الشرك آفة البشرية :
قال تبارك وتعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ . وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } . [ 189 ـ 192 : الأعراف ] .
هذه الآيات الأربـع ، تتحدث عن آفة من الآفات الأعظم في تاريخ البشريـة ، هي الشرك بالله . تتحدث حديثـاً مجمـلاً ومفصـلاً في آن واحد . وذلك كذلك من عجيب القرآن وعظيم عجائزه . فأنت إذا قرأت هذه الآيات ناوياً في فهم المعنى ، أن الخطاب موجَّه لشطري البشرية : الذكور والإناث ، فما تكون جاوزت الحقيقة . وإن أنت اخترت كون الكلام عن الزوجين ، المرأة والرجل ، في الآيتين الأوليين هو المقصود ، كذلك ما كنت جاوزت الحقيقة . والأحسن من ذلك إن استطعت أن تستجمع الأمرين ، فتكون قد أحسنت باللحاق بآفاق الدائرة الأوسع ، والله يحب المحسنين .
وهذه بعض مضامين هذه الآيات ، أي الدائرة الأوسع للشرك ، التي يتحدث عنها سبحانه وتعالى عما يشركون :
أولاً عن نعمة من نعمه الكبرى ، هي مبدأ الزواج ، قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء … } . [ 1 : النساء ] . وقوله عزَّ شأنه : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم } خطاب لمجموع البشر في عمر البشرية.{مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } إنسانية مميزة عن سائر الخلق.{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.[189 :الأعراف ] .وقوله تعالى { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } من السكينة،أي الطمأنينة والراحة.و{ إِلَيْهَا } أي كل زوج إلى زوجه.وهذه النعمة التي هي قانون الزواج ،وبيت الزوجية،أعرف من أن تُعَرَّف بشرح ما فيها من استكمال لإنسانية الإنسان بالزواج ،من تلبية حاجات نفسية واجتماعية وأخلاقية ودينية.إذا توفرت فيها هذه الأركان الأربعة،شكلت الأسرة الصالحة ،والأسرة هي نواة المجتمع،كبر أم صغر،فإن كانت صالحة،نتج عنها المجتمع الصالح،حلم البشرية.وإن كانت ناقصة ركناً أو أكثر من الأركان الأربعة المتماسكة التي ذكرنا،لحق ذلك النقص بالمجتمع،فخسر العناية الإلهية،ومن ثم النصر الإلهي في الدارين :الدنيا والآخرة .وأجمل الكلام وألطفه وأرقاه ـ وهذا من البديهيات لأنه كلام الله ـ هذا الذي يصف فيه سبحانه علاقة الزوجين التي ينتج عنها الحمل في مراحله، قوله تعالى وتبارك:{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ}تغشَّاها من غشي الشيء أي اتجه إليه وغطَّاه،قال تعالى:{… يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ …}.[40 :النور].وقـال سبحانـه {…إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً…} .[10 :الأنفال].و { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ } فيه إشارة إلى الفوز بالحمل ، لبديهية خوف كل عذراء من أن تكون عقيماً ، فإذا تزوجت وحملت ، تجاوزت مرحلة الخطر ، ومرت خفيفة فرحة بحملها . ثم فيه كناية عن المراحل الأولى من الحمل ، قبل أن يظهر للناس ، وحتى لصاحبته ، إلاَّ لماما . {فَلَمَّا أَثْقَلَت } نفسياً وبدنياً { دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا } وهذه حقيقة تنسحب على جميع الأزواج في تاريخ البشر ، لأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وإن شوهوا هم هذه الفطرة بجنوح هنا أو انحراف هناك ، أو عناد أو جهالة هنالك . { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } يطمعان في مرحلة ظهور الحمل الذي يفرض عليهما تحريك مشاعرهما وتأملاتهما المستقبلية ، فيسألان الله ربهما عزَّ وجل ، أنه لو رزقهما ولداً سوياً ـ وكأنهما ينذران نذراً،أو يعدان بشيء مقابل هذا العطاء ، ويعلمان أن أفضل شيء يقابلان به هبة الله ونعمتـه ورحمتـه هي الشكر له سبحانه ـ فذلك قولهما { لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } وهذه حالة عامة تشمل جميع أجناس البشر في جميع مراحل تاريخهم على هذا الكوكب .{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } فالزوج يقول أنا الذي أنجبت ولي الفضل في ذلك ، وكذلك الأم تقول.فهذا أول الشرك،ثم يُثَنَّى ويُثَلَّثُ ويزيد،فيكون الفضل للقابلة ، ثم للساحر والساحرة في عافية الولد ونموه،فيما مضى،وللملح والريحان والزيت في مراحل متوسطة من القرون.وللطبيب والمستشفى ونوعية الحليب والدواء في أيامنا الحاضرة.ثم النذور للأولياء والأنبياء والأئمة الذين جعلوهم مكان الله،يسألونهم الشفاء والعافية.ويربطون أطفالهم بشجرة يزعمون قدسيتها،أو صنم اتخذوه إلهاً، أو قبر لولي هنا ولنبي هناك.ويتقربون إلى من يعتبرونهم شفعاءَهم بالذِّكر والصلوات والعبادة وغير ذلك مما تفرزه البدع والجهالات ووسوسات الشياطين،شياطين الإنس قبل شياطين الجن.وواضح في جميع ما ذكرنا،أنه ليس لله نصيب من توجهاتهم ولا من شكرهم ولا من توكلهم ولا من استغاثاتهم،ولا من رجائهم في أي أمل يأملونه أو طلب يطلبونه.هذا كله بعد أن يكونوا قد وعدوا الله سبحانه بأن يكونوا إذا رزقهم هذا الولد أو ذاك من الشاكرين،فرزقهم فأصبحوا من الكاذبين.وجعلوا له سبحانه فيما رزقهم شركاء في العطاء،وشركاء في الخلق، وشركاء في الشفاء … إلى آخر أنواع الشرك ، { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } من جميـع خلقـه من أصنام وأنصاب وأوثان ، ومن ملائكة وأنبياء ، وأئمة وأولياء.
ثم يطرح الله عزَّ وجل سؤاله الناقم والمتحدي على البشرية في كل زمان ومكان ، قوله تعالى في الآية الثالثة :{ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقونَ }. جميع هذه الأصناف التي يشركون بها الله عزَّ وجل ، معلوم أنها لا تخلق شيئاً من هذا الخلق ، حتى أرقاها : الأنبياء والأولياء ، لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون . ثم بصدد النصر الذي كنا نعالج مفاهيمه ، يتابع سبحانه في الآية الرابعة : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } فلا الأنصاب والأوثان ، ولا الأئمة والأنبياء ، يستطيعون نصر عابديهم أو تابعيهم ، في أي مجال من مجالات الحياة الدنيا والحياة الآخرة . وحتى أن هؤلاء الأسياد جميعاً ـ حسب اعتقاد كل فئة ـ لا يستطيعون النصر حتى لأنفسهم . وما دام الأمر كذلك ، فهم حتماً لا يستطيعونه لغيرهم . فالناصر وحده هو الله سبحانه ، له العزَّة جميعاً ، وله القوة جميعاً ، وهو السميع البصير ، وهو على كل شيء قدير ، وليس لأحد من خلقه ولو واحدة من هذه المعاني ، ولا من أسمائه الحسنى، فسبحانه وتعالى عما يشركون.
وهو تبارك وتعالى أنذر هؤلاء وهؤلاء في تاريخ البشرية ، وألقى الحجة عليهم ، وتحداهم بقوله عزَّ وعلا : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . [ 194 : الأعراف ] . وطبعاً لن يستجيب أحد من دون الله، سواء من الأصنام، أم من العقلاء الأنبياء والصالحين : قوله عزَّت عظمته : { إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } . [ 14 : فاطر ] .
هـذا ، ولبيك اللهم لبيك ، طاعةً لك وائتماراً بأمرك سبحانك حيث تقول : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . [ 55 : الذاريات ] . فما أكرمك ، وما أحرصك على المؤمنين وما أرحمك بهم . حتى ولو انزلقوا إلى شرك
ظاهر أو شرك خفيّ ، فبتفقدك لهم ، وبتذكيرك إياهم ، سرعان ما يعودون إلى صراطك المستقيم بمشيئتك وفضلك ، وأنت ذو الفضل العظيم . أما من يركب رأسه ، وتغرّه نفسه ، ويقوده عناده ، ويحجبه عماه ، ويهلكه تعصبه وعصبيته ، ويدَّعي أنه إنما كان بتعبده لغيرك ، وبدعائه غيرك ، يتقرب إليك زلفى ، فبحسبه قولك سبحانه : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } . [ 3 : الزمر ] .
* * *
وعَوداً إلى ما بقي من الآيات المتعلقة بوقعة أُحد ، قوله عزَّ وجل : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . [ 161 : آل عمران ] .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغل بفتح الياء وضم الغين ، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الغين . ونحن اعتمدنا القراءة الثانية بإذن الله تعالى ، وإليك التفصيل :
فعلى القراءة الأولى { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } تحذير أو تنبيه للنبي من أن يخون . هذا باعتبار مناسبات النزول المزعومة ، وعندنا ، أنه لما كان الله عزَّ وجل قال في رسوله محمّد (ص) : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }. [ 4 : القلم ] ، فمع هذا القـول تسقط القـراءة الأولى : (يغل ) ، ويمتنع معها أن يكون الكلام تحذيراً أو تنبيهاً لمحمّد (ص) .
وإذن،تبقى القراءة الصحيحة:( يُغَل) بضم الياء وفتح الغين.وعلى هذا الأساس يكون معنى قوله سبحانه{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يُغَلَّ }أي أن أيّ نبي ما دام الله سبحانه علَّمه وخلّقه ونبَّاه،وباختصار،ما دام نبياً فلا يجوز أن تظن به الخيانة،سواء في الأخذ من الغنائم،أم في توزيعها على المستحقين،أم في أداء الوحي كاملاً غير منقوص،سواء سألوه أن يطوي بعض القرآن الذي فيه عيب دينهم وسب آلهتهم ، أو أنه طمع بمداراتهم فتمنى أن ينزل الله ما يريدونه هم،لا ما يريده الله جلَّ وعزَّ شأنه .
أما قوله تبارك وتعالى : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ففيها إطلاق . أي أن قوله سبحانه : { وَمَن يَغْلُلْ } أي يخون الله بتخوينه رسوله (ص) ، أو أن يأخذ أو يختلس شيئاً فوق حقه من الغنائم التي هي شركة للمسلمين حسب الشريعة المرعيَّة ، أو أن يكذب على الله أو على رسوله أو على المسلمين ، فمن يفعل ذلك أو شيئاً منه { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، فإن كان من الأشيـاء الوازنة ، حمله ثقلاً على نفسه ، وإن كان أمراً معنوياً ، حمل وزره تشهيراً به وتعذيباً بنسبته ، وذلك قوله تبارك وتعالى :{ … ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . [ 161 :آل عمران] . أما نفس النبي (ص) فعند سدرة المنتهى في أعلى عليين ، قوله تبارك وتعـالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
[ 5: الضحى ] عطاءً مطلقاً ،عطاءً بلا حدود ،يتناسب مع تكريم الله وكرمه لرسوله محمّد من جهة ،ومع إنسانية محمّد (ص) من جهة أخرى .
أما بقية النفوس،فإن مدى اعتقاد كل إنسان وعمله،يحددان درجته عند الله عزَّ وجل،وبالتالي قربه أو بعده من منـزلة رسول الله (ص) عند ربه المجيد رب العالمين.هذا منذ محمّد (ص) وإلى يوم القيامة .
يتضح ذلك في أحرف النور التالية،قوله تبارك وتعالى في سياق آيات أُحُد :
{ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .[ 163 _164:آل عمران ] .
قولنا:يتضح في أحرف النور…عنينا به هاتين الآيتين،كما أننا نعني جميع آيات كتاب الله المجيد،وإن كان هناك تفاوت في أسرار النور،وبين نور ونور،إلاَّ أن كتاب الله بمجمله هو نـور منـزل من رب العالمين:قوله عزَّ وجل :{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.[8:التغابن ] .وقولنا هذا ، هو في صـلب الإجابة عن السؤال الذين طرحناه من قريب : [ لماذا الآيات ، ولماذا القرآن ؟ ] فالقرآن وآيات القرآن ، هي ببساطة وبقوة ، لإخراج الناس من ظلمات الجهالة ، وعتمة الغفلة ، وهي لكشف غيوب ما كانت لتكشف بدون آيات القرآن ، ولضبط معارف ، ومفاهيم ، وأخذ العلم اليقيني ، بمعادلات ومقارنات ، لفهم أحوال ومصائر ، يصير إليها الناس ، على فروق بينهم واختلاف درجات ، ما كنا لنعرفها ونطمئن إلى الحقائق النجلاء فيها ، لولا أنوار القرآن وأنوار آياته . قال سبحانه : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } . [ 9 : الحديد ] .
وفي سياق آيات أُحُد ، وضمن الإجابة عن سؤال : [ لماذا الآيات ولماذا القرآن ] هاتان الآيتان : { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ … } وواضح أنها مقارنة بين شطري البشرية في تاريخها : السعداء والأشقياء . فالسعداء سعادة الأبد ، هم الذين اتبعوا رضوان الله ، أي أعلى درجات رضاه . واتِّباع رضوانه سبحانه ، يعني أقصى الحرص على طاعته وتوحيده بدون شرك لا ظاهر ولا خفي ، والجهاد في سبيله ، بين جهاد النفس بهدف إيصالها إلى الكمال الذي هيأها الله له ، وهيأه لها ، وبين مجاهدة أعـداء الله وأعداء دينه ، بالنيَّة وروح الفداء ، والقوة والسلاح والكلمة . بأقصى ما يستطيعه كل مؤمن من موقعه .{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا… } [ 286 : البقرة ] . أما الشطر الآخر ، الأشقياء شقاء الأبد ، فهم الذين باؤوا بسخط منه جلَّت عزَّته وكبرياؤه ، أي عادوا من حيث أتوا ، بعد إهباطهم إلى الأرض ، عادوا مكذبين ومعاندين ، وأهل نفاق ، عادوا كفرةً فجرة ، ومن كان كذلك ، لا يؤوب برضى من الله ورضوان ، وإنما يؤوب بسخط الله ، أي غضبه ولعنته . وبديهي أن ينفِّذ الله سبحانه وعده ووعيده، فيعود أهل رضوانه إلى رحماته وجناته وفراديسه ، ويصير أولئك الذين باؤوا بسخطه وغضبه إلى جهنم ، وما أوجعها من نهاية ، وما أبأسه من مصير . ذلك هو بعض مضامين قوله تبارك وتعالى في هذه المقارنة بين شطري البشرية : الصديقين السعداء ، والمكذبين الأشقياء : { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . أما الآيـة التي بعدها ، قوله سبحانه : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } فيشمل الفريقين : الذين اتبعوا رضوان الله ، مأواهم درجات النعيم ، والذين باؤوا بسخط من الله ، مأواهم درجات الجحيم .
وفي سياق آيات أُحُد النيِّرات ، قول الله تبارك وتعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.[ 164 : آل عمران ] .
لله تعالى وحده ، الفضل على المؤمنين وعلى العالمين ، بإرساله محمّداً (ص) نعمة ورحمة للناس كافة ، ولمَّا آمن من آمن وكفر من كفر ، أصبحت نعمة الله ورحمته التي هي إرسال محمّد (ص) ، نعمة على المؤمنين وحدهم ، لأنهم وحدهم انتفعوا مما أنزل الله على رسوله من الآيات ومما علَّمهم وزكَّاهم ونوَّر قلوبهم بالحكمة وبالعلوم الحقة ، بعد إذ كانوا في ضلالة عمياء ، وجهالة جهلاء . وستبقى قلوب المؤمنين ، ما داموا مؤمنين ، مستنيرة بالله وبما أنزل الله ، وستبقى قلوب الكافرين مدلهمة مظلمة ، والنور نعيم ، والظلام جحيم .
ويستفاد من قوله عزَّ وجل : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ …} أن الفضل كله جميعاً على المؤمنين ، هو لله وحده ، وليس لمحمّد (ص) ولا لغير محمّد في هذا المنِّ ، أي الفضل والإنعام شيء . بل هو فضل الله وحده ورحمته على محمّد (ص) بشكل خاص ، قوله تبارك وتعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِـدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيـلاً . إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } .
[ 86 ـ 87 : الإسراء ] . وهو فضل الله وحده ورحمته على المؤمنين بشكل عام ، قوله جلَّت عظمته : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْـمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشـَاء وَاللَّهُ سَمِيـعٌ
عَلِيمٌ }. [ 21 : النور ] فقوله عزَّت قدرته : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا … } إلى قوله تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا … } هو خطاب لجميع من آمن مع محمّد (ص) ، ولجميع من آمن بعد محمّد (ص) إلى قيام الساعة .