القديسة الكبرى ـ والنخلة سرّ

القديسة الكبرى ـ والنخلة سرّ

قال تبارك وتعالى :

        { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَـابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْـلِهَا مَكَـانًا شَرْقِيّـاً } . [ 16 : مريم ] .

        أي واذكر يا محمّد ، في القرآن ، مريم عندما اعتزلت أهلها والناس في ناحية شرقية . اذكر هذا لنفسك وللعالمين . وفي ذكرى مريم أكثر من معجزة خارقة تدل على قدرة الله ووحدانيته ، وأن الأمور  في ناسها وأرضها وسمائها بيده وحده . هو مسبب الأسباب ، وهو مختصر الأسباب ، وهو مفردها بسبب واحد هو { كُن } أو هو إرادته  سبحانه  : خلق البشر من تراب وأمضى عليه زمناً ثم قال له { كُن } فكان إنساناً سوياً في أحسن تكوين . ثم نفخ فيه من روحه ، فعقل، ثم شاء أن يتناسل الأبناء من آباء وأمهات فكان ذلك ، ثم خرقاً لعرف طال وعادة امتدت ، شاء أن يهزّ العالم والتاريخ  بكلمة { كُن } جديدة ، ليفيق العالـم والتاريـخ  ، من غفوة  لا تنبغي لهما ، فأولد مريم بكرامة ، ورباها بمعجزة ، وصفَّاها وطهـرها ، وطهـرها وصفَّاها ثم اصطفاها على نساء العالمين ،

 

وأرسل إليها جبرائيل  في سـرب من الملائكة ، فتمثل لها بشراً سوياً ، استعاذت بالله منه  لأول وهلة  ثم أدخل الله السكينة  على قلبها بأمره  الذي هو واحدة كلمح بالبصـر ، وبلا وسائط ، وبنفخة نورانية  من روح الله  الملاك النوراني الأمين ، في فتحة من ثوبها ، وهي المحتشمة بسابغ  الثياب . كانت لها الهبة التاريخية  من رحمة  الله سبحانه  ومن معجزاته وخوارقه ، غلاماً زكياً . وتترادف معجزات الله  ، هو الإلـه ، ومن غيره إلـه ؟ أيها الخلق  ، أيها الناس ،  هو الله القادر وحده ، هو على كل شيء قدير . فمن غيره  من خلقه على كل شيء قدير . وتلد مريم ، في حفظ الله ورعايته ورأفته ورحمته ، وتخاف  خوفاً  شديداً ، فيطمئنها  هذه المرة سبحانه ، بلسان وليدها العتيد ، فور ولادته ، يتكلم ، ثم يتكلم  عندما تواجه به الناس للتوّ  ، يتكلم ويتحداهم ويتحدى العالمين ، مثبتاً شرف أمه : العذراء مريم عليها السلام  ثم ، يصمت عقوداً من السنين ، ليظهر باسم المسيح عيسى  ابن مريم ، رسولاً نبياً من أولي العزم  وأعاظم الرسل والأنبياء : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } يا رسول الله  يا محمّد ، اذكرها للعالمين  ، يعني اذكر صنيع الله بها وبإبنها وبالناس ، وبالكون ، ولا تنسوا حاكميته الدائمة ليل نهار  ، ولا تنسوا أنه الحي القيوم  ، القادر القاهر  ، السميع البصير  ، وأنه بكل شيء محيط ، وأنه على كل شيء قدير .

        فإذن هذه هي الغاية  من قول الله  عزَّ وجل : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } ثم قوله تبارك وتعالى في نفس السورة والسياق  :

        {  وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا } . [ 41 : مريم ] .

        أي واذكر في القرآن خبر إبراهيم وفضل الله عليه ، لما تقدَّم له من  الهداية والإخلاص .

        وقبل أن نتحدث عن صدق إبراهيم عليه السلام وفضل الله تعالى عليه ، نلاحظ أن الله سبحانه  ، لم يعظِّم أحداً من خلقه من الجن والإنس والملائكة ولم يطلب من العباد تعظيم أحد ، ولو كان رسولاً أو نبياً .

 

بلى ، نسب العظمة إلى نفسه تبارك وتعالى :  {… وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } . [ 255 : البقرة ] . وفي آية ثانية  : {  لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ  } . [ 4 : الشورى ] . وجعل من العبادة تقوى القلوب ، تعظيم شعائره ، وحرماته : {..وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ .. } { .. وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ..} . ووصف سبحانه  بالعظمة قرآنه وعرشه ، وبعض المعاني المصيرية وما شابه ذلك ، قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . [ 87 : الحجر ] . وقوله سبحانه : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } . [ 26  : النمل] . وقوله تعالى : { .. إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ  }  {.. وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  } {..  وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ  } إلى عشرات  الآيات التي فيها كلمة  ( عظيم ) معرَّفة ومنكَّرة  وكذلك مشتقاتها . وقد خصص سبحانه ، رسوله محمّداً (ص) بوصف خلقه بأنه عظيم قوله تبارك وتعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } . [ 4 : القلم ]  ، ولكن في الحقيقة ، أن الله سبحانه هو الذي أعانه وسدَّده وثبته على الإخلاص والصدق في المواقف والإبتلاءات والمصاعب ، ففي واحدة منها مثلاً ، قال تبارك وتعالى مخاطباً نبيَّه (ص) : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً } . [ 74 : الإسراء ] . وهو تبارك  وتعالى ما إن أعانه وسدَّده ، ورقَّاه إلى أعلى درجات الخلق الإنسان ، ومحمّد (ص) يزداد صدقاً ، وصبراً ، وحماساً ، للدعوة إلى ربه العظيم ، ودينه الحنيف ، وما إن هنَّأه بهذه الصفة التي هي قمة الكمال  في الأخلاق الإنسانية ، حتى أردف سبحانه يكشف عن كمال الحقيقة ، في أن الفضـل في ذلك هـو فضـل الله ، أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً . فقال سبحانه : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } . [ 113 : النساء ] .

        ونعود إلى قول الله سبحانه لرسوله محمّد : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ…}  فكذلك المطلوب  ، هو إظهار  فضل الله ، وهيمنته وحاكميته ، وإحاطته بالأمور  . فكما صـدق إبراهيم صـدق محمّد ، وكما صدق محمّد صدق إبراهيم عليهما السلام ، إنما الموفِّق والمسدِّد ، والمثبِّت والناصر ، هو الله وحده لا شريك  له ، فهما ليسا شيئاً بدون الله عزَّ شأنه وجلَّ جلاله ، وكذلك الكون كله بمن وما فيه . أفليس من العمى المخزي ، أن يقف كثير من الناس ، عند إبراهيم  أو موسى ، أو عيسى ابن مريم ، أو محمّد ، أو أئمـة الحق  ، أو أولياء الله الصالحين ، صلوات الله عليهم جميعاً ، يقف كثير من الناس  عندهم يمجِّدونهم  ويعظمونهم في المواقف والمواسم  ، وفي الأفكار  والقلوب  والمعتقدات، وينسون أنهم  لا شيء بدون الله جلَّت عظمته ، وينسون أن الله هو الغاية ، منه البداية  ، وإليه النهاية ، وها محمّد (ص) يختصر مهمة الجميع ، أنبياء ورسل وأئمة حقٍ وأولياء ، بالإستجابة  لأمر ربه  الحبيب ، إذ أمره ، بعد أن أخبره من أعماق غيب المستقبل ، خبر تخاصم أهل النار : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ . قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ  . أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ . مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ . إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } . [  65 ـ 70  : ص ] .

        صحيح أن الكلام يطيب عن محمّد (ص) وخلقه العظيم الذي أتحفـه الله به ، وكان معه نعم المتفاعل ونعم العامل ، عزماً وحزماً ، وولاءً وحباً ، وقيادة فذة ورحمة للعالمين ، كما يطيب الكلام عن كل نبي في طاعته وحبه لربه وربنا المجيد ، إلاَّ أننا نبقى الآن قليلاً ، مع أبينا إبراهيم عليه السلام . بين يدي الآية الكريمة ، قول الله عزَّ وجل  : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ … } ولكم  يطيب الكلام عن إبراهيم خليل الله  ، عن حبـه لربـه ، وتفانيه في طاعته ، ونجاحه في الإمتحانات التاريخية الصعبة التي امتحنه بها سبحانه ، حتى جعل منه ذلك الجوهر الفذ المتألق ، منارةً للناس وإماماً للبشرية . قال تبارك وتعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَـالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } . [124 : البقرة ] . في هذه الآية الكريمة ، إختصر سبحانه جميع ما ابتلى به عبده ونبيَّه إبراهيم من إبتلاءات تاريخية بقوله : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } ثم أخبر تبارك وتعالى أن إبراهيم نجح فيها جميعاً ، ولذلك جعله للناس إماماً . أما الظالمون فلن ينالوا هذا العهد من الله عزَّ وجل بإمامة الناس ، ولو كانوا من ذرية إبراهيم عليه السلام . إنما ينالها الموحدون الصادقون المجاهدون الذين لا يخافون في الله لومة لائم .

        أما بخصوص امتحانات إبراهيم التي أفلح فيها ونجح ، وكذلك جملة مواقفه وحكاياه ، فمعروفة عند الخاصة والعامة . والعرف والعادة  ، فيما يكتب عن إبراهيم وغيره من الأنبياء والأئمة ، أن يركَّز على أعمالهم ومواقفهم كرجال عظام، مظهراً الكاتب أو المتكلم عظمة إبراهيم مثلاً ، ما دام الكلام عنه عليه  السلام كشخصية مستقلة : فعل إبراهيم وكان إبراهيم … بينما العظمة أولاً وآخراً هي لله عزَّ وجل ، الذي بين يدي طاعته ، آمن إبراهيم وصدق ، فزاده الله طاقةً وصفاءً وقوةً ، ثم أيقن إبراهيم وازداد صدقاً ، فزاده الله مفيضـاً عليه من نعمه وكرمه …وهكذا في تربيته سبحانه لأي عبد من عبـاده ، يبتليه بقـدر تحمله فإذا صدق ونجح ، زاده من فضله ، وغالباً ما يعطي على صدق النية ، فكيف إذا قرن العمل بالنية صدقاً وجهاداً وتضحيات ، فعند ذلك تكون العطاءات من الله عزَّ شأنه موسومة بسعة رحمته وعظيم جوده وكرمه ، وفوق ذلك كله رضاه وحبه ورضوانه ، { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . [ 19 : الأحقاف ] سواء ذلك في الدنيا وفي الآخرة  .