الادراك نسبي في مراتب الخلق ..والعقل هو الأقدس

الادراك نسبي في مراتب الخلق ..

والعقل هو الأقدس

        لا شك أن العقل هو الميزة الكبرى  ، التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات إلاّ أن هذا  لا يعني عدم الوعي  أو الادراك النسبي لدى المخلوقات غير العاقلة من الجمادات ، إلى النبات إلى الحيوان ، إلى الإنسان الذي سخر له الله ما في السماوات والأرض جميعاً منه سبحانه .

        والحقيقة  أنه ثبت بوضوح  ، أن لا شيء في الكون  المعروف ، له صفة  الجمود الحقيقي ، من الذرة إلى المجرة ، بل  الأشياء كلها في حركة دائمة  دائبة . حتى تماسك الحديد الظاهري ، ليس هو كما نحسه ونفهمه ، بل هو ربما بالنسبة لمخلوق  أرقى من الإنسان  وأكثر إحاطة وأبصر ، سيبدو  مختلف  المظهر والملمس ، وقد تظهر ذرات الحديد لهذا المخلوق الأعلى من الإنسان كما تظهر لنا نحن ، عبر التلسكوب المجموعة الكوكبية في أبعادها عن بعضها في حركتها المتصلة .

  ــــــــــــــــــــــــــــ

(*) هكذا في النسخ وفي نهج البلاغة  : أو منقاداً لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه  إلخ .. والظاهر ان المراد منهم  هو المقلِّد إذ لا بصيرة له في دقايق الحق وخفاياه ، لعدم علمه بالبرهان والحجة فينقدح الشك . ( هذا التعليق في هذه الحاشية للفيض الكاشاني ) قدس سره .

       

        المناظير المكبِّرة  والمقرِّبة العجيبة  التي علّمها الله للعلماء  ، تحكي  حكايا من هذا القبيل . ومن هنا أيضاً  ، إن لهذه الأشياء  نِسَبٌ  من الوعـي ، درّجها فيها خالق كل شيء،   المحيط بكل شيء  ، الله العليّ القدير .

        ومن الأهمية بمكان  ، معرفة أن الإنسان  مجرداً من العقل  ، هو أرقى  وعياً وإدراكاً وغرائز ،  من جميع الكائنات المحسوسة  . أمَّا بالعقل ، فهو  أقدس من ذلك  ، إذ إن بالعقل صلته مع خالق الأكوان الملك القدوس  السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر .  فأرضنا هذه  التي نحن عليها  ، والصخور التي فيها  ، والجمادات ( ظاهرياً )  لها نسبة من الوعي  ـ إلاّ أن النبات أظهر حياة وإحساساً ، كما أن الحيوان  درجته وميزاته  على النبات  واضحة .  وهكذا ترجحُ  المعطيات التي عند الإنسان على الجميع  ، وعياً وإدراكاً وغرائز ، وإرادة ومنهجية . وكل ذلك بدون العقل  فالعقل شيء أقدس من كل ذلك .

        وهكذا ، فلم يعد عبثاً ، أو  مجازاً ، فهمنا لقول الله عز وجل ، للسموات والأرض  :

        { .. اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }(سورة فصلت  ، الآية  11) .

        وقوله تعالى :

       {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ،إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }(سورة الإسراء ، الآية  44).

        ثم قوله عز وجل :

       { .. وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }(سورة  يونس ، الآية  61) .

        

        فإذاً نستنتج  من الآية الأولى أن الأشياء واعية  والحقيقة  أنه لا معنى لتسبيح الأشياء  وهي لا تعي ما تفعل .

        حتى الحياة  ، هي مفهوم  نسبي أيضاً ، فكما نفهم  الحياة للإنسان وللحيوان والنبات بدلالة الحركـة وردود الفعـل  ، فكذلك هي للجمـادات ( الظاهرية ) وحتى  لأرضنا هذه وللشمس والقمر  وبقية الأجرام السماوية ،  وذلك أيضاً  في صريح قول الله عز وجل  في الآية الثانية .

        فكل هذه المجسمات  ، من الإنسان إلى المجرات  إلى بقية الكائنات  الأرضية والسماوية ، مبنية على الذرة  ، أو النظام الذري ، وأصبح معلوماً وببساطة  أن في الذرة حركةً لأجزائها  لا تهدأ . و ( الكتاب المبين )  المذيلة به الآية الكريمة  ، هو الحقائق الباطنية للأشياء  ، فضلاً  عن حقائقها الظاهرية ، ومن قبيل ذلك ، التركيب الذري للكون وأجزائه ، بما في ذلك أسرار  الذرة وأسرار أجزائها .

        وهكذا فإن جميع ما في هذا الكون  متناغماً ، متناسقاً ، يسبح بحمد ربه ، واعياً مدركاً  حقيقةً لا مجازاً .  إلاّ البشر فإنهم انقسموا فريقين : فريقاً للجنة  وفريقاً للسعير .

        إن درجات الوعي في الكائنات ، هي حقائق مرهونة بالألوان والأشكـال .  والجواهر هي معاني الحقائق ، وتفاعلها ونتائجها وتوجهاتها ضمن النواميس الإلـهية . ندرك  أن فيها من وجوه الحكمة  ، وإظهار سلطان  العقـل ، وقوة النفس إذا انقادت إليه وانعتقت به  ، فتحررت من حبس ما  تحت السماوات السبع إلى سدرة المنتهى  ، مرتمسة بنوره ، منغمرة برحمته ،  على أنفاس  مشتاق إلى الله  الحبيب الأبدي  ، في صعوده يخترق السماوات بصوته يقول : لا إلـه إلاّ الله .

        بلى ، هكذا فإن من خصائص العقل ، أن تنفتح  له السماوات بإذن  الله الحبيب الأبـدي . وهذا لا يقال عن النبـات أو الحيـوان  أو الإنسـان اللارباني ، فالنبات ليـس له  قدرة  علـى فهـم الحيوان  ، أو الإفـادة منه ، والحيوان يفهم النبات ومنافع النبات فيقبل عليه وكذلك يتفاعـل مع أبناء جنسه ،  ولكن دائماً  موجهاً بدافع الغرائز ، توجهاً  لا يخالفه مختـاراً أبداً ، وذلك لأنه ليس لديه الملكة التي تحدد له المسار والهدف ، يعني ليس عنده خيارات ، لأن ذلك يحتاج إلى نفس فيها قابلية أن تستلهم وتختار ، كم هي الحال عند إنسان النوع قبل أن يصبح ربانياً فإذا أصبح ربانياً ، تصنف درجة عليا دونها درجة إنسان النوع وما دونه نزولاً في سلّم الخلق .

        من مهمات العقل وحده إذن  ، المنهجية التي تؤدي إلى الكمـال ، الكمال الذي يتناسب مع العقل ، هذا الذي يسود ما دونه ، ويقود إلى الأبقى والأجمل .

       {..وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ..}(سورة التوبة ، الآية 72) لو كانوا يعلمون  .

*   *   *

        في عام  1975 صدر كتاب  ” لغز العقل ” .  لأحد كبار الاختصاصيين  في الدماغ الدكتور Penfield  ذكر فيه  ما مؤداه أن العقل قوة  غير مادية ،  وجودها خارج الدماغ والبدن ، وأن الدماغ وظيفته تتعلق بآلية البدن  ، بما فيها من الحس والحركـة  والمشاعر  وغير ذلك . فهو إذن ، بزعمه ، اكتشف  العقل ، ونحن إذ نقدر لبنفيلد  جهاده في رحلة  الاستكشاف ، هذه الفائقـة الروعة ، نشير إلى أمر بغاية الأهميـة ، هو أن بنفيلد لم يكتشف العقل  كمـا توهم ، وإنما هو اكتشف الطريق إلى العقل ،  هو اكتشف النفس  ، شأن كريستوف كولومبوس  ، الذي في رحلته المجيدة أيضاً  ، ظن أنه توصل  إلى جزر الهند الشرقية  ، بينما كانت الحقيقة  ، أن ما توصل إليه هو قـارة أميركا ،  وفوق ذلك ترك للعالم  ، أعظم شاهد عملي على كروية الأرض .

        ويبدو أن أبرز الأسباب  التي ساقت  بنفيلد إلى البحث عن العقـل وليس عن النفس أو عن كليهما ، ثلاثة : أولاً ، اختصاصه وتعامله مع الدماغ الذي كان يعني له العقل  ، كما صرح هو شخصياً .  وثانياً ، عدم إدراكه العلاقة  الغيبية  ، بين ماهية مفترضة للعقل ، وبين ماهية النفس ،  وثالثاً ، أنه  ليست لديه فكرة مسبقة عن عدد الأنفس  في الذات الواحدة  ولا عن خصائص هذه الأنفس  ، ودرجـة كل منها في مـراتب خلـق  الله عـز شأنـه ، كما عرفناها  من المشاهدة ، وتبعاً لذلك فهمناها من كتاب الله المجيـد والأحاديث القدسية  .