المطلوب توازن الشخصية الاسلامية

المطلوب توازن  الشخصية  الإسلامية  :

      تبيّن لنا مـمّا سبق ، أن المسلمين ، أوسع وأعمق علماً من غيرهم من أصحاب الملل ، سماوية وأرضية ،  ولكن ما الفائدة ، ونحن نعلم الكثير ولا نعمل ولو بأقله ، وهم يعلمون القليل ، ولكن أعمالهم كثيرة وكبيرة وباهرة .

        صحيح  أن نقص غير المسلمين لا يعوّض ، حيث أنهم طلبوا الدنيا بالظلم والجشع والمعاصي ، وانحرفوا عن صراط الله ،  فباؤوا بغضبه عزّ وجلّ وهم بالنتيجة الأخسرون .

        قوله تعالى :

       { قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا }P(2) P.

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)      سورة فاطر ، الآية  43  .            (2)      سورة مريم  ،  الآية  75   .

       

        هذا الشرط ( لا إسلام بدون توحيد )  هو مصدر كل توازن في الشخصية الإسلامية  على  اختلاف درجات التوازن وجهاته العقلية والنفسية والبدنية ، وبالتالي الفاعلية في كل المجالات  .

        والتوحيد يعني عبادة الله عزّ وجلّ ، والتوجّه إليه ، والتعامل معه سبحانه بكليّة مشاعر الإنسان وأحاسيسه ، وكلية وجوده  ، دون شركٍ لا ظاهرٍ ولا خفي ، والشرك الخفيّ  في أيامنا  هذه ، هو الأكثر والأدهى وعلى مستويات تبدو عالية .

        أما إذا انحرف الإنسان وتنكب الجادة ، يلبس بالعقل الهوى  :

       { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ .. }P(1)P.

       { ..إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ .. }P(2) P.

       عندها تكون الدرب إلى الهاوية  :

       { .. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ .. }P(3) P.

       وحيث أن الأنفس ، تختلف وتتعارض ، ويسوّل لها ويملى لها ، بتأثير  قوى سلبية  ، تارةً محسوسة ، وتارةً غير محسوسة ، موجودة بين ظهرانيها ، تؤثر فيها كما يؤثر جهاز اليد في التلفزيون  مغيِّراً الموجة والصوت وما إلى ذلك بقوة تنبعث منه وهي غير مَرئِيَّة . وكما تؤثر الجاذبية في الأشياء دون أن نراها ، كذلك دبيب الشرك الخفي تارة ً من النفس الأمّارة ، وتارةً من شياطين الجن والإنس ، وكثيراً ما تتعاون هذه العناصر الثلاثة ، فيكون تحالفها كفيلاً بدمارالنفس ودمار صاحبها . وقد أعطانا الله جلّ شأنه ، أسلحةً فتاكةً ، لاستبعاد هذه القوى، خفيَّةً كانت أو مرئيَّةً ، ومعظم هذه الأسلحة موجودة في القرآن المجيد ، على أن أولها وأساسها فكر التوحيد .

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)      سورة الجاثية ،  الآية 23   .

(2)      سورة النجم  ،  الآية  23   .

(3)      سورة الصف  ،   ألاية  5   .

       

        وهكذا ، فإن أي ذكر لله تعالى أو لآياته يولّد أيضاً طاقةً غير مرئية ، مضادةً لهذه القوى السلبية ، ومن شأن هذه الطاقة التي يحدثها الذكر ، ذكر الله تعالى وذكر آياته ، أن تحجب وتبعد ، أو تعدم وتبيد ، كل ما يمس  باستقامة الإنسان أو يعكر فطرته .

        وشرط التوحيد ، يعني فهم أن بيده سبحانه ملكـوت كل شيء ، كل شيء ، من أدق الأمور وأبسطها ، إلى أجلّها وأعقدها ، من الذرة وأصغر  ، إلى نهاية الأكوان … إذا كانت لهذه الأكوان نهاية  .

        فإذا حصـل هذا الشرط الذي هو التوحيد كما يرضى الله سبحانه ويحبّ ، فتح هو بحبّه الأبواب ويسّر الأسباب  :

       { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى .. }P(1) P.

        وإذا حصل شرط التوحيد  ، فتح بوابة العقل أوسع وأوسع ، على فهم معانيه ، وعلى نورانية تتساقط معها حجب الأسرار والأقنعة ، وشرّع الله نوافذ العقل على عظمة النبّوة كريادة ، وعظمة الإمامة كقيادة ، وعلى عظمة القرآن بين هذه وتلك ، كمنارة للعالمين ، في بحار الظلمات .

        وإذا حصل شرط التوحيد ، مشى المؤمنون أنوارهم تسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، فشاهـدوا مشاهدة الإيمان والعيان ، ما هو أروع وأسمى فيما ينتظرهم ، وظهرت لهم الأرض الدنيا بحجمها الحقيقي على صغرها وهوانها ، فتخلصوا من غرامها غير آسفين مردّدين قوله عزّ وجلّ ، عـمّا قد يفوت الإنسان  أو يأتيه منها :

       { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .. }P(2)P.

       لأن الأشهى والأبهى في غير هذه الأرض . وهكذا يؤهّل المؤمنون أنفسهم لحب الموت في سبيل الله ، وهذا من دلالات اليقين  .

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)      سورة مريم  ،  الآية  76    .

(2)      سورة الحديد  ،   الآية 23   .

       

        كل ذلك  فضلاً عن النار  ، وذكرى النار ، ورؤية النار ، نذير الله عزّ وجلّ :

       { كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ . لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ . ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ . ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }P(1) P.

       وإذا حصل وتكامل شرط التوحيد ، نتج عنه التوازن المطلوب في أروع درجاته ، وأصبح لسان حال المؤمن يردّد مقولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  عليه السلام ، حيث إنه بعد معركة أبلى فيها كعادته بلاءً عظيماً ، أتاه صاحبـه ضرار ، فوجـده قائماً يصلي ، ويَنْشُجُ باكياً بين يدي الله ربّه وربّ العالميـن جلّت عظمتـه ، حتى إذا انفتل من صلاته ، أقبل عليه  ضرار ، يسأله ما الخبـر ، فقال :

        ( يا ضرار ما عبدت الله تبارك وتعالى خوفاً من ناره ، ولا طمعاً في جنتـه ،  وإنّـما وجدته أهلاً للعبادة فعبدته .يا ضرار ، والله لو انكشف هذا الغطاء بيني وبين ربي ما ازددت يقيناً  ) .

        وهذه المعاني التي نتحدث عنها في فكر التوحيد ، هي معـانٍ بديهيةٍ ميسّرة ،  مسؤول عن تحصيلها والتفاعل معها كلّ ذي عقل سويّ ما دام في حكـم التكليف .

        إلاَّ أن لفكر التوحيـد أسرار ودرجات ومعارج ، يتدرج فيها أهل العرفان ، على أنهم يجب أن يظلّوا في تهيّب دائم وخوف من الله ، يراقبونه في ذواتهم  ، سبحانه وتعالى عـمّا يصفون .

        وحيث إن أسرار التوحيد كثيرة  ، وبحثها يقتضي مؤلفاً خاصاً ، فنكتفي هنا بنموذجين على سبيل المثال : ركن الطهارة وركن الصلاة  .

        وهنا لـن نتعرض إلى ما هـو موجـود في كتب الفقه ، التي تبحث في ظاهر هذين الركنين ، فهذا  الظاهر  يتسـاوى  فيـه النبيّ صلى الله عليه وآله والبدويّ

 

 

 

 

 

.ــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)      سورة التكاثر  ،  الآيات ( 5 ـ 8 )  .

   

        وإنما البحث هو في المعاني والأسرار ، من بدايـة التوجّـه إلى المـاء وفهـم الغايـة، إلـى الوضـوء وإدراك النعمـة فيه . أو التوجّـه إلى التراب وفهـم الغاية ، إلى التيمّم وإدراك النعمة فيه ، إضافةً  إلى العناية  بطهارة الباطن ، ابتداءً من جوف الإنسان من حيث حفظه عن كلّ محرّم ، ثم طهارة اليـد والنفس عن الغير والغيرية ، والآنية والأنانية .

        وهكذا يصير العارف صالحـاً للخروج من بيت النفس المظلم ، داخلاً في معراج الصلاة ، مهاجراً إلى رب العالمين ، حتى يصل أمـام باب الله ، ويفنـى أثناء السجـود بفنائه ، وفجأةً يجد ذاتـه انتصبت متجاوزة شخصه السّاجد مجتـازة الباب لتخرّ من جديد ساجدة حيث سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وحيث يغدو ظِلاً نورانيـاً هو حـالة ما بين المحـو  وبين الصحو . ثم  يلهم للرجوع إلى حياته العاديّة ، على أنه إذا أصرّ على المتابعة، فقد تكون الصّعقة ، وقد تكون الهلكة .

        فإذا رجع ، دخل في مرحلة ( الصحو بعد المحو ) ليمارس حياته ، وقـد  فهم التوحيد، على  أنه لا حلولية الحلاج ومدرسته ، حيث قال  : ( الله في الجُبَّة ) ولا ليلى وسعاد وغيرهما من تهوسات ابن الفارض  ومدرسته ، سيّما حين لا يكتفي بالتأنيث وتوصيفاتـه ، من التأوّد إلى العيون والثنايا والطيف والخيـال ، بل يسف إلى أكثر من ذلك  ، حيث يقول على سبيل المثال :

منازلـها منـي الذارع تـوَسّـداً         وقلبـي وطـرفي أوطنـت أو تجلّتِ

        وهذا الإنحـدار في التصورات المادية ، ينبو عنه حتى الذوق العادي السليم . ناهيك بأصول العقيدة وحقائقها حول ما يتعلق بالذات الإلـهية حيث يحرم توصيفها .

        ونفهم مدى الخطورة في ذلك ، من تحذير لأمير الموحدين ، وإمامهم علي بن أبي طالب عليه السلام ، الذي رفعه فهمه للتوحيـد إلى أن يؤاخيـه رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يؤاخي غـيره ، وإلـى أن يعطيـه ربّـه عـزّ وجـلّ أن يكون إمام الموحدين في الدنيا والآخرة  .

       

 

 

 

        فلنقرأ بخشوع ومسؤولية ما يقـول عليه السـلام ، لأن الكلام عـن الله تبارك وتعالى :

        ” وكمال توحيده نفي الصفات عنه ، لدلالة أن الصفة غير الموصوف ، وأن الموصوف غير الصفة ، فمن وصفه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزّأه … ”  .

        أما ميزان العقول في هذه المسألة ، مسألة التوصيف والصفـات ، فهو أمر الله عزّ وجلّ  بأن لا يُدْعَىْ إلاَّ بأسمائـه الحسنـى ، علمـاً أنه لم يرد فـي القرآن الكريم  ولا في غيره من مصادر العـلم  المحققة ، أية إشارة لجـواز توصيف ذاته تبارك وتعالى ، سواء كانت الصفات عين الذات أو مغايرة لها ، والآية الكريمة في هذا الصدد ، أفصح وأبلغ من أن تشرح، قوله عزّ شأنه :

       { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا .. }P(1) P.

        وما دام بحثنا في العقل الإسلامي ، وفي التوازن والإتزان في فكـر التوحيـد ، فمن أين  أتى القول بالصفات ، إذا كان منهياً عنها  بنص صريح من القرآن المجيد لا لبس فيـه ولا مجـاز ولا كنايـة ، ولا أدنى إشعار بجواز القول بالصفات  ، ولو كان القول بأنهـا عين الذات . ثم  نهي أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وهو أفضل من فهم التوحيد وفهم القرآن بعد رسـول الله محمّد صلى الله عليه وآله ، وكلامه  على حسمه ووضوحه حجة دامغة يجب أن تسقط معها مجلدات خاضت خبط عشواء في هذا المعترك ، فالحق أولى أن يتبع ، ولو كان اتباعه سيكلف هدم تراث جذاب أسّس على الخطأ شأنه في ذلك شأن كلمـة ” واجب الوجود ” ويعنون بها الله تبارك وتعالى ، وهي كلمة أفرزتها وأخواتِها الفلسفة والمنطقُ وعلم الكلام ، وصحيح أنها حلّت مشكلة هي أساسية فقط ـ بالنسبة لهذه المياديـن الثلاثة ، ولكنـها لم تكن مشكلـة بهـذا النحو المعقّد بالنسبة للعقل الإسلامي خاصة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)      سورة الأعراف  ،  الآية  180  .

 

        لأن العقل الإسلامي الذي تَرَبَّى بين الفطرة التي فطر الله الناس عليها وبين أدلة القرآن في إثبات  أنه لا إلـه إلاَّ الله ، أعطي منهجية يعجز عن مثلها الإنس والجنّ مجتمعين ، يقيناً أن هذا العقل ، وبالبديهة والتجربة ، كان وسيبقى ـ بفطرته وقرآنـه ـ هو الوحيد القادر على ضبط الفلسفة والمنطق وعلم الكلام ، وهو طالما ضبط وطالما صحّح ، وما زال أمامه الكثير ، لإسقاط  بنايات كرتونية في هذه العلوم ، ما أنزل الله بها من سلطان .

        وإذا كان همّنا كبيراً بتخليص فكر التوحيد مـمّا تنسج حوله العناكب ، فإنَّ ذلك وحده كفيل بإعادة الشخصية الإسلامية إلى قاعدتها الأصيلة ، ولأن ذلك وحده كفيل بأن يرفعنا من سفساف القول والكتابة ، وينقذنا من الغرق في رمال متحركة بين أطنان من الكتب الصفراء ، التي هي رغم فقرها وبُؤْسِهَا ، تبعث اليوم من موتها في حلل جديدة ، لتقدم من جديد ، لعقول مشاريـع العلماء ، وراوح مكانك … مع نفس المواد من ألف سنة .

        أما إذا احتجّ علينا ـ كما هي العادة ـ بعصبية ونزق ، بأن الإمام الخميني ، قاد الثورة المظفرة ، التي قلبت موازين الأرض ، وَقَصَمَتْ  ظهـور الطواغيت ، وأن الطالقاني ، وأن مطهري ، وأن بهشتي … وغيرهـم علـى ساحاتنا الإسلاميـة ، مـمّن هم مصاديق لقولـه عزّ وجلّ :

       {..فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}P(1)P.

       أقول  ، هذا صحيح ، وأقول ، هؤلاء أشخاص تاريخيون ، ربّـاهم الله عزّ شأنه بفكر التوحيـد ، وما ربّتهم كتب ( راوح مكانك ) .

        ونظرة رصينة متأنية ، في أفكار أكثر طلاّب العلم اليوم وشخصياتهـم ، كذلك المتقاعدين عن طلب العلم والذين همُّهم الجباية ، هذه النظرة قد تبكي الناظر من الإشفاق والمرارة ، لا سيّما إذا ربطنا هذا الفقر النوعي ،  بنسبة التكاثر المتصاعدة .

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)      سورة الأحزاب  ،  الآية  23   .

 

        أمَّا سبب هذا الفقر النوعي ، والغرور والعصبية ، والتقاعد والجباية … فهو هزال فكر التوحيد ، وحيث يكون الهزال يكون نسيج العنكبوت وشبـاك الشياطين .

        هذا النقد القاسي  في ظاهره ، مبني أصلاً على توقير كبير واحترام عميق لرجال الدّين الأصيلين ، يعنـي للعلمـاء الذيـن هـم أهل في الحقيقـة ، لأن يكونوا ورثة الأنبياء عليهم السلام ، كما قرّر رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله مؤديّاً في تقريره هذا رسالة ربّه رب العالمين عزّ سلطانه ، حيث قال صلى الله عليه وآله : العلماء ورثة الأنبياء . هذا إضافة إلى ثناء الله عزّ وجلّ على العلماء ، في موارد كثيرة من كتابه الكريم . آمِراً سبحانه بوجوب التخصّص في العلوم الدينية ، وجوباً كفائياً . مرجعنا في ذلك قوله عزّ وجلّ :

       { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }P(1) P .

       نفهم منها أنه ليس لكلّ مسلم أن يدّعي لنفسه كونه رجل دين بمعنى الإختصاص ، أو أن يدّعي كونه عالماً دينياً ، إلاَّ إذا استجمع من الشرائط الكثيرة المهمة ما يخوّله لذلك .  وهذه الشرائط معروفة في توصيف الله عزّ شأنه للعلماء ، وكذلك توصيف رسوله صلى الله عليه وآله ، وآل بيت النُبُوَّةِ عليهم السلام . فإذا فعل طالب العلم ذلك متوخياً استجماع الشرائط ، كان طلبه للعلم الديني العملي  ،  هو سـاحة جهاده ،  وتبعاً لذلك يسمّى بحق : رجل دين ، وكان على الناس بكافة مستوياتهم وحقول اختصاصاتهم غير الدينية ، أن يرجعوا إليه ، ليدلّهم على أقوام السبل المنجية من الهلاك والخسران المبين في الدنيا والآخرة .

        والواقع أن عدم فهم هذه الحقيقة ، شجّع بعض الكتّاب ،  على شنّ حملة تجريح برجـال الدين ، فأخذوا ، وبمعلومـات دينيـة سطحيـة ،تارةً يدعون

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)      سورة التوبة   ،  الآية  122  .

 

الدول العلمانية ، لاستيعاب رجال الدين وتوظيفهم ، وبذلك تكم أفواههم وتلجم  أقلامهم  . وتارة يوجهون إليهم  تهماً عبر مقاييس غربية أو غريبة عن شرعنا المقدس ، وتارةً يظنون بهم الظنون التي هي أبعد ما تكون عن واقعهم الطاهر النظيف  ، وتارةً يتخذون نموذجاً فرداً من رجال الدين ، يوافق كونه مَحَطَّ نقد ، أو يكون غير ذي أهلية ، فيحكمون عليه ، ثم يسحبون هذا الحكم على جميع العلماء ، وهذا من أكبر الدواهي التي تسقط معها قواعد الشرع وحتى مقاييس علم النفس وعلم الإجتماع وجميع العلوم العقلية والأخلاقية .

        ولذلك وجهنا يوماً كتاباً مغلقاً ، لكاتب قفز من حقل إختصاص غير ديني ، ليهجم هجوماً شرساً على رجال الدين عامة في كتاب له ضمّنه كل ما أسلفت إليه من التهم والظنون ، انطلاقاً من حكمه على نموذجٍ واحدٍ أو اثنين أو ثلاثة من الحالات الشاذة ، وحيث إننا استرسلنـا بهذا الصدد في حديث مكشوف ، وجدت بإذنه تعالى ، أن أجعل هذا الكتاب الذي أرسلته إليه ، مفتوحاً ، ليكون رداً مهذباً على أمثاله ، سائلاً الله تبارك وتعالى أن يجعله بارقة هداية لهم ، لننعم وإيّاهم بمغفرته ورحمته ، ورضاه ورضوانه .

 

        وهذا نص الكتاب بحرفيته ، مسقطاً منه فقط اسم الكاتب :

        عزيزي الدكتور … دمت سالماً ،

        السلام عليكم وتحياتي الطيبات ، وبعد ،

        آن لي أن أصارحكم بشعوري اتجاه كتابكم الذي فيه أعاجيب لعلّ أعجب ما فيها أن يكون ضميرك مرتاحاً من جرائها . ومن الأمثلة  البارزة  إصداركم تلك الأحكام الظالمة  من حيث تعميمها على رجال الدين . ولعلّ لا بدّ من القول ، أن اهتمامي بهذا الأمر ليس غيرة على السلك ، بقدر ما هو غيرة  على الحقيقة ، لذلك رأيت لكم وجوب المراجعة ، مجرداً عن التأثيرات  الذاتية  والخصوصية عندكم ، وفي ضوء استجماع أشمل واعمق للحقائق  .

 

 

 

 

 

        لك أو عليك المردود  من الله عزّ شأنه . ثم بنسبـة إيجابية التأثير أو سلبيته ، كذلك بنسبة كيفه وكمّه عمقاً واتساعاً يكون الثواب والعقاب في الدنيا وبعدها … صحيح أن الإعتراف بالخطيئة والتراجع عنها أمر يحتاج إلى شجاعة ، ولكنه في أسوأ الأحوال ، أفضل من التلبّس  بالخطيئة والتغطّي بظلّ الإصبـع . ومسؤولية خطيرة الإبقاء على هذه الشتول دون تنويه مكتوب بإسقاطها ، أو  على الأقل توجيهها ، لتثمر سنابل لا مجامر في بارود هذا المجتمع الذي بات على شفير .

 

        جنبنا الله وإياكم الخطأ والزلل …

                        وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

 

 

 

                بعناية من ربي الحبيب ، انتهيت من تأليف هذا الكتاب

 

                21 جمادى الآخرة 1414 هـ /  4 كانون الأول 1993 م