الحزن بين الخاصة والعامة

الحزن بين الخاصة والعامة :

          ونعود إلى قوله تعالى :  { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ }  لنقرر بهداية من الله سبحانه ، أن المقصود بهما الحزن والغضب . ولقد ثبت بعد التحقق من مجمل آيات القرآن الكريم ، أن هناك إشارات فيه كثيرات ، تدل عن النهي عن الحزن للواصلين ، وليس للسالكين . وليس حزن يعقوب على ولده يوسف عليهما السلام ، دعوة من الله إلى الحزن ، وليس من الواجب اتخاذه قدوة ، بل لعلَّ العكس هو الصحيح ، ولقد ذكرنا في مكان آخر ، البديل الأوْلىَ من الحزن والأحب إلى الله ، هو التسليم له سبحانه وحسن التوكل عليه ، ولا سيما بعد المقدمات التي كان خليقا ً بيعقوب (ع) أن يعتمدها (*) ، من مثل الرؤيا التي فيها وعد من الله واضح بجمعه بأولاده كلهم ، ثم سُجودهم كلهم لله بحضرة يوسف . وكان هو صدَّقها ووصَّى يوسف بصددها ما أوصاه .

          القرآن الكريم يدعو في عمقه إلى الفرح ، الله يدعو أنبياءَه وأولياءَه وعارفيه إلى الفرح ، أن يكون الله في قلوبهم ، يعني أن تكون قلوبهم غير حزينة ، حيث يكون الله يكون المجد والحب والفرح .

      أقصى ما في القرآن الكريم بين الحزن والفرح آية واحدة ، هي آية التوازن أو الإعتدال ، قوله تبارك وتعالى :

          { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأََرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . سورة الحديد الآيات ( 22 ـ 23 ) } .

          فقوله تبارك وتعالى { لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } فيه نهي عن الأسى وهو الحزن ونهي عن الفرح الذي هو البطر في حالة تجاوز حدوده .

          والحزن لون من ألوان الشقاء ، وقد نهى الله سبحانه عنه بوضوح في قوله تبارك وتعالى : { طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . سورة طه الآيات (1 ـ 2 ) } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)         أنظر كتابنا ” مفتاح المعرفة للدخول في عالم العرفان الإسلامي” الجزء الأول  .

          ولقد نهى الله ورسوله وعامة المؤمنين عن الحزن في  آيات عديدات نذكر منها ما يؤكد هذه الحقيقة . قوله تبارك وتعالى :

          { .. وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ . سورة النحل الآية 127} .

وقوله تبارك وتعالى :

          { .. فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ .. . سورة طه ألاية 40 } .

وقوله تبارك وتعالى :

{ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ . سورة العنكبوت الآيـة 33 } .

وقوله تبارك وتعالى :

{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . سورة آل عمران الآية 139 } .

وقوله تبارك وتعالى :

{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ . سورة الأنعام الآية 33 } .

 

{ وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . سورة لقمان الآية 23 } .

وأختم هذه الإشارات الواضحة بقوله تبارك وتعالى :

{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . سورة فصلت الآيـات ( 30 ـ 31 ) } .

          وفي القرآن الكريم ، إضافة على النهي عن الحزن ، حضٌّ على الفـرح وندب إليه ، وشرطه أن يكون فرحاً بالحق ، فرحاً بالله وبكلام الله وبكتاب الله ، وبكل ما هو مرضي ومقبول عند الله تبارك وتعالى ، من مثل نصره وآلائه وأنعامه وبشائره ووعوده ، ما يتحقق منها  على الأرض وفي الحياة الدنيا ، وما هو متوقع مرجوٌّ في الآخرة . قوله تبارك وتعالى :

          { يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ . قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ . سورة يونس الآيات ( 57 ـ 58 ) } .

          أما الفرح بلا إيمان ، والفرح  بلا تقـوى ، والفـرح بلا وقار ، والفرح بغير التعبُّد والشكر لله جلَّت عظمته ، هو فرح بغير الحق ، وهذا الفرح هو شأن المغنين والراقصين واللاعبين والماجنين ومشاهديهم والمستمعين إليهم ، هذا فضلاً عن الفاحشين والفاحشات على أعلى مستويات الإعلام في بلادنا وفي العالم ، وذلك بين الشـارع والتلفاز ، والفيديو وعامة بؤر وأجهزة الرذيلة . هؤلاء ، هذه الجماهير الغفيرة ، هي إلى الجحيم ، وهذا وعيد الله لهم :

          { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأََرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ . ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ . سورة غافر الآيات ( 75 ـ 76 ) } .

          أما أن النبيّ محمّداً (ص) بكى لموت ولده إبراهيم ، فهذا أمر طبيعي وبديهي ، وهو كان حزناً لساعته ، أو ليومه ، أو في أقصى الأحوال لبضعة أيام معدودات . ولكن غير الطبيعي أن يتخذ حزن النبيّ (ص) ذريعة لحزن طويل ، يصحبه أذى النفس وأذى للآخرين في أسرة الفاقد أو في المجتمع ، فضلاً عن أنَّ الحزن الطويل ، قد يكون إثماً ، لما فيه من معاني عدم الثقة بالله وعم التسليم لقضائه وعدم الرضى بحكمه ، ولو كان كل ذلك بشكل غير مقصود . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية  لوصايا الله تبارك وتعالى بعدم الحزن ـ كما أشرنا في الآيات الآنفة .