الفصل بين المحكم  والمتشابه

الفصل بين المحكم  والمتشابه :

        مما تقدم  ، يمكن  فهم الفرق  بين المحكم والمتشابه في القرآن ، أي ( الكتـاــب) ،  وبين العام والخاص ، وبين الناسخ والمنسوخ ، الخ … فان المحكم والعام والناسخ ، أمور وأحكام  هي  ( أم الكتـاــب ) ، وهي للنشأتين  : للناس في الجنة قبل الإهباط  ، وللناس في الأرض بعد الإهباط (1)  .

        وأما المتشابه والخاص والمنسوخ ، وما شاكل ، فهي أمور  متعلقة بخصوصيات هذه الأرض الدنيا ، وخصوصيات أهلها بعد الإهباط ، ولله في خلقه شؤون .

وفي رأس المتشابه  ، تلك الأحرف النورانية أو المثاني ، وقد اختص الله سبحانه ، بسبع منها (2) ، رسوله محمدا (ص)  مع القرآن العظيم  ، قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَـاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالقُرْءَآنَ العَظِيمَ  . سورة  الحجر الآية 87 }  وقد يختص  غيره في الغابر والحاضر . ومن  وجوه أسرارها  العليا أنها من أسماء الله الحسنى  ، ويختص الله بها  من يختصه من عباده ،  بعد أن يفنى في فنائه وحبه ، ثم يبعثه الله (3)  وقد أصبح في الحياة الدنيا مؤهلاً  لذكره عز شأنه بهذه الأسماء  العاليه ، أو  الثناءات  أو ( المثاني )  كما سماها في القرآن  الكريم . وذلك بترتيب  لها وطريقة ، يستحيل على الناس  التوصل إليهما ، إلا بتوفيق وهداية  منه سبحانه  وتعالى عما يشركون .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)       أنظر  كتاب ( العقل الإسلامي )  للمؤلف .

(2)       شرحناها في مكان متقدم  من هذا البحث  ، عندما شرحنا حرف (من) في الآية  الكريمة : { وَلَقَدْ آتَيْنَـاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي  وَالقُرْءَآنَ العَظِيمَ . سورة الحجر الآية 87  .

(3)       هو ( الصحو بعد المحو )  بلغة أهل العرفان  .

وسنذكر لاحقاً  إن شاء الله ، بعض  ما يمكن ذكره ، من بقية شؤونها ، و أغراضها  وأنبائها  الجليلة .

        وفي رأس المحكم آيات  التشريع .

فإذا نحن استطعنا أن نحدد آيات متشابهات ، كانت سبباً للفتن الداميات المدمرات  لهذه الأمة ،  نكون من جهة قد جعلناها نموذجاً عملياً لأكثر المتشابهات ، التي  اتبعها وما زال يتبعها  الذين في  قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها تأويلاً يحكمه السفه والضلال  وهوى الأنفس . ومن جهة ثانية ، نكون قد فتحنا باباً واسعاً على فردوس بحث من فراديس القرآن ، غني بأنهاره وأطياره ، وكل خير وكل جميل .

وعلى هذا الأساس  ومع جلاء آيات التشريع المحكمات ، يتضح القسم الكبير الثالث  من القرآن المجيد ، الذي لا هو محكم  ولا متشابه ، وهو يشمل  في جملة ما يشمل ، القصص والفلك والأمثال ، وغير ذلك من مواضيع هذا الكتاب المعجز الزاخر بالعظائم ، والذي لا تنفذ  مناجم  لؤلؤه ولا ينابيع أنواره .

فمن الآيات المتشابهات حمالة الوجوه التي أراد الله  بها شيئاً  فألبسوها نقيضه : 

(1)   آية { إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ  عَنْكُمُ الرجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِِّرَكُمْ  تَطْهيرَا . سورة الأحزاب الآية 33 } .

         

        أراد الله بها محمداً  وعلياً  وفاطمة والحسن والحسين  صلوات الله عليهم  فذهبوا بها إلى نسوة أغضبن الله ورسوله إلى أبد الآبدين وأولوها  ابتغاء الفتنة ، واتّبعوها ابتغاء تأويلها  (1) تأويلاً معلناً  فيه العصيان لرب العالمين .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)      هذه الآية الكريمة  { إنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنْكُمُ  الرجْسَ أهْلَ  البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ  تَطْهيرَا }  وقع تأويلها  في بيت أم سلمة إحدى زوجات  الرسول (ص) . وقد ورد في ذلك  ما ينوف على أربعين  حديثاً عن  طريقي السنة والشيعة  ، أكثرها عن طريق السنة ولا سيما في صحاحهم . وجميع هذه الأحاديث تؤكد حقيقة  واحدة هي أن هذه الآية الكريمة  نزلت في بيت أم سلمة بعد أن استدعى  رسول الله (ص)  عليا وفاطمة والحسن والحسين  عليهم السلام  وجمعهم تحت كساء  وبشكل ملفت  قصد منه  أن يبقى حدثاً تاريخياً له أبعاده  ومراميه وعبره ، مما جعل أم سلمة رضوان الله عليها ، وهي تراقب  بدهشة هذا الحدث ،  تطمع بمزيد من الخير ، فتسأل  النبي (ص) : أأدخل معكم يا رسول الله ،  فيجيب (ص) ،  ” لا يا أم سلمة أنت على خير ”  أو كما قال (ص) .

فما دام الأمر  كذلك ، فلماذا أسقط هذا الحدث عمداً ، وأسدل عليه  الذين في قلوبهم زيغ  ستائر وحجبا ، ليقولوا  إنما المراد بأهل البيت ليس أهل بيت النبي  هؤلاء  ، وإنما …  وكثرت الإفتراضات  عندهم ، وكلها  تصب في مصب واحد  ، هو ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الآية الكريمة  المشهورة هذه ، تأويلاً فاسداً فيه رد على الله سبحانه وفيه المعصية الغموس .

(2)   آية المباهلة  في قوله تعالى : { الحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ المُمْتَرينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا  نَدْعُ أبْنَاءَنَا وأبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنَا ونِسَاءَكُمْ  وأنْفُسَنَا وأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَىَ الكَاذبينَ . سورة آل عمران 60 _ 61 } .

        جعلهـا الله عز شأنه حكرا على الحسنين ممثلين لأبناء الأمة ، وعلى فاطمة ممثلة  نساء الأمة ، وعلى عليّ  ممثلاً نفس محمّد (ص) ومحمّد ممثلاً نفس الأمة  (1) .

        فأولوها ابتغاء الفتنة ، وذهبوا فيها المذاهب  ، كحاطب ليل وكخابط  خبط عشواء . 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)      ومختصر التأويل  الحق لهذه الآية الكريمة ، هو أن وفداً من نصارى نجران ،  على رأسه كهنة الكنيسة التي كانت تمثل نصارى شبه الجزيرة العربية  آنذاك  وعلى رأس هؤلاء  الكهنة كبيرهم ( العاقب ) ، وفدوا  على رسول الله محمّد (ص)  بعدما ملأت أخباره الآفاق  ، أتو مستفسرين  مستنكرين  ، واجتمعوا به  (ص) واستمعوا إليه واستوقفهم عند إنسانية المسيح  عليه السلام  وأنه رسول من رسل الله عزت عظمته ، ونفى عنه  الألهانية  ، فاستنكروا  ذلك واستكبروا  وشككوا بنبوته صلى الله عليه وآله  ،  وقد أنزل الله سبحانه  عليه : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب … } وقوله تبارك وتعالى  : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالوْا  نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَاءَكُمْ … الآية }  إلى قوله عز وجل : { ثُمَّ نَبْتَهلْ فَنَجْعَلْ لعْنَتَ اللهِ عَلىَ الكَاذبينَ . } .

          فدعاهم رسول الله (ص) إلى المباهلة ، وذلك أمر كان متعارف في ذلك التاريخ ، وهو  أن يختلف  فريقان من الناس ، فيستنفر كل فريق  نفيره ، ويجمع عشيره  وقبيله ، ويقابل الفريق الآخر  معتقداً كل فريق أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحق  بجانبه  وأن خصمه على  باطل  ، ويدعـون الله  ويسـألونه إحلال غضبه  ولعنته بمن كان  على الباطل ، من جهة ،  وإظهار  أهل الحق  من جهة ، فتنزل عند ذلك  بالمبطلين ألوان من الكوارث بين خسف ومرض ونكبات تحل  في ديارهم  وأنفسهم  ومتعلقاتهم .

         

وهكذا كان ، فلبوا دعوة النبي (ص) وإنما ائتمروا  تلك الليلة فيما بينهم  قبل حلول الموعد في الغد . وقرروا بموجب علمهم  ودرايتهم  ، أنه لو وافاهم  محمّد (ص)  بخيله  وأبهته وأنصاره ، عارضاً قوته وسلطانه ، باهلوه ، إذ لا يفعل  هذا الفعل نبي ، وإنما دَعيٌّ يريد الملك . أما إذا أتى  بما هو دون ذلك  من أمور الظاهر  ومظاهر الدنيويين ، فننظر  في الأمر هناك  ونقرر في حينه  .

وكان اليوم التالي ، وتلاقوا في المكان المقرر  . وكانت هنالك المفاجأة التي أربكت وفد نجران :  ذلك هو محمّد (ص)  قد وافاهم ، وإنما  ببضعة نفر  ، عجباً ، لا  يتجاوزون الخمسة . وأكثر من ذلك ،  ففي الوفد رجلان فقط ومعهما إمرأة واحدة وطفلان . أجادٌّ محمّد (ص)  في ذلك  ؟  أبهؤلاء  أتى  يباهل وفد نجران الذي يمثل نصارى الجزيرة العربية ؟

                  

          =       من الرجل معك يا محمّد  (ص) ؟

          =       هذا عليّ بن أبي  طالب  إبن عمي وصهري وخليفتي من بعدي

وهو صنو نفسي  .

          =       وتلك المرأة المحتجبة وراءكما ؟

          =       هي إبنتي فاطمة الزهراء زوج عليّ ، وهذان ولداهما الحسنان ،

سيدا شباب أهل الجنة .

          =       أمْهِلْنَا  هُنَيْهَةً  يا أبا القاسم .

وكان القرار  الحكيم  من وفد نجران :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

                   إن في هذا النفر القليل عدده  ، العظيم سره عند الله ومقامه ،  لآيات  لا قِبَلَ لنا بها ، قال كبيرهم  ، في حدسي ،  إضافة لما في كتبنا  ، أنه لو باهل  بهؤلاء  أهل الأرض مجتمعين ، لاستجاب له الله سبحانه  ما يسأله ، فالحكمة اجتناب المغامرة  واجتناب التعرض لسخط الله جلت عظمته  .

          ثم رجعوا  لمحمّد (ص)  يعتذرون عن المباهلة  ، فيلزمهم  تبعات انسحابهم  جزية يؤدونها ، مالاً وأقمشة وثياباً للمسلمين .

                   

          هكذا  ، سجل تاريخ  النقل والتدوين ، الذي يكاد يكون حبره ما زال  يلمع على شرائح الجلد  الرقاق والقراطيس  ، هكذا سجل على أرض الواقع ،  وشهد بذلك النصارى والمسلمون آنذاك وبعد ذلك ، هكذا سجل عمليا تأويل  هذه الآية العظيمة الكريمة  : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا  جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَاءَكُمْ … }

          وهذا التأويل  الساطع ، التاريخي ، المؤيد بالشهداء ، أسقطه الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة  وابتغاء تأويله سفهاً وجرأةً على الله وبغضاً  وحسداً  لأولياء الله  المجتبين الأخيار  الأبرار الذين أذهب الله  عنهم الرجس  وطهرهم تطهيرا .

(3)   { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولَهُ والّذينَ ءَآمَنُواْ الّذينَ يُقيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوّلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ والّذينَ ءَآمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَـاـلِبُونَ. سورة المائدة الآيات   55 ـ 56  } .

                  

        فأولوها  ابتغاء الفتنة (1) ، وصرفوها عن صاحبها الأصيل عليّ بن أبي طالب  عليه السلام ، عناداً واستكبارا وظن السوء ، فأداروا دائرة  السوء على الأمة وما زالت تدور .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)      هم اتبعوا التشابه الذي في هذه الآية الكريمة  والذي هو في قوله تعالى { وَالَّذِينَ ءَآمَنوُا } لأنها بصيغة الجمع . علما  أن الأحاديث  تضافرت  عن أكثر محدثي  أهل السنة  وفي أكثر تفاسيرهم  ، وكذلك الروايات  عن شيعة محمّد (ص) وآل بيته (ع)  أن الآية أنزلت في عليّ بن أبي طالب إذ كان يصلي في المسجد  وجاء سائل يسأل  فأشار له عليّ (ع) بخنصره وهو راكع ، فتقدم السائل وأخذ خاتمه .

                  

                   هكذا كان التأويل الحق لهذه الآية الكريمة { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولهُ وَالَّذِينَ ءَآمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوَاةَ وَهُمْ رَاكِعوُنَ } فلفظة { وَلِيُّكُمْ }  هي محور الكتاب كله  من حيث أصالة التوحيد  ، وكذلك هي في هذه الآية ،  لأن أصل الولاية وأصل الإتباع هو لله عز وجل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً  { هُوَ الأوَّلُ وَاْلآخِرُ والظَّاهِرُ وَاْلبَاطِنُ  وَهُوَ بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ . سورة الحديد الآية 3 } . ومن حيث وجوب الإتباع  أصالة لله عز وجل  قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ  مَنْ يَبْدَؤُا  الخَلْقَ  ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأنىَّ تُؤفَكُونَ . قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدي إلىَ الحَقِّ قُلْ اللهُ يَهْدي لِلْحَقِّ أفَمَنْ يَهْدي إلىَ الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعْ أمَّنْ لاَ يَهْدّي إلاَّ أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمونَ . سورة يونس الآيات  34 ـ 35 }.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

          ولذلك  سبحانه وتعالى عما يشركون ، بدأ آية الولاية  بإفراد { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ } ولم يقل إنما أولياؤكم . فجاءت الولاية لرسول الله (ص) ولعليّ (ع)  بالتبع ،  وهي أمر من الله ملزم  بطاعة الرسول  (ص) وإتباعه ، تماماً  كما هو ملزم بطاعة الإمام عليّ (ع)  وإتباعه . أما لفظة الجمع  قوله تعالى { وَالَّذِينَ ءَآمَنوُا } ففيها معنيان  متداخلان في حقيقة واحدة ، أولهما تكريم  من الله سبحانه لإمام الأمة  عليّ (ع)   وثانيهما   يعني  ما  في صلب عليّ من الذرية المعصومة بالنص ، الحسن والحسين (ع)  كما أشرنا في التعليق على آية التطهير  .

(4)   { يَا أيُّهَا الرَسُولُ بَلِّغْ مَا أنْزِلَ إليكَ مِنْ ربِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَاس إنَّ اللهَ لاَ يهْدي القَومَ الكَافِرينَ . سورة المائدة الآية 67 } .

        أمر من الله سبحانه من فوق سابع سماء ، بتنصيب عليّ بن أبي طالب  (ع) خليفةً لرسول الله محمّد (ص) . وإذ نزلت أقام (1) الرسول  لها  مهرجاناً شعبياً تاريخياً في غدير خم وخطب وبلَّغ : ألا من كنت مولاه … فأنزل الله سبحانه في نفس اليوم :

(5)   { اليَوْمَ  يَئِسَ الّذينَ كَفَروا مِنْ دينِكُمْ  فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخْشَوِْنِي اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَليكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلـاـمَ  دِينَا . سورة المائدة الآية 3 } .

                وشهد الشهود ألوفاً مؤلفة  ، وشهد الخاصة قبل العامة .  ثم نكثوا ونكصوا وأوَّلوهما ( الآيتين ) كعادتهما مع بقية المتشابهات فباؤوا  بغضب من الله على غضب ، وما زال غضبه   سبحانه  ماثلاً على هذه الأمة  لتاريخه .

        ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     عن آل البيت وجابر وابن عباس  ، أن الله سبحانه أوحى لرسوله محمّد (ص)  أن يستخلف علياً ، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فنزلت هذه الآية الكريمة . وكان رسول الله (ص) قافلاً بمئات من المسلمين  من حجة الوداع . حتى إذا نزلوا بمكان اسمه غدير غم ، أمر فنصب له  منبر عال من أقتاب الإبل ، صعد إلى قمته وأصعد معه علياً بن أبي طالب ، فأشرف على الجموع ، وخطب خطبة الوداع ، الشهيرة في التاريخ الإسلامي ،  وكان أبرزها  إستخلاف عليّ بن أبي طالب إماماً للأمة  بعد رسول الله (ص) ،  حيث جاء فيها بخصوصه  : أيها الناس ، ألست أولى بكم من أنفسكم ، قالوا بلى . قال . ألا فمن كنت مولاه  ، فهذا عليّ مولاه ، ـ وأخذ بيد  عليّ ورفعها  ليرى ذلك جميع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من حضر ـ اللهم  وال  من  والاه  ،  وعاد  من  عاداه ،  وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه  كيف دار .  ـ أو كما قال ـ ، إلى آخر الخطبة . ثم أمر فنصب لعليّ  سرادقاً ، فأخذ يتوافد عليه المسلمون  يهنئونه بهذا الحدث التاريخي  الأهم في تاريخ  الإسلام بعد الرسالة الميمونة . وكان في مقدمة  من دخل عليه ، الصحابيان  أبو بكر وعمر ، فهنأه كل منهما بقول ،  على أن مقالة عمر  له تناقلتها الركبان : بخ ٍ بخ ٍ لك يا عليّ ، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ومسلمة .

          ومنذ ذلك الحين  ، وقبل وفاة رسول الله (ص) ، اشتهر  عليّ عليه السلام بلقبين  لا يكادان يفارقان اسمه  : الإمام وأمير المؤمنين ،  وقد كانا  حكراً عليه ، حتى ذرت الفتنة  قرنيها منذ السقيفة ، فشاركه باللقب الثاني  ( أمير المؤمنين )  حتى الفسقة الفجرة  فيما بعد ، ولا سيما  من بني أمية  وبني العباس . إلا أن  لقب الإمام ، فما زاحمه  ، مجرداً ، عليه أحد ، وإلى  قيام الساعة ، بحيث أنه  إذا قيل الإمام ولم يذكر اسم بعده ، فذلك يعني  أنه عليّ بن أبي طالب  عليه السلام وكرم الله وجهه .

          وهكذا صرفت الآية الكريمة : { يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلّْغ مَا  أُنْزلَ إليْكَ مِنْ رَبِّكَ … } عن وجهها الصحيح ، وعن حقيقتها  الناصعة ، ليتبعها  الذين  في قلوبهم  زيغ ويؤولوها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها بما أفسد  على الأمة  أمورها الجليلة  ، وحرمها من أعظم النعم : التوحيد الحق  ، والوحدة المؤيدة من رب العالمين . والتي  لا يمنحها  سبحانه العزة والمنعة والقوة ،  إلا إذا  نبذت المحازبة لغير الله  ولغير أوليائه  الحقيقيين  المنصوص عليهم .  وإلا إذا رجعت عن التأويل  الباطل للآيات المتشابهات ، وأخذت  بالتأويل الحق كما أراده سبحانه وتعالى عما يشركون .

        هذه خمسٌ ، وما نريد  إحصاءً ولا حصراً ، إنما نريد الخلاص لهذه الأمة ، ولا يكون  ، إلا بالعلم المؤيد بالبينات  القاطعة والبراهين القرآنية  الدامغة ، ابتغاء  النجاة وإصلاح ذات البين لهذه الأمة التي أصبحت على شفير . فعسى  الله أن يتوب علينا ويقرب لنا وعده  بميراث الأرض والفتح المبين .

        ولن يكون كذلك ، إلا إذا صدعنا بأوامره التي تبرق وترعد بها آياته البينات ، وإلا إذا اتخذنا في أوليات شعاراتنا ، أقواله الحبيبة التي تدعونا إلى الوحدة والتوحيد  ، وأن نتقيه حق تقـاــته ، وما أوضحها  وما أكبرها ،  قوله تعالى :

{ وَإنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحدَةً وأنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ . فَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْب ٍ بمَا لَدَيْهِمُ فَرحُونَ. فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حين ٍ . أيَحْسَبُونَ أنَّمَا نُمِدُّهُمْ  بهِ مِنْ مَال ٍ وَبَنيـنَ . نُسَارعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَات ِ بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ . سورة المؤمنون الآيات  52 ـ 56  } .

وقوله تعالى  :

       { يَا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتنَّ إلاَّ وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ . سورة آل عمران الآية 102 }.

        ثم هذه الآية العظيمة  ، التي يكفي العمل بها بصدق لإحياء أمة ،  والتي يجب أن يخاف من وطأتها كل من لا يعمل  بها مخلصاً قلبه وجوارحه وكل كيانه لله  وحده لا شريك له ، قوله جل جلاله :

        { واعْتَصِمُوا بحَبْل ِ اللهِ  جَميِعاً  وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذْكُرُواْ  نِعْمَتََ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فأصْبَحْتُمْ بنعْمَتِهِ إخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىا شَفَا حُفْرَة ٍ مِنَ النَّار فَأنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَالِكَ يُبَينُ اللهُ لَكُمْ ءَآيـاـتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . سورة آل عمران الآية 103 } .

        ثم يُرْدِفُهَا بهاتين الآيتين الكريمتين ، مبشرا دعاة التوحيد  والوحدة ، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، ومنذراً دعاة التفرقة (1)  المُصِّرين على الخلاف  من  بعد ما جاءتهم البينات ، بالعذاب العظيم  ، بقوله عز شأنه :

{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَىَ الخَيْر ِ وَيَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوف ِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر ِ وَأولَـَائِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ . وَلاَ تَكُونُوا كالِّذينَ تَفَرَّقُوا  واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا  جَاءَهُمُ البَيِّنَـاتُ وأوْلَـَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ . سورة آل عمران الآيات  104 ـ 105  } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دعاة التفرقة ، المصِّرون على الخلاف ، ليسوا هم الذين يشاقون   اليوم عليّاً بشخص عليً وأشخاص آل بيت النبّوة ، وإنما هم الذين يشاقون أنصار الله وأتباعه الذين أمرهم بإتباع محمّد وعليّ ، أي الشيعة بشكـل عام . وما ذنب الشيعة في الحقيقة ، إلا أنهم رفضوا أن يتبعوا متشابهات القرآن ابتغاء الفتنة  وابتغاء تأويلها  بالباطل . أي أنهم  في الحقيقة كما رأينا ، أخذوا بتأويل الآيات كما رأوا تأويلها على أرض الواقع .  تعاضدهم في ذلك  ، الوقائع ، كما  تعاضدهم  الأحاديث ولا سيما  المروية عن طريق إخوانهم من أهل السنة  في صحاحهم . حرصاً يجب ألا يوازيه حرص آخر  في حياة الإنسان الفرد ، وحياة الأمة . هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحرص من جهة ٍ  على نجـاة الفرد  من  غضب الله في الدنيا ومن التخليد فـي العـذاب في

الآخرة . ومن جهة أخرى  على نجاة الأمة  مما آلت إليه عبر عمرها المليء بالفتن والأخطاء  والأحقاد . حتى أن المسلمين  دمروا بعضهم أكثر مما دمرهم ويدمرهم أعداء الله وأعداء دينه .

          فهل المطلوب من فريق التأويل الحـق ، أن يعود إلى التأويل الباطل ، الذي كما رأينا كان سبباً  في الإفساد والتمزيق وهلاك هذه الأمة ، أم العكس هو الصحيح ، أن يعود الأخوة الذين ورثوا التأويل الفاسد لمتشابهات القرآن الكريم ، ليعيدوا النظر في التاريخ وتقويم الأشخاص بالنظـر العقلـي والمنطقي ، لا بعين التعصب والمزاجية والإنفعال ، هذه الأمورالتي تغذيها الثقافة الجاهزة ، التي نهى الله سبحانه عنها نهيا فيه العتب وفيه الغضب ، قوله تعالى :

        { قَالوُا أجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا…. سورة يونس الآية 78  } .

وقوله سبحانه :

        {… قَالُوا بَلْ نَتَّبعْ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أوَلَوْ كَانَ الشَّيطَـَانُ يَدْعُوهُمْ إلَىَ عَذَاب ِ السَعِير ِ . سورة لقمان الآية 21 } .

فهذا العصر  الذي يبدو أنه يشارف الساعة ، يعني أن الوعد الحق بنصرة المسلمين قبل القيامة إن شاء الله وشيك . ومن ذلك قوله  سبحانه :

{ يَـاأيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يأتِي اللهُ  بقَوْم ٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ  أذِلَّـةٍ عَلَـىَ المُؤمِنيـنَ أعِزَّةٍ عَلَـىَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكَـافِرينَ يُجَـاهِدُونَ فِي سَبيل ِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ٍ ذَالِكَ  فضْلُ  اللهِ … سورة  المائدة الآية 54 } .

فلنكن جميعاً بجميع مذاهبنا أمة واحدة مطيعة لربها العظيم ،     مجاهدة منتصـرة لله  وبالله  ولدين الله  ،  من قبل أن نباغت بالساعة ، أو

بدواهٍ  دهياء كما نرى ونسمع ، قد تنفع معها ندامة النادمين ، إذا  رجعوا لربهم  وتابوا التوبة النصوح فـ { … إنَّ اللهَ يُحِبُ التَّوَابينَ … سورة البقرة الآية 222 } أما  إذا كانت  الهلكة  ووجد الإنسان نفسه مصداقاً لقول الله عز وجل :

{ وَقَالَ إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللهِ  أوْثَـاـناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ  فِي الحَيوَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيـاــمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ ببَعْض ٍ وَيَلْعَنُ  بَعْضُكُمْ  بَعْضاً ومَأوَاكُمْ  النَّارُ  وَمَا لَكُمْ مِنْ نَـاـصِرينَ . سورة العنكبوت الآية  25 } .

          أما مودة أهل البيت  ففيها نص دامغ ، صحيح أنه لا يدفع أصالة أن يكون  الحب الأعظم  لله عزت عظمته وجل جلاله { … يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والّذينَ ءَآمَنُوا أشَدُّ حُـبّاً للهِ … سورة البقرة الآية 165} لأن  حب أي مخلوق مهما عظم ينبغي أن يكون مما يفيض من حب الله  بعد أن يطفح القلب  بحبه سبحانه  وتعالى عما يشركون . إلا أن النص  في مودة أهل البيت  عليهم السلام فماثلٌ ملزم ، قوله تعالـى مخاطباً رسـوله  (ص)  : { … قُلْ لاَ أسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ في القُرْبىا … سورة الشورى الآية  23 } وأمّا غيرهم فلنتق الله  في الحماس الجارف لهم ، ولنتأمل .. ولا نكونن في بلاهة من كتب على قبر حجر بن عدي رضوان الله عليه : هذا قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضي الله عنه قتله صبراً معاوية رضي الله عنه  لأنه  كان  شيعة  لأمير المؤمنين  عليّ رضي الله عنه .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وليس المهم  أن نترضى  على هذا  أو على ذاك ، أو أن لا نفعل . المهم هو بأيهم  نقتدي ؟  بسلوك هذا أم بسلوك  ذاك ؟ فأيهما أرضى الله وأيهما أغضبه سبحانه ؟ وعلى هذين فقس  ما سواهما .

ومن نافلة القول  ، أن نذكر أننا بالنسبة لأعداء الإسلام ، لسنا مستهدفين كسنّة علـى  حدة ،  ولا كشيعة علـى حدة  ، وإنما نحن جميعاً 

مستهدفون  لأننا مسلمون لله تبارك وتعالى . { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُم ْ إلاَّ أنْ يُؤْمِنُوا باللهِ العَزيز ِالحَميدِ . سورة البروج الآية 8 } . فمتى نعي هذه الحقيقة  ، ونوحد الله ، ونتوحد في سبيله ؟

نسأله تعالى أن يغفر  لهذه الأمة قاصيها ودانيها ، وأن يرفع عنها غضبه ، وأن يهديها لمرضاته وحبه ، وأن يقرِّب لها وعده بنصر عزيز ، وحضارة  حرة رحيمة عادلة ، تكشف الحضارة الزنديقة التي يعيشها العالم اليوم ، إنه سميع مجيب .