الله يريد الأرض مجتمعاً يعمل بتعاليمه
قال عزَّت عظمته :
{وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}. [ 41 : يس ].
كم عدد الذين حملتهم السفينة بعد الطوفان ؟
إستناداً إلى قوله عزَّ وجل :
{ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . [40 : هود ] .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى سعة السفينة عقلاً ، ولو كانت بحجم بلدة متوسطة ، فإنه لا يمكن أن يتجاوز عددهم بضع عشرات من الناس على أكثر تقدير .
وهذا يعني أن الله عزّ وجل ، أهلك البشرية كلها بالطوفان آنذاك ، وأبقى على بضع عشرات من الناس استخلفهم في الأرض ليقيموا عدالة الله ويحتكموا بشريعته .
أهلك الله جميع أهل الأرض آنذاك ، لأنهم لم يقبلوا ولم يتعاونوا مع الداعية إلى الله نوح عليه السلام على إقامة حكم الله في الأرض .
إذن يريد الله إقامة مجتمع يعمل بتعاليمه سبحانه ، ويريده على مستوى العالم . وإلاَّ فهو الإجتثاث أو الإبادة ، والإبقاء ولو على بضـع عشرات من الناس ، نواة للمجتمع المراد : المجتمع المسلم لله ، المؤمن ، الموحد ، المحتكم إلى ما أنزل سبحانه :
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.[44: المائدة]
وهؤلاء الكافرون مهددون أبداً ، بالإهلاك ، أفراداً ، أو بالإبادة جماعات ،
أو مجتمعات . يقول سبحانه وتعالى : {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } . [ 22 : الإسراء ] .
إن أيما قوة في الأرض أو في الكون بأسره يعتمدها الإنسان من دون الله ، ويرتكز عليها نفسياً ومادياً ومعنوياً ، فقد ، بذلك اتخذ إلـهاً . فإن كان مؤمناً بالله فقد أشرك و{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } . [ 116 : النساء ] . وإن كان كافراً بالله ، فقد ألحد ، والكافر والمشرك عند الله سيان ، عدوَّان له سبحانه في الدنيا والآخرة .
وقد تكون القوة المعتمدة من دون الله سلطاناً ، أو علماً ، أو تكنولوجياً، أو مالاً ، أو عسكراً ، أو أي شكل من أشكال النفوذ ومراكز القوى . فمن يعتمدها من دون الله ، فقد جعـل مع الله إلـهاً آخر . وإذا قد فعـل ، فسيقعد ( مذموماً مخذولاً ) .
والذم : اللعن والتقبيح . والخذلان : الإسقاط والإهلاك والذم والخذلان للمشرك ، سيكونان من الله عزَّت عظمته ، وإذا كانا كذلك فلن يشفع بالمشرك شافع ، ولو نبي ولو إمام ولو جيش لجب ، ولن يعصمه ملجأ في الأرض أو في السماء .
هذا من معاني قوله تبارك وتعالى ، على أساس مخاطبة الإنسان الفرد :
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } .
ولكن كلام الله عزَّ وجل ، أوسع وأشمل ، فكما أن التبادر في قراءة هذه الآية أو سماعها هو كونها خطاباً للإنسان الفرد ، كذلك ينبغي فهمها أنها خطاب للإنسان النوع ، وأنها كذلك للمجتمع الصغير ، وأنها كذلك للمجتمع العالمي . ثم تنطبق نفس المعاني التي فيها على كل مخاطب ، قلَّ عدداً أو كثر ، وصولاً إلى الإطلاق ، ونقرأها الآن بعد هذه الدلالات :
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } .
فنفهمها حكماً ، فهماً أوسع وأشمل ، وكذلك القرآن لأنه كلام الله الحق المبين .
وإذا كانت هذه إرادة الله عزّ وجل : أن يقوم مجتمع عالمي يعمل بتعاليم الله
سبحانه ، فهل بالإمكان عقلاً ، إقامة هذا المجتمع بدون دولة ؟ دولة بالمعنى المعاصر، يعني : حاكم وسلطات عسكرية ومدنية ومؤسسات ؟
والإجابة عن ذلك ، نجدها في دولة محمّد ( ص ) والراشدين من بعده ، حيث عاصمتها المدينة المنورة ، وأطرافها أطراف الكوكب الأرضي المعروف آنذاك ، إن لم يكن بالفعل ، فبالقوة ، أعني قوة الفكرة ، وقوة الإعتقاد ، يعني قوة النصر الذي هو من عند الله وحده لا شريك له .
وتنبيهاً إلى أننا ما زلنا في معرض موضوعنا الأساسي : ( عبر تراثية ) ، نذكر من كلام الله عزَّ وجل ، في الذين قادوها في سبيل الله وحده ، والذين خاضوها في سبيل الله وحده ، آية تعنيهم كما تعني شتى أصناف المؤمنين والتوابين والمجاهدين أنفسهم والمجاهدين عدوَّهم ، قوله عزَّ شأنه :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } .[16: الأحقاف].
وتمهيداً لهذه الدولة الموعودة في قوله عزَّ وجل :
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . [ 55 : النور ] .
وبشرى للمجاهدين التواقين للإنعتاق من سجن هذه الأرض الدنيا ، المشتاقين إلى ربهم والدار الآخرة ، دار البقاء والخلود في نعيم الله وجنانه ، ورضاه ورضوانه ، أكتب بإذنه تعالى وبعونه وتأييده ، هذه ( العبر التراثية ) ، راجياً أن ينتفع بها عباده ، وأن تكون لهم مواقف مثل مواقف أبطالها وجهاد مثل جهادهم . فقد مدح الله السابقين ، وليسير سيرهم اللاحقون وهو بكل شيء عليم وهو اللطيف الخبير . راجياً بذلك وجهه الكريم وحده ، ورضاه وحبه ورضوانه ، لا أريد بذلك عرض الدنيا وإنما أريد الآخرة ، فأكتب تقرباً إليه وتحبباً ، فهو الحبيب الأعظم ، له روحي وقلبي ، وله كياني وحبي ، عليه توكلت ، بأمره ، وإليه أنيب ، وهو حسبي وإليه المصير . قال سبحانه وتبارك وتعالى :
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا . مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } . [ ( 3 ـ 4 ) : الأحزاب ] .
فسمعاً وطاعة يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين ، بك حولي وبك قوتي وأنت المستعان ، وحدك لا شريك لك .