة نعمة وغيرها ، قال تعالى :
{ وَآتَاكُـم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا }(سورة إبراهيم ، الآية 34) .
وقال سبحانه :
{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُـمُ الضُّرُّ فَإِلَيْـهِ تَجْأَرُونَ }(سورة النحل ، الآية 53) .
وواضح أن المقصود بكلمة ( نعمة ) في الآيتين الكريمتين هو الجمع أي النعم . ومثل هذا في اللغة كثير .
ومثله قول موسى عليه السلام عندما قتل رجلاً :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ..}(سورة القصص ، الآية 16).
إلى آخر ما هنالك من تصريحات الأنبياء ، وصريح النصوص عنهم في القرآن المجيد .
فإذا كان أفراد هذا الفريق ( الأنبياء والرسل وورثة الكتاب ) مبتلين ممتحنين وهم عند الله المصطفون الأخيار ، والمجاهدون الأبرار ، فكيف بأفراد الفريق الثاني ، عنيت الفقهاء وبقية الناس .
يعني ما أريد أن أوضحه ، هو أنه إذا كان الأقرب الأحب إلى الله معرضـاً ـ وهو بشر ـ للوقوع في المعصية [ كآدم عليه السلام ] ، والخطيئة [ كإبراهيم عليه السلام ] ، والفتنة [ كداود عليه السلام ] ، مؤاخذاً عليها أشد المؤاخذة أحياناً [ كحبس يونس عليه السلام في بطن الحوت ] ، وما خطاياهم ومعاصيهم بذات بال إذا قورنت بخطايا البشر العاديين وجرائمهم . إذا كان كل هذا الرصيد لا يشكل عليهم حصانة تقيهم العثرات ـ خارج نطاق الوحي ـ فتراهم دائماً أحوج ما يكونون لرعاية الله ، وعنايته وإرشاده وتسديده لهم ، فما هو رصيد غير المصطفين من الناس ، خاصتهم وعامتهم ، حتى يتصدوا لمواقف مصيرية ، بكثير من التحكم والمزاجية والغرور ، والزج بالناس من أتباعهم ومنافسيهم في أتون فتن ، فيها الدمار والحرائق وسفك الدماء ، أم لهم ضمان عند الله ، أم اتخذوا عنده بذلك عهداً ؟! …
وإذا كان من حق الأنبياء والرسل وورثة الكتاب أن يتبعوا وأن يطاعوا ، ومن واجب الناس أن يؤمنوا لهم ويتبعوهم ويطيعوهم ويجاهدوا في سبيل الله بين أيديهم ، ذلك لأن هؤلاء المصطفيـن ، يوصلهم سبحانه عبر مراحـل من التربية إلى درجة السداد والرشـاد، وندرة الوقوع في الخطأ ولو صغيرة ، وكذلك في المرحلة الأخيرة من تربيتهم ، عدم الوقوع في معصية أو خطيئة أو فتنة حتى خارج نطاق الوحي .
ولأخذ فكرة عن عظمة وأهمية هذه التربية ، التي يربيها سبحانه للمصطفين من عباده، نلخصها في سبع مراحل :
الأولى : الحياة العادية .
الثانية : الإشعار بالمسؤولية بشكل غير عادي .
الثالثة : التَبَتُّلُ ، وإخلاص القلب لله ، وإخلاص كلية الإنسان لله ، ثم الفناء
في فناء الله ، ثم الصحو بعد المحو ، ثم العطاءات من كرم الله ورحمته .
وهذه المراحل الثلاث قد يتوصل إليها أي إنسان يصدق في توجّهه إلى
الله سبحانه ، وقد شرحناها في مكان آخر من هذا الكتاب في مبحث :
” لا إسلام بدون توحيد ” .
أما المراحل الأربع الباقية ، فالله سبحانه اختصّ بـها أصفياءَه مـن عباده :
أُولاها : مرحلة : { إنِّي ذَاهِبٌ إلىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }(سورة الصافات ، الآية 99 ) ( لاحظ سين الإستقبال ) .
الثانية : مرحلة : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }(سورة الشعراء ، الآيات 217 ـ 218 ـ219 .).
( وفيها رعاية مباشرة منه سبحانه ولكن فقط في الصلاة والمواقف ) .
الثالثة : مرحلة : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ..}(سورة الطور ، الآية 48 ) .
( وفيها رعاية دائمة منه سبحانه في جميع حالات ذي العلاقة ) .
الرابعة : مرحلة : {..وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }(سورة التحريم ، الآية 4) .
والمعنى المتعارف في ” وإن تظاهرا عليه ” ( زوجتان للنبي صلى الله عليه وآله ) ، إلاَّ أن التأويل أعمّ وأعظم ، وهو الأصل ، إذ المقصود فيه ، الثقلان : الإنس والجن ، فهي عناية ربانية مباشرة ، في الأمور العظمى ، ثم حسب أهمية الأمور ، يأمر جبريل عليه السلام ، وصالح المؤمنين والملائكة ، بنصرة من يصطفيه من عباده ، له الحمد حمداً خالداً بخلوده .
ومع ذلك لماذا لا يتولى سبحانه كل ذلك مباشرة ، دون توسيط أحد من خلقه ، وهو الغني عن العالمين ؟ صحيح ، وإنما ذلك :
لأن { لَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَـاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(سورة الجاثية ، الآية 37) .
* * * *
بعد أن أخذنا فكرة عن تلك التربية الحكيمة الفذّة ، والحليمة الكريمة ، والتي منطلقاتها جملةً وتفصيلاً ، من قوله تعالى ، لمن يصطفيه أو يجتبيه أو يختاره :
{ ..وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }(سورة طـه ، الآية 39) .
لِيُصْبحَ بعد ذلك أهلاً للنبوة أو الرسالة أو وراثة الكتاب .
ليصير بعد ذلك قائداً ملهماً من الله بالحقيقة ، مسدّداً من الله بالحقيقة ، داعياً إلى الله وحده لا شريك له ، لا إلى نفسه ، ولا إلى طائفة من الناس ولا إلى مخلوق مـمّا خلق الله ، ولا إلى قضية فيها إثم أو معصيـة ، ولا إلى قضية فيها شبهة إثم أو معصية ، ولا مفرقاً بين المؤمنين ولا بين المسلمين ، ولا متجبراً ولا متحكماً ، ولا منفراً من دين الله بحزب يتقوقع فيه ، أو تنظيم يتسـلط من خلاله . بل يكون سمحاً بعيد المرمى ، واسع الأفق ، رفيقاً بقومه على علآّتهم ، متسامحاً مع جميع الناس على اختلاف مللهم وتوجّهاتهم ، ما لم يعتدوا ويفسدوا ويحاولوا إلغاء دين الله وطمس رسالاته ، داعياً المؤمنين لأن يسلكوا مسالكه ، عملاً بتعاليم الله سبحانه وتعالى ، ومنها هذا العجب العجاب من حيث أمر الله بالتسامح :
{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ }(سورة الجاثية ، الآية 14 ) .
ومنها : { ..وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }(سورة الحجر ، الآية 85).
ومنها : { ..وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ..}(سورة آل عمران ، الآية 159).
ومنها : { ..مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعاً .. }(سورة المائدة ، الآية 32) .
ومنها : {.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }(سورة فصلت ، الآيات 34 ـ 35).
ومنها : {.. وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مما رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ }(سورة الرعد ، الآية 22).
ومنها : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ . يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء . أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }( سورة إبراهيم ، الآيات 24 ـ 29) .
ومنها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }(سورة الحجرات ، الآية 6 ).
ومنها : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(سورة الحجرات ، الآية 10) .
ومنها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ }(سورة الحجرات ، الآية 11).
ومنها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}(سورة الحجرات ، الآية 12) .
* * *
إلى آخر ما هنالك من تعاليم ، تطهر القلوب من رواسـب الشـرك ، والنفوس من الحيـرة والشبهات ، والظن بأن النفع والضرّ بأيدي المخلوقين ، والواقع أنه حتى محمّد صلى الله عليه وآله أمره ربه سبحانه أن يقول للناس :
{ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } (سورة الجن ، الآية 21) .
فكيف بمن هم دون محمّد صلى اله عليه وآله منـزلة عند الله ، أو بمنـزلة محمّد صلى الله عليه وآله ، فإنهم قطعاً كما قال الله سبحانه لا يملكون للناس ضرّاً ولا رشداً .
بلى إن هذه التعاليم القرآنية ، تغسل القلوب من الرين ، وتزيل العتمة من النفوس المظلمة التي تعشعش فيها شياطين الحقد والعصبية والغـرور والأنانية ، والقناعة بوجوب إلغاء الآخر المنافس ، والحسد ، وبقية فروع الشجرة الشيطانية ، ولعل أبرزها أن يعتقد شخص أو مجموعة ، أو حزب أو تنظيم أنهم هم وحدهم يسندون أعمدة السماء ، ولولاهـم لوقعت على الأرض ، وأنهم هم وحدهم يدبّرون أمر الأمة ولولاهم لذهبت الأمة إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم . ويقرأون كتاب الله العزيز ، ويتلون فيه الآية الكريمة :
{ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }(سورة الرعد ، الآية 2) .
ولا يفهمون …
وخاصة قوله فيها سبحانه : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ } ، وكذلك قوله تعالى في مكان آخر :
{.. وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }(سورة الطلاق ، الآية 3) .
ولا يفهمون … أن الأمر في جوهره هو أمر الله من قبل ومن بعد ، وأن الله بالغه عاجلاً أو آجلاً ، وهو الأعلم به ، وقد قدّر الأمور تقديراً أدق مـمّا قد يظنون أو يحلمون ، وهو أسرع الحاسبين ، ولا يفهمون قبل كل ذلك ، في هذه الآية وفي كثير غيرها ، أن من معاني التوكّل ، الثقة بالله وحده ، وليس الإعتماد على شخص بعينه أو دولة بعينها ، أو شعب بعينه ، أو أية قوة من مراكز القوى الظنّية في الأرض أو في السماء من دون الله العزيز الحكيم ذي القوة والجبروت ، فإن القوة لله جميعاً وإن العزة لله جميعاً .
فمن أعزه الله ، فهو العزيز ، ومن أذلّه الله ، فهو الذليل ، وقد ينخدع بذلك ذو ضلالة ، إذا ظهر ظهـوراً مؤقتاً ، بقوة سياسية ، أو مالية ، أو عسكرية ، فيحسب أنه هو العزيز الكريم ، في وقت قد يكون فيه ، مـمّن مدّ لهم الله عزّ وجلّ في الضلالة ، أو مـمّن قال سبحانه فيهم :
{ وَمَاكَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ .. }(سورة التوبة ، الآية 115).
فيكون في جملة من أخبر عنهم سبحانه في سورة الدخان :
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ . طَعَامُ الْأَثِيمِ . كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ . كَغَلْيِ الْحَمِيمِ . خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ . ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ . ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }(سورة الدخان ، الآيات 43 ـ 49 ).
تقولها الملائكة تهكماً واحتقاراً للمتجبرين المتكبرين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .