العلاقات الوظيفية بين العقل والنفس والدماغ :
ولكن الدماغ هو ( اللب ) الأوسع نشاطاً ، أو هو المفاعل الأعلى خطراً في عالم الجواهر المادية . فهو مركز التبليغ والترجمة والتفسير ، إضافة إلى الإحساس والذاكرة ، والعواطف والقدرة على الحركة ، فإن ضاق عن العقل تحول إلى الآلية والغريزية بنسبة ما يضيق ، وبقيت له هذه الأمور كما هي للدماغ الإلكتروني أو المخلوقات الغريزية الراقية .
أما العقل ، فهو الروح المؤيد بعلم الفطرة ، السابقة على البدن ، ومن ميزاته إدراك الحقائق المجردة ، البسيطة والمركبة ، غير مستقل عن ربه تبارك وتعالى ، خالد ، يغضب ويتأذى ، ولكنه لا يتعب ولا يتعذب ، تأخذ منه خلايا الدماغ توجـيهاً وتعـليماً وهداية حسـب استعـدادها ، يرجـع إلى ربه ، والنفس هي التي تسعد أو تشقى ، ووظيفته دعـوة النفـس إلى خالقهـا الله الذي لا إلـه إلاّ هو ، ومقاضاتهـا بتعاليمه سبحانه مبيناً لها الحق من الباطل ، والمطلوب من السـلوك في معراج العبـادة ، موصلاً إياهـا إلى أعلى درجات اليقين والعلم ـ في حدود العقل الإنساني ـ والسعادة الحقيقية في الدارين ـ قول أحد العارفين : لو عرف الملوك سعادتنا لقاتلونا عليها بالسيـوف ـ كل ذلك برموز تفهمها جميع لغات البشر ولهجاتهم ، هذه الرموز يقوم الدماغ بترجمتها بناء على ما عُلِّم ولُقِّن ، ليقدمها للنفس باللغة التي ترتاح إليها ، وذلك أثناء إلتـزام النفس بكلية البدن والجهاز العصبي . أما إذا تحررت النفس ، فلا تعود بحاجة إلى الدمـاغ ، ولكنـها تحتفظ بأدائـه ، وتفهم لغـة الرموز الكونية بدون ترجمة ، فضلاً عـن إمكانيـة تعبيرها بأيـة لغـة شاءت لم تكن تعلمتها في حال الإرتهان .
وإن العلاقة بين العقل والدماغ ، هي علاقـة الطاقـة الغيبية الموجّهـة لبرمجة مفاعلها الأرقى في جواهـر المادة . والنفـس هي التي تسبب انفتـاح الدماغ على العقل أو انغلاقه دونـه ، أو جعلـه في حـالات بين الحـالتين . يعني يكون هذا الـواقع المتكيـف ، رهن بمـدى إقبال الإنسان على ربه ، أو تباعده عنه جلّت عظمته .
وفي حال تلبس النفس بكفر أو شرك أو استكبار ، أو الوقوع في هوى أو إثم ، ينشغل الدماغ والنفس بالحدث منصرفين عن العقـل ، فتفقد النفـس بذلك الهـداية والسـداد والرشـاد ، وتحاول الإستئثار ضالـة ظالمـة بموقع القيادة ، مأذوناً لها بذلك تبعاً لاختيارها وتنكرها لولاية الله ورعايته ، فيتخلى عنها الله امتهاناً وإمهـالاً وتحجيمـاً ، وليس إهمـالاً أو تفويضاً ، وفيها قـال سبحانه :
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ،قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }(سورة الشمس ، الآيات 7 ـ 10).
ومن حيث رعايته سبحانه ، للأنفس البارة النقية المجاهـدة ، وخذلانه للأنفس الجاحدة المعاندة البهيميـة في الحيـاة الدنيـا وعند المـوت ، وحين الانتقال من محطـة الأنفس ، هذه الأرض الدنيـا إلى الأرض العليـا على اختلاف درجاتها ، قوله تبارك وتعالى في الأبرار :
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ..}(سورة النحل ، الآية 32) .
{ يَا أَيَّتُهَا النَّفـْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعـِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيـَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ،وَادْخُلِي جَنَّتِي }(سورة الفجر ، الآيات 27 ـ 28 ـ 29 ـ 30) .
وقوله سبحانه في أهل الضلالة :
{.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }(سورة الأنعام ، الآية 93) .
هنا يخطر سؤال مهم ، هـو كيف يكـون مستوى الإنسـان الفكري والإنساني عامة ، إذا هو لم يقلع عن غيِّـه ولم يعقل ؟ والجواب ، ولو أنه قد مر موزعاً خلال البحث ، إلاّ أنه ينبغي إيجازه بالقـول : يكون شأنـه كشـأن حيوان راق متحضر ، متعلم ، أمثال الأنواع العليا من القـردة ، إنما يميزه شكله الإنساني وذلاقة لسانه وقلمه ، وكثرة الأرقام التي يتعامل معها ، والمهارات التي يباشرها في شتى حقوله ، وكذلك حجم دماغه المتناسب مع بدنه ، وقد تتراوح هذه الحالة بين التضيّق في التعامل مع العقل ، مع رحمة الله وسمائه وأسمائه ، وبين تجافي الإنسان وتباعده عنها ، ثم انقطاعه بشكل نهائي ، حيث لا يفلح بعد ذلك كيد في إذهاب غيظ . قوله تعالى :
{ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }(سورة الحج ، الآية 15) .