الكون حيٌّ عاقل :

================ 

          بما أن كل شيء خلقه سبحانه هو حي بنسبة أو بأخرى ، بدليل النص القرآني وثبوت النظريات العلمية ، فنستطيع أن نقول في الآية الكريمة : { .. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .. سورة الآنبياء الآية ٣٠ } أنه جعل كل شيء في السماوات والأرض من الماء ، حتى النور والنار .

          أما النص القرآني الدال على حياة الأشياء ، وحتى على وعيها وإدراكها ، وإن اختلفت بذلك النسب والمقادير فقوله تعالى :

          {  تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا . سورة الإسـراء الآية 44 } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        هو زرقان المتكلم تلميذ ابراهيم بن سيار النظام ، وقد حكى زرقان عن النظام أقوالاً في الفرق بين الفرق 50 ـ 51 ، وذكره المسعودي  في  التنبيه والإشراف 342 .

          ففي قوله : { تُسَبِّحُ لَهُ .. }  التسبيح نوع من ذكر الله  يحث عليه الإعجاب والإعظام والإكبار والشوق إلى الله سبحانه ، وفي جملة معانيه  تنزيهه وتمجيده .  وهذه المعاني يتعاظم معها الحب لله ، كلما تعاظم الإدراك ، وبنسبة القصد والتركيز  ومراتب المخلوقين  في سُلَّم  الوجود .

          أما قوله تعالى  : { .. السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ .. } فقد أجمل  فيه سبحانه العناصر الثلاثة  التي تتكامل فيما بينها مؤلفة هذا  الكون  ، والتي إذا نقص منها أحد عناصرها فقد الكون حقَّ قيمته ، فلا تقوم أرض بدون سماء تتفاعل معها حسب ما هندس  الله عز وجل وقدَّر وقضى ، وبنفس المقتضى لا تقوم سماء بدون أرض . ثم لا يكون لهما  قيمة بدون سكان يروحون ويجيئون عليهما وبينهما . هذا في وجدان العقل  العادي . أجمل سبحانه القول  ثم فصَّل متابعاً  في آيته الكريمة : { .. وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. } المعنى ، ما من شيء في الكون إلا يسبح بحمد الله ، أي معجباً منزِّهاً ممجداً ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، وهذا طبيعي جداً ، فالناس وهم من صنف واحد هو صنف البشر ، لا يفقهون لغات بعضهم البعض ، فكيف وقد اختلفت الأصناف ، أصناف الخلق ، واختلفت معها اللغات بين سماوية  وأرضية وحتى أبجدية . وبين ما هو مسموع وما هو غير مسموع ، أو حسب التعبير العلمي : ما هو في مستوى الصوت أو فوق مستواه أو تحت مستواه .

          والخلاصة ، بما أن كل شيء يسبح بحمد الله ، فكل شيء ، وبالضرورة ، يعي ويعقل ، وما دام كل شيء يعي ويعقل ، فكل شيء هو حيٌّ ، وما دام الكون مؤلف من الأشياء  ، وهو في ذاته شيء مجمل ، فإذن الكون كله بجملته وتفصيله هو حيٌّ وعاقل .

          ولا بدَّ هنا من القياس المنطقي ، فالمعلوم أن الإنسان هو الأرقى في المخلوقات في ظاهر هذا الكون . يأتي دونه في الدرجة : عامة الحيوانات ، التي  نعلم أنها تعي وتدرك  ولكن بنسبة أقل على اختلاف أصنافها . يأتي بعدها النبات ولا خلاف في ظهور الحياة فيه ، وغموض الوعي والإدراك . ولكن التأمُّل من جهة والتجارب من جهة ثانية ، يثبتان وعياً ولو غريزياً للنبات ، يعلم ذلك علماء النبات وكذلك الأذكياء من المشتغلين في أنواع الزراعة .

          وما دام  هذا التدرج من حيث نسب الحياة والوعي ، قائم بوضوح ، بين الإنسان والحيوان  والنبات ، فلماذا لا نلحق به الجمادات ، أو ما تعارف الناس على تسميته بالجمادات ، اعتماداً على الظواهر من جهة ، وعلى محدوديَّة البصر الإنساني من جهة ثانية ؟

          هنا جاء دور العلم الفذّ ، الذي  قيَّضه  الله  سبحانه  للإنسان { عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . سورة العلق الآية ۵ } . جاء دورالعلم ليكشف ويثبت أن الجمادات ليست جمادات .

          فقد تبين منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، وبعد انفلاق الذرَّة ، أنَّ كل شيء ظاهر في الكون ، كل مجسَّم ، من سائل ٍأو غازي ، أو جامد أو متحرك ، هو ذريٌّ أو نووي نسبة إلى نواة الذرة  .

          وداخل الذرَّة ـ على صغرها المتناهي ـ  عالم مدهش مذهل ، نموذج مصغَّر عن مجموعة شمسية مثل مجموعتنا هذه التي في الطرف الجنوبي من مجرة درب التبانة . شمسها النواة التي فيها البروتون  الذي حيَّر العلم والعلماء  ، حيث أنه لا يموت أبداً ، بينما كل شيء في الذرة يموت دونه .

          ويدور حول هذه الشمس  ـ النواة ـ  ما أسموه  بالالكترونات كما تدور حول شمسنا الكواكب السيارة ، ولكن سرعة الألكترونات هائلة ، ولكنها تزيد وتنقص حسب أوضاع أجسامها تبعاً للحرارة  أو البرودة . كل نواة فيها وحولها حركة دائبة ، وكل جسم في الكون من الزهر إلى الصخر، إلى العطر إلى الحديد ، مروراً بالإنسان ، هو نوويّ ، فإذن هو  متحرك بحركة دائبة ، وتبدو ذاتية ـ أي  بدون طاقة مفتعلة ـ فإذن هو حيٌّ . وربطاً  بالنصوص الإلـهية ، وكون كل شيء يسبِّح بحمد ربه ، فإذن هو مدرك ، وإنما ـ كما ذكرنا ـ  حسب درجته التي درَّجه الله سبحانه فيها ، في هذا الوجود .

          بقي أن نلفت ، إلى أنه لا يجوز لنا أن نقول  هذا ” شيء ” إلا لما وقعت عليه  المشيئة ، أي  لما شاءَه الله تعالى أن يكون وأن ينسب إليه . فلا يجوز أن ينسب إلى الله أي فعل ٍ من الإنسان مشين ، أو أية قذارة من القذارات . وقد خلق الله الإنسان في الأصل نظيفاً نورانياً ، يغتذي ولا يقذِّر ، كما الجنين في بطن أمه . ولكن كانت المعصية ، ثم على أثرها الإهبـاط . فكان على الإنسان أن يجهد ليرتقي من جديد ، من المادية وإفرازاتها ، إلى النورانية ونظافتها وطهارتها . والإنسان مندوب لهذا الترقي في الدنيا  قبل الآخرة . وهذا ميسَّر له إذا عرف كيف يحب الله ، وكيف  يفنى في فِناء الله  . فإذا  ابتعثه الله في الدنيا من جديد ، علَّمه  الترقي وأعانه على الوصول .