الحضارات بين الجاهلية والإسلام

الحضارات بين الجاهلية والإسلام :

 

        وإذ كنَّا قد ألمحنا إلى حضارتي الروم وفارس قبل الإسلام ، وذكرنا أنهما كانتا في جاهلية ، وكذلك جاهلية حضارة القرن الخامس عشر الهجري ، العشرين الميلادي ، فقد يخيل أن فيما قلناه تناقضاً ، لا سيما للذين يعتبرون الحضارة بمعناها الدنيوي ، غاية  وهدفاً ، حتى ولو كانت مفرغة من المفاهيم  الدينية المنزلة . والحقيقة ليست كذلك . قال تعالى :

{ أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْض ِ فَيَنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـاـقِبَةُ الّذينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أكْثَرَ مِنْهُمْ وأشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِي الأرْض ِ  فَمَا أغْنَىا عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ . فَلَمَّا جَـآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالْبَيِّنَـاـتِ فَرحُواْ بمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْم ِ وَحَاقَ بهم مَّا كَانُواْ بهِ يَسْتَهْزءُونَ. فَلَمَّا رَأواْ بَأسَنَا قَالُواْ ءَأمَنَّا باللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بمَا كُنَّا بهِ مُشْركِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَـاـنُهُمْ لَمَّا رَأواْ بَأسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَـاـفِرُونَ . سورة  غافر الآيات 82 ـ 85  } .

        فدليلنا هنا ،  قوله تعالى : { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَآثاراً فِي الأرْض ِ }  ثم قوله تعالى : { فَرِحُوا بمَا عِندَهُم مِّنَ العِلمِ }  وهذا كناية عما نسميه ( الحضارة ) ، أما قوله سبحانه { وَحَاقَ بهم مَّا كَانُواْ بهِ يَسْتَهْزءُونَ } فهو استهزاؤهم بالدين الإلـاـهي وأتباعه ، وواضح أن علاجه عز شأنه ، كان لأولئك وسيكون لهؤلاء ، بالبأس والشدة ، إما إستئصالاً ، وإما إسقاطاً  لدولهم  وهدماً  لأمجادهم ، وخزياً لهم

في الحياة الدنيا وفي الآخرة  عظيم العذاب .

        فالحضارة إذن ، بالنظر الإلـاـهي ، مهما تقدمت في مجالات الحياة ، عمرانا وسياسة وإدارة وإقتصاداً  وفتوحات علمية ، إذا لم تكن مرتكزة على الإيمان بالله واحداً لا شريك له وعلى دينه وشرائعه ، فهي في جاهلية جهلاء ، وبالتالي رهن بإنزال غضب الله وعقوبته عليها مهما طال بها الأمد .

        وبكلمة أخرى ، ان الحضارة الجاهلية ، التي هي عيناً الحضارة العلمانية ، يستحيل أن تستمر ثابتة على أسس الخير  والحق والجمال ، لأن منهجيتها ستبقى ناقصة  بنقص الإنسان الذي يرعاها ويوجهها وينظّر لها . فهي لا يمكن أن تكمل كمالاً إنسانياً إلاّ إذا أخذت بتعاليم خالق الإنسان ومكمل الإنسان ، الله الذي لا إلـاـه إلاّ هو الحي القيوم  وهو أحكم الحاكمين .

{ .. وَوَيْلٌ لِلْكَـاـفِرينَ مِنْ عَذَاب ٍ شَديد ٍ . الَّذينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبيل ِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أولَـائِكَ فِي ضَلَـاـل ٍ بَعِيد ٍ . سورة إبراهيم  الآيات 2 ـ 3 } .

        ومن أظهر الأدلة القاطعة في هذه المرحلة المعاصرة ، هو الهدم السريع ، والإنهيارالمدوّي ، لتلك الدولة الحضارية العظمى ، الإتحاد السوفياتي ( إحدى الدولتين الأعظم ) مع ما كانت تملكه من جميع المقومات العملاقة المادية ، إضافة إلى سيطرتها على حوالي نصف العالم ، والتي لم يكن يخطر ببال ملحد أو علماني  أو مشرك ، أنها ستسقط  كما سقطت بكلمة كن فيكون .