الله يقوِّي الأنفس التي يعلم بها خيراً :
تاريخي وفريد ، ذلك الذي حصل في صبيحة اليوم التالي للمعركة الكارثة ، إذ نادى منادي القائد العام ، أن يا جرحى ويا مرهقين ، ويا حزانى ، قوموا وحدكم إلى اللحاق بالعدو القوي المنتصر ، ولا يقومنَّ معكم أحد ممن لم يشهد أمس حربنا . وما هي إلاَّ لحظات ، حتى أخذت باحة المسجد تزدحم بهم ، أولئك الذين ثبتوا بالأمس وكذلك الذين قال تعالى فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } . [ 155 : آل عمران ] . وقوله تعالى : { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } يعني فيما مضى من الخطايا فقيَّض الله لهم شيطاناً بعدما عقدوا النوايا السلبية ، فكان ما لحقهم من جراء ذلك من غم وأذى عقوبة لهم على ما سلف ، وكانت العقوبة كفَّارة { وَلَكُمْ فِي الْقِصَـاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ..} . [ 179 : البقرة ] .
وهكذا فقد عفا الله عنهم ، وتولاّهم بعنايته وبرعايته ، فرفع معنوياتـهم
وأعلى هممهم وشدَّد من عزائمهم ، بعدما جعـل نومهم في تلك الليلة ، نوماً عميقاً ، مريحاً ، شافياً من التعب والوجع ومضاعفات نتائج الجراحات . ذلك بعد أن صحَّت نواياهم بعد الرجوع من المعركة وندموا على تفرقهم عن قيادتهم ومعصية أوامرها ندماً كاد يكون قاتلاً . ولذلك حين نادى المنادي للجهاد في سبيل الله وسبيل الذود عن دينه المجيد ، نفروا كأفضل ما تكون نفرة الأصحَّاء ، الأشداء ، ملبين مكبِّرين لا تأخذهم في الله لومة لائم .
وقد بدأ الله سبحانه بإثابتهم فور تصحيح نواياهم ، قولـه تبارك وتعالى : { …فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ …}. [ 153 ـ 154 : آل عمران ] .