بسم الله الرحمن الرحيم
البحر
كنا نقمنا على التلفاز فيما كنا نكتبُ ونقول، لكثرة ما فيه من الأذى للعيون الطاهرة والنفوس النظيفة، وما زلنا على رأينا المبني على شريعة الله جلَّ جلاله . إلا أننا ، حين وجدنا أنه لزام علينا أن ننظر بعدل إلى هذا الأمر، ولا سيما – و هذا تحصيل حاصل – أن الله تعالى هو الذي ( علَّم الإنسان ما لم يعلم) وفي جملة ما علَّمه هذا التلفاز. فيستحيل أن يكون تعالى علَّم الناس الفحشاء والبدع ومدمِّرات الأخلاق بشكل عام، هذه المدمرات اخترعها الإنسان الذي هو من فريق الفسَّاق والمفسدين في الأرض، فلا بدَّ إذاً من إيجابيات كثيرة جداً أمكن أن نراها في التلفاز.
جاءَني هذا التعليل وأنا أشاهد يوماً على الشاشة التي لها عدة وجوه : أعماق البحار.
الحقيقة أن هذه المشاهدات، عمقت يقيني بقدرة الله المدهشة بل والمذهلة في خلقه وعلى خلقه، وإذا كان للإيمان حدود . . فاليقين بعزة الله وبقدرة الله وبعظمة الله ليس له حدود . .
فهذه المحيطات المتمددة المتموجة على ثلثي هذا الكوكب الذي هو أرضنا هذه، هذه المحيطات التي أعماقها توازي ارتفاعات الجبال، هذه المحيطات والبحار الصاخبة برياحها واعاصيرها حيناً، والهادئة الراكدة كبرك الزيت، هذه المحيطات والبحار فيها عالم، بل عوالم، ربما فيها حركة وغنى أكثر مما نعلمه على البر واليابسة عند البشر.
أما الحركة فأمر من العجب العجاب: لا فرق كبير بين حركة السمكة الصغيرة التي بحجم كفّك وبين الحوت الذي بحجم الفيل أو الجمل، من حيث السرعة واللياقة، والمناورة صعوداً و نزولاً وبكل اتجاه، في لجج الماء العميقة ، أو بين الصخور الدهرية، أو بين جبال ما تحت الماء.
تلعب الحيتان وتتزاوج، وتغضب وتتعارك، وتسالم وتصالح وتتوادع، وتعيش جماعات بقوانين عجيبة غرَّزها فيها خالقها ومبدعها الله تعالى، وقد تنعزل أفراداً لتعيش حرة بعيدة عن الجماعة، عن القطيع.
ومثل ألوان قوس القزح السبعة، تجد أسماكاً تتنقل باستعراضات رائعة، كأصناف الجواهر وربما أجمل، وقد ترى في السمكة الواحدة ألوان قوس قزح أو نصفها أو . . أو .. ولا ينتهي الجمال ولا يتوقف الاستعراض ليل نهار، فمن الأحمر إلى الأصفر إلى الأزرق إلى . . وكل لون كأنما في داخله ضوء، كأن الأسماك تضيء حولها، أو هي مضاءة.
ومن العجب كذلك، أن هذه الجواهر البحرية الحيَّة، لا تكبر ولا تتضخم، والأعجب من ذلك أن آكلات الأسماك تتجنبها، حتى أنها لا تزعجها. ترى، هل عند الحيتان ذوق جمالي وحس مرهف، مثل بعض الناس اللطفاء من أهل الذوق، الذين يتلافون قطف الزهرة أو دوسها أو إيذاءَها مثلاً. ومن العجب العجاب كذلك، أنك لا ترى في صفاء الماء، في اللجة، أو على أرض البحر قذارة، كما ترى من أهل الأرض من البشر، لا سيما من صغارهم، الذين أهلهم بدون ذوق.
ثم تخرج بصرك من الأعماق، وتنظر إلى سطح البحر على مدِّ البصر لترى سفينة أو مركباً أو أكثر من أنواع الناقلات البحرية، وقد نزل منها أناس في بقعة بحرية يعرفونها، ويقول الدليل البحري للمشاهدين، هذا بحر ماءٍ عذب، ربما يوجد نبع ماءٍ عذب في قاع البحر، ثم يقول ما يحيِّره هو وجميع العقلاء في الأرض ولا سيما علماء الماء كيف أن هذا البحر العذب الجاهز للشرب وبقية أنواع الاستعمال، لا يختلط بالماء المالح المرِّ من شدة الملوحة والذي هو يستغرق مسيرة أيام بلياليها. ليس بين البحرين العذب والمالح سدُّ ولا مانع يمنع الإختلاط.الحاجز بينهما لا شيء، ولا يقدَّر بسماكة، ربما هو جُزَيء من المليمتر، ذلك عمودياً من السطح إلى القاع. قدرة الله تتحدى جميع خلق الله، ولا أحد استطاع أن يستخرج لذلك مبدأ علمياً،ولا أحد كذلك استطاع أن يكشف هذا السرّ.
والله تعالى كما سخَّر هذه العوالم المائية لمئات الأصناف من الأسماك والحيتان وعجائب الحيوانات البحرية ، كذلك هو سبحانه سخَّر كل ذلك للإنسان: البحار والمحيطات وجميع ما فيها من المخلوقات. سخرها للإنسان القريبة والبعيدة، وسخرها لتحمل سفناً ضخمة تسير فيها كالجبال، وسخَّر أعماقها للغواصات العادية والذرية، وسخر مياهها شفافة صافية في النهار وفي الضوء في الليل، لترى الحيوانات بعضها وليراها الإنسان دون عتمة ولا سدود ولا قيود، إلا أنه قدَّر سبحانه أن يغرق سفينة أو يشطرها نصفين ويهلك بعض أو جميع من فيها، أو يجعلها أثراً بعد حين في أعماق المحيطات لمئات السنين وربما إلى الأبد. فيقول عند ذلك الناس، ويقول الإعلام غضب البحر فحصل كذا وكذا، والحقيقة أن البحر لا يغضب ولا يرضى، ولكن الذي يغضب ويرضى هو الله عزَّ شأنه وجلَّ جلاله.
إلا أن من أدهش المدهشات ما تراه على شواطىء هذه المحيطات وعند مصبات الأنهار الكثيرة الضخمة فيها. فعلى الشطآن البعيدة جداً عن حياة البشر الإجتماعية ترى مثلاً آلافاً مؤلفة من طير البطريق الذي يقف ويمشي باستقامة قامته كالإنسان،مع ثلاث ميزات مهمة تميّزه: منقاره العريض وجناحان صغيران قلَّما يتناسبان مع حجمه وحركته وكثافة الوبر على جسمه، وطبعاً ميزته الأساسية أنه أعجم أي لايستطيع الكلام. وهذه الميزة هي قاسم مشترك بين الحيوانات العجيبة الغريبة التي سيأتي ذكرها والتي تقودنا بقليل من التأمل وكثير من الثقافة الدينية، إلى فكرة أن هذه الحيوانات إنما هي مسوخ كانت بشراً يوماً ما، في الماضي البعيد أو الماضي القريب أو أمس أو اليوم.
واعدد على سبيل المثال من الحيوانات البرمائية التي تعيش جماعات، عجول البحر، حيث تتكاثر وتتناسل كغيرها من البرمائيات : ألوفاً مؤلفة على الشواطىء. وطبعاً هذا يذكرنا تماماً بالمسوخ البرية وأخصها القردة في الغابات وأشكالها وأنواعها الكثيرة، وسنتكلم عن هذا إن شاء الله تعالى.
إلا أن ما استوقفني كثيراً، وأطلق لتأملاتي العنان: التماسيح. والتماسيح اكثر ما تعيش في المياه العكرة، تترقب فرائسها. فهذا الحيوان الجبار البرمائي، هو إضافة لضخامته وصلابة بنيته، الأشد ظهراً وأقوى عظاماً وأوسع شدقاً و أحدَّ أسناناً وأنياباً، والأسرع انتفاضاً وغدراً. هذا التمساح الذي يعدُّ الأقوى والأكثر إرهاباً في الشطآن، لشدَّ ما يعاني لكي يحصل على قوته، أي رزقه وما يغتذي به، هذا الطاغوت لماذا يعاني كثيراً ويتعب وينتظر، حتى ليبدو عليه الغضب الشديد والشراسة الدموية، وهو يصطاد فريسته وينقض عليها وقد أخذ منه الجوع مأخذاً عظيماً؟ لماذا؟ وهو إن لم يجد فريسة وييأس من ذلك يأكل أولاده، يبحث على الشاطىء حيث تكون أماتها خبأنها في حفيرة في الوحل، فإذا وجد فراخه وتكون قد أصبحت بحجم القطط يخرجها ويأكلها واحداً واحداً.
اما الدببة، فمنها ما يعيش فوق جليد المحيط المتجمد وثلوجه المترامية أبعد من مدِّ البصر، على مساحات تستطيع أن تسميها صحارى ثلجية. ولا بد أن تنحدر هذه الصحاري انحداراً لا يكاد يرى بسبب المساحات الشاسعة، لا بد أن تنحدر لتنتهي عند الشطآن، وذلك بسبب توزع درجات الحرارة من القطب الشمالي ونزولاً إلى خط الإستواء، أي على منتصف الكرة الأرضية. فالدب القطبي، وفوق الصحاري البيضاء الثلجية، عندما يجوع ولا يجد ما يغتذي به، تراه يمشي ساعات متواصلة ليصل إلى الشاطىء حيث تتمدد عجول البحر بكثرة عجيبة. تتشمس وتلاعب صغارها وتعلمها على السباحة وعلى التوافق بين البر والبحر ولكن حصراً على الشطآن. فيأتي الدب ليختلس واحداً من صغارها ولكن بصعوبة بالغة، إذ تدافع العجول عن أنفسها بطريقٍ عجيبة، وأخيراً بعد شق النفس، يحظى الدب الجائع الشرس بعجل صغير غفل عنه أهله، فيمسكه من أعلى عنقه بأسنانه، ويذهب به بعيداً عن قطيعه، حيث يفترسه على الثلج الأبيض، فتحمرُّ بقعه منه إلى حين. ولا يختزنُ في الثلج، لأن الدبُّ إذا شبع اكتفى، وعاد من حيث أتى. هكذا غرز الله تعالى فيه هذه الغريزة. هكذا برْمجَهُ. أما الإنسان ، فأعطاه العقل، وحمَّله مسؤوليته، وبه يرفعه درجات ثم إلى النعيم، وبه كذلك يخفضه درجات، ثم إلى المسخ، ثم إلى الجحيم. والله أعلم، وهو سبحانه قد غرَّز غرائز الحيوانات، من أصغرها إلى أعظمها أحجاماً كالفيل وفرس النهر والحوت والأسد والنمر والتمساح ولو أردنا أن نعدِّد أنواع الحيوانات صغيرها وكبيرها وأنواعها وأشكالها ومناخاتها وأوطانها، لاحتجنا إلى موسوعات كبيرة، وقد لا تفي الموسوعات بذلك، لاسيما الكلام عن عادات الحيوانات وعن ذكاء أنواع منها وغباء أنواع اخرى، وعن فوائدها للإنسان كغذاء في أكثر أنواعها، أو فوائدها له كأعاجيب مما خلق الله سبحانه ومناظر مدهشة، وعبر لمن يعتبر.
معظم ما قلناه، كان كلاماً يتعلق بالبحار والمحيطات وحيواناتها، في عُبابها أو على شطآنها. إلا أن صورة من الجو من قمر اصطناعي من التي تغطي ثلث الأرض البرية، أو اليابسة كما يسمونها علمياً. فنرى – إذا كانت الصور تتجاوز المدن و أماكن السكن – نرى روائع ما خلقه الله تعالى على هذه الأرض من أجمل الجمال و أروع الروائع، لا سيما الأنهار التي تجري وتنحدر من شمال الكرة الأرضية نحو الجنوب لتصب في البحار التي تحدثنا عنها، بعجالتنا العلمية – الأدبية هذه، فتشكل الأودية العريضة العميقة، المزدحمة بغرائب االشجر والثمر والإخضرار في أمكنة، ثم تظهر هذه الأنهار في أمكنة أخرى من الأرض لتتألَّق في سهول فيحاء، تسقيها وتروِّيها، بأنهار صغيرة تنفرع من الكبيرة الضخمة، وبالسواقي التي لا يهدأ خريرها وأنغامها الشافية المعافية، إلا حيث تكون قد روَّت البساتين وأنواع الزروع التي تنتظرها لتتعانق معها بشوق الظمآن في وهج حرارة الشمس الساطعة.
ناهيك بالبرك العالمية و البحيرات، التي إذا نظر إليها من فوق كما قدمنا، رأى على وجه الأرض البرية إضافة إلى الأنهار، أدغالاً وغابات كثيفة، تكتنف مرايا شاسعة واسعة، في كل منها يرى كأنما الشمس غطست فيها، في كل واحدة ترى شمساً في أعماقها ، هذا إذا كانت السماء صافية والشمس في رائعة النهار.
أما في الليل، ولا سيما إذا كان القمر ساطعاً وفي شبابه تماماً، فترى في كل بركة أو بحيرة سماء تتجلى بقمرها ونجومها، أي أن القمر، يتعدَّد كما الشمس، ويصبح أقماراً، في كل مرآة كونية قمر.
يتسع مدى النظر بالإطلالة من فوق، وتصغر الأرض، وتتقارب آيات الجمال والروائع التي خلقها الله تعالى وجلَّ جلاله.
فهل الله سبحانه شاعر، هو علَّم الشعر للشعراء، وإنما حدَّد لهم وأطلق لنفسه؟! أم هو كذلك رسام علَّم الرسم ونكهات الجمال للرسامين، ولكن حددها لهم وأطلق لنفسه؟.
Ã
وخلق الله الجزائر
في مرحلة من العمر، كنا قرأنا قصة ذاك الطفل الذي توفي أهله وبقي وحده في جزيرة ليس فيها غيره من البشر، فأرضعته غزالة عثرت عليه وتولت أمره حتى كبر، وكنا نكبر معه، في أفكاره وتطلعاته أثناء تجواله ومشاهداته في تلك الجزيرة، التي تحيطها مياه المحيط من كل جانب، وتهدر الأمواج على شطآنها وصخورها العالية، وطبعاً كنا نتخيل ونتوهم دون أن نرى الحقائق على أرض الواقع. وكذلك قصة ” روبنسن كروزو في جزيرته النائية ” الكثيرة الشبه بسابقتها. ثم جاءَت السينما، وتبعها التلفاز، وسلطت على هذا وتلك الأقمار الصناعية، فرأينا من خلال كل ذلك حقائق الجزائر ومواقعها وأعاجيب ما خلق الله تعالى فيها، وأطوالها وأعراضها ومدى بعدها عن الشواطىء .. على أرض الواقع.
فجزر تشكلت منها دول عتيقة وعريقة، وقد عمَّرت أو مازالت معمِّرة مئات السنين. وهذه لم تجذبنا وكذلك لم تجذب كاميرات الفنانين الجماليين ولا حتى الأقمار الصناعية، إلا فيما يتعلق بنشرات الأخبار والسياسة والكلام عن المناخ.
أما الجزر، النائية، والتي سكانها قلة قليلة من البشر السمر أو السود، فهي الجذابة، وهي الأجمل على امتداد البحار التي تغطي كما قدمنا ثلثي الكرة الأرضية، تقريباً.
طبعاً أول من تحْذَر الكاميرات وأصحابها سكان الجزر من البشر، حتى يوفق الداخل إلى من يترجم بين الفرقين، وغالباً ما يأنس السكان الأصليين بالقادمين الجدد، ولا سيما إذا لم يكونوا من أولئك المستعمرين الصفر العيون، السود الضمائر، الذين أعماهم الجشع والطمع، فأصبحوا ولا همَّ لهم إلا سرقة العباد ونهب البلاد.
الباحثون العلميون والمهتمون بجمال الطبيعة، لا بدَّ أنهم ألطف سلوكاً وأرضى خلقاً، وسرعان ما يألفهم سكان الجزيرة المقصودة. طبعاً بالصوت والصورة الواسعة الملونة، تبدأ المشاهد مع دليل أو أكثر من السكان يستأجرون لاطلاع الباحثين على ما يريد هؤلاء اكتشافه، اول ما نرى الأكواخ التي من قش ومن جذوع الأشجار، الجذوع التي لم يأخذ المنشار كثيراً من رونقها الطبيعي. لشدما يحنُّ ساكن المدينة في العمارات الاسمنتية العالية، والتي غالباً ما تكون بدون حدائق ولو صغيرة، لشدما يحنّون ويتمنون السكن في مثل هذه الخيم البسيطة التركيب، البسيطة التوزيع، الهادئة الهانئة، حيث لا يشينها شارع مكتظ، ولا زحمة سيارات ولا أصوات أبواقها، ولا انحباس أنفاس المدن، وأجوائها الملوثة، إن لم يكن بأدخنة المعامل والمصانع، فلا بد أن يكون بعوادم السيارات وما تنفثه ليل نهار من الغازات السامة ولا سيما ثاني أوكسيد الكربون، الذي كادت باسمه تلفظ الحضارة آخر أنفاسها، على هذا الكوكب الجميل، الذي كان الله تعالى قد بارك به. أول ما خلق محطة للبشر، ولكن البشر دنُّسوه وشوهوه، حتى آل إلى ما آل إليه من سفه أهله وطغيانهم، وأطماعهم وجشعهم، وسفالاتهم في السياسة والإقتصاد والإجتماع، ولا سيما الفحش والجنس الذي بعث عليهم غولاً اسمه الإيدز، يهدِّد وجودهم ويذبح شرفهم وأخلاقهم في كل مكان. ثم .. يتباهون بديموقراطيتهم، ويدعون إليها ما تبقى من شعوب بريئة شريفة يدعونهم إلى هذه الديموقراطية الزنديقة، تارة بالإغراء والبغاء، وتارة بالقوة. على أنهم وقد أصبحوا كالوحوش الضارية، فإنهم غالباً يفضلون استعمال القوة.
نعود إلى الجزيرة، ومع التجوال فيها تبدأ المفاجآت والمدهشات. أول ما يقودنا إلى سفح جبل ثم يستوقفنا عند نبع ماء رقراق يتحدَّر من بين صخور متواضعة جميلة، فيها مقاعد طبيعية كأنما نحتتها يد فنان، والماء عذب صافٍ، يشكل أصغر من جدول وأكبر من ساقية، تنظر إلى مجراه حيث يصب بعد بضعة كيلومترات في البحر، فترى خطاً من خضرة العشب والشجر والنباتات التي تعشق الماء والشمس والهواء كالقصب، وما أكثره في نواحي الجزيرة، لذلك غالباً ما يجعلون منه سقوف خيمهم، ويتخذون من النوع الصلب منه أسيجة لمنازلهم، تعوَّدت الحيوانات الشرسة ان لا تقاربها لا ليلاً ولا نهاراً.
و تسير مع مجرى الينبوع قليلاً لتسمع أصواتاً غريبة آتية من فوقك، وتنظر، فترى في ذؤابات أشجارٍ عملاقة، وعلى فروعها الضخمة، مجاميع من القردة كبيرة وصغيرة، تتأرجح بالأغصان، وتتنقل من فرع إلى فرع، تارة معتمدة على أيديها وأرجلها، وتارة على أذنابها، تلفها على الغصن ثم تقفز حيث تشاء، وخلال ذلك كله، تحدث أصواتاً حادة كالعواء المتقطع، وتأكل من لباب الأثمار مما تحب وأكثر ما تحب الكستنا وجوز الهند، وهذه الثمار أشجارها عالية جداً وضخمة ومعمِّرة، كما إنها تحب الموز أكثر، وما أسرعها بتقشيره والتهامه.
وما أكثر أنواع القردة في غاباتها، وما أكثر أحجامها وأشكالها، على أن أضخمها وأشرسها الشمبانزي، فهو قبل أن يأنس بك يحتاج إلى ترويض كثير، فيصبح طيباً و ودوداً، إلا بعض الذكور منها فتبقى نافرة وذات مزاج ثقيل.
وإياك أن تقترب من أغال الجزيرة، والدغل عادة يكون في وادٍ وسيع وعميق بين جبال تكسو سفوحها حتى القمم غابات من أنواع الأشجار المعمرة، والمتداخلة ببعضها، لدرجة يصعب جداً بل يكاد يستحيل المرور فيما بينها إلا باستعمال قطَّاعات للشجر والفروع والأغصان، وكذلك لأنواع العليق والنباتات الطفيلية والشائكة. ولأن الأدغال عادة تنتشر في مساحات كبيرة وعلى شواطىء أنهار موحشة وعميقة، لذلك تكوِّن مأمناً للوحوش الضارية والطيور الكاسرة، أما في بقاعها الممتدة الشبيهة بالصحاري فتشكل مرتعاً و مرعى للحيوانات النباتية الجميلة السريعة العدو، مثل الغزلان والأيِّل ذي القرون المتشجرة، وحتى من قطعان الثيران البرِّية التي هي دائماً في حرب أو هدنة مع الضواري بأنواعها، كالأسد والفهد والنمر، فإذا شبعت آكلات اللحوم هذه، إستتب الأمن والسلام في الأدغال والبوادي إلى حين.
ويعاني أهل الجزيرة معاناة قليلة من سطو بعض الحيوانات الجائعة، التي تخرج في الليل وتبحث عن فرائسها، ويطيب لها مهاجمة الدواجن، فالضباع والذئاب مثلاً تغير على الماشية، خاصة الأغنام والماعز والغزلان المدجَّنة. والثعالب وابن آوى تهاجم أقنان الطيور وأقفاصها ولو كانت معلقة في أماكن عالية. ولكن ما يزعج أهل الجزيرة، وقد يخيفهم أحياناً، نمر يحاذي أسوار البيوت، أو أسوار الماشية الكبيرة كالأبقار والجاموس، فيتنادى إليه أهل الجزيرة رجالاً ونساءً، بالمشاعل المصنَّعة بالكاز الذي تبيعه لهم بطريقة التبادل، بعض السفن العابرة والمسافرة، والتي ترسو على شاطىء الجزيرة لوقت ما تتزود فيه بما تحتاج إليه ولا سيما الماء العذب والفاكهة النادرة، التي تلقيها السَّعادين من الأشجار العالية. والنمر أكثر ما يخاف من النار فيولي هارباً.
وأكثر ما يستهوي سكان الجزيرة، الرقص على قرع الطبول، ولأنهم ليس عندهم كهرباء، فطبيعي أن لا يكون عندهم وسائل للتسلية وهدر الوقت مثل السينما والتلفاز، ولا حتى راديو ترانزيستر ، فهم لا يعرفون من اللغات إلا لهجتهم المحلية وهي ليست من اللغات الحية المعروفة لذلك لا ينفعهم الراديو، لذلك هم قد برئت ذمامهم من العهر السياسي ومن دوامة الأخبار بما فيها من كذب ودس وتحريف للحقائق وفحش في الأخلاق والإقتصاد، و تآمر الدول الغنية على الدول الفقيرة، وتحويل الناس إلى سفلة وفسقة وفجَّار وكلَب على المال، ومتاجرة بالنساء ومتاجرة بالأولاد ومتاجرة بالدماء، وسفك الدماء ومع كل هذه القحة والوقاحات التاريخية وبدون أي حياء، يسمون كل ذلك حضارة، ويسمونها ديموقراطية. بلى سكان الجزيرة أشرف من أصحاب هذه الحضارة وأعقل وأعظم حرية وصفاءً ونقاءً من دعاة هذه الحضارة الزنديقية، والتي يحاولون تعميمها على جميع أهل الأرض . . وهم لا يعلمون أن غضب الله نازل عليهم وأنه يكاد يلامس رؤوسهم ويخسف بهم الأرض برمتها . . الا من رحم ربك، فهو سبحانه أرأف بالأبرياء مثل سكان هذه الجزيرة.
ولعل الأكثر سحراً حلالاً في الجزيرة، أصناف طيورها وعصافيرها. وفي مواجهة الطيور والعصافير واستعراضاتها وتنقلاتها وأصواتها وألوانها، يستحيل على المرء المؤمن بالدار الآخرة، إلا أن يتذكر الفردوس، أي الجنة التي وعد بها الله تعالى عباده الصالحين. الأزهى ألواناً في كبار هذه الطيور: الببغاوات ومن العجب فيها للمتأمل عميقاً، أنها تذكر بحركاتها ولعبها وأنسها بالإنسان، وتكرارها لما تسمع من كلمات، تذكر بالأطفال الصغار من البشر، ولذلك سرعان ما تصبح أليفة و وديعة، ناعمة الريش، حريرية الملمس، تحب اللهو والمداعبة، اما مناقيرها التي هي دائرية، فلا تستعملها إلا لتناول الطعام، والأحب إليها بذور ميال الشمس. اما بقية الطيور التي بحجم الببغاوات وأكبر منها، فهي جارحة آكلة للحوم مثل الفيران والحشرات المؤذية والأفاعي، وربما تنقض على صغار العصافير، لذلك إذا حطَّ النسر أو العقاب أو الباشق على شجرة، فرَّت العصافير في كل اتجاه، لتختبىء في نقرة جذعٍ هنا وجذعٍ هناك، وكذلك في الكُوى التي في الصخور وفي شقوقها، وهكذا يسود الصمت سويعة ما حتى يرحل الزائر الكبير. أما موسيقى البلابل وهديل الحمام وأنغام الشحارير، فتسمع . .وتسمع . . وتود أنك لا تبرح من تلك الأيكة التي تكثر فيها هذه الملوَّنات بالريشة الإلهية.
أما الحبارى والبط وأنواع من الطير المكتنزة لحماً والتي تتوالد وتفقس عدة مرات في السنة، وكأنما هكذا خلقها الله تعالى للأكل والغذاء، فهي أنواع مسموح صيدها بحسب قانون سكان الجزيرة، وبقية الأنواع من التي ذكرنا فيحرم عليهم أكلها وصيدها .هذه حضارة . . وما أحلى أن يتعلم عامة البشر من هؤلاء البدائيين.
وأخيراً ألا تتمنى مثلي، فراق هذه الحضارة الزنديقة الصاخبة الكاذبة، وتعيش طفولتك وصباك وشبابك وكهولتك مثل هؤلاء الناس الطيبين في جزيرتهم الجميلة النائية. ثم تموت بلا فحش ولا زندقة ولا سياسة ولا فلسفة ولاكذب ولا حقد ولا مخالفة للشريعة ولا معصية للخالق العظيم. فتجمع التمتع بالجمال في الدارين: دار الدنيا ودار الخلود.
وما ينافس أنواع الطيور والعصافير سحراً حلالاً وجمالاً، أزاهير و ورود الجزيرة، بعطورها وألوانها الخلابة، وأحجامها وأشكالها المثيرة. فهي نجوم الأرض كما أن الكواكب نجوم السماء، إلا أن نجوم الأرض، تُلامس وتُشم و تُضَمّْ، ويعبق أريجها في أجواء الجزيرة، حتى تدخل أنوف الناس هنالك. تراهم لذلك هم لا يمرضون؟! وهم ليسوا بحاجة لمستوصفات ولا مستشفيات ولا صيدليات؟! كل ما حولهم ينضح بالعافية: عافية الأنفس أولاً، التي تنعكس على عافية الأبدان. أي لون لا يستوقفك وأي عطر؟! تراك إذا كنت ذكي القلب لا تنفك عن ذكر الله وتسبيحه والشكر له. أسماؤها غريبة فهي بلغة أهل الجزيرة، فسمِّها أنت كما تشاء. المهم أنه يبقى في ذاكرتك شكل كل وردة وكل زهرة وكل نبتة ذات أرج، كما يبقى في الذاكرة كذلك، وهذا من أعاجيب خلق الله تعالى، يبقى عطر كل نوع من عطورها المتباينة، فتَعصُبُ عينيك ويقودك أحدهم بين الزهور، ويقول لك انحنِ هنا وشمَّ هذا، فتشم وتقول: هذا قرنفل، وهذا؟ -ياسمين، وهذا؟ – فلّ وهذا ؟ – غاردينيا، وهذا؟ – حبق، وهذا؟ . . وهذا؟ . . حتى تنسى الأسماء وإنما يبقى الطِّيب في أنفك . . لا . . بل في دماغك.
أما أنواع الفراش فمن أجمل الجمال، متعة للعين والقلب، فهي نجوم تطير، أو زهور تحلِّق هنيهة لتحط على زهرة أو على وردة، أو على غصن تتأرجح معه مع هبَّات النسيم وربما حطَّ بعضها على رأسك أو كتفك أو على أنفك. فتضحك سعيداً . . وتقول في نفسك: لعلها كرامة من الله سبحانه.
أما النحل . . صنَّاع العسل، فهم ينظرون إليه على أنه نعمة الله الكبرى، يكاد يكون مع الأسماك ولحم الطير، غذاءَهم الأساسي، إضافة إلى الفاكهة الطازجة من التين والأعناب والمانجو والاناناس، وهذان النوعان قد يغنيان عن الشراب من أي نوع، فضلاً عن الشراب الذي في جوز الهند، وبكلمة موجزة، فإن لكل فصل عندهم ثماره التي لا تنقطع. ولولا أنهم يشيخون بسعادة . . ويموتون لتوهمنا أن هذه الجزيرة هي من جنان الله . رزقنا الله وإياكم جنات الخلود . . الخلود؟! يعني الحياة بلا موت يعني السعادة أبد الآبدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
على شاطىء النَّهر
الجبل أخضر، لولا
صخور دهرية بيضاء ورمادية، كأنما هي أوتاد مشدودة إلى عمق الأرض ليستقر عليها هذا العنفوان الذي من زمُّرد.
وتحتار بين التمتع بهيبة القمم التي فوق السفوح، القمم الدهماء من شدة الخضرة، وبين خرير عذب، يشد سمعك وعينيك إلى النهر في أسفل الجبل، فبينما أنت تسبح الله نازلاً من القمم إلى السفوح إلى لجة النهر إلى القاع، تجد نفسك مأخوذاً بالجمال المدهش تسبِّح الخالق المبدع منتقلاً بسمعك وبصرك من القاع حيث الشمس تستحم، إلى اللجة، إلى صوت انسياب الماء هنا وتدفقه هناك، إلى السفوح الزمردية إلى القمم الدهماء، إلى الشمس التي في السماء، والتي تركتها منذ هنيهات غاطسة تستحم في قاع النهر، في قاع البركة الهادئة الصافية، التي تشكلت واسعة بين الصخور الشاهقة محروسة بالدلب والصفصاف. وإذا قد أبرَقَتْ في سفح الجبل، فيتبين أنه انعكاس أشعة الشمس على المرايا التي في النهر، في البرك الصغيرة والكبيرة، فأنت في وادٍ بين جبلين أو قل بين سلسلتي جبال، فإذا كان الضحى والشمس فويق مشرقها التمع البرق في السفح الغربي من الجبل، وإذا كان الظهر والشمس قد توهجت من الحر،غطست تبترد في البركة الكبيرة، وإذا كان العصر أبرقت عبر النهر في السفح الشرقي. وهكذا يبقى كل جمال يناجي الله تبارك وتعالى على مرِّ الساعات والدقائق والثواني، وأي شيء في النهر و واديه التاريخي و خضرته الدائمة وفي السفوح وقمم الجبال أي شيء ليس فيه جمال، بل روح الجمال، لذلك شطح الفلاسفة وبعض الصوفية أو العرفانيين حيث زعموا أن هذا الجمال في الكون والطبيعة هو الله، أو أن الله هو الجمال الذي في الكون وفي الطبيعة . بينما الحقيقة أن الله أعظم وأجل وأجمل من الجمال والكون والطبيعة، ولو كان في الحقيقة محيطاً بكل ذلك، ظاهراً وباطناً، إلا أنه سبحانه هو غير كل ذلك.