المعنى القرآني للفظتي : أمّيّ وأميّين :
قال تعالى :
{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ ..}P(1) P.
وقال سبحانه :
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }P(2) P.
في الحقيقة ، إن لفظة ( أمّيّ وأُمّيّين ) أخذ يتداولها العرب قبل غيرهم ، بعد نزول القرآن الكريم . إذ كانت الألفاظ التي تتعلق بها في اللغة شبه منسية . فبعثها القرآن بمعان فهمت فهماً مقارناً مغلوطاً بنسبة أو بأخرى . لذلك نجد لها احتمالات عديدة في تفسيرها ، مـمّا يدل على عدم الثبات عندهم على معنى واحد . ومن هذه الاحتمالات :
1 ـ إن النبي (ص) وصفه الله سبحانه بالأمّيّ لأنه لا يقرأ ولا يكتب .
2 ـ أنه سبحانه وصفه بالأمّيّ ، نسبة إلى مكة التي تكنى بـ ( أم القرى ) .
3 ـ أنه [ قيل لمحمّد صلى الله عليه وآله ( الأمّيّ ) لأن أمّة العـرب لم تكـن تكتب ولا تقرأ المكتوب ]P(3)P.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الجمعة ، الآية 2 . (2) سورة الأعراف ، الآيات ( 157 ـ 158 ) .
(3) لسان العرب ـ ابن منظور ـ مادة أمة .
فبخصوص هذه الاحتمالات المسلَّمة والمتداولة ـ تنفي كونه صلى الله عليه وآله أمّيّاً بمعنى أنه لم يكن يقرأ ولا يكتب ، وندّعي أنه كان أفضل من قرأ وكتب في تاريخ البشرية . ودليلنا بخصوص القراءة ، أمر الله تبارك وتعالى له بواسطة جبرائيل عليه السلام حين قال : إقرأ … ( فعلى الرواية ) قال ما أنا بقـارىء … قال : إقرأ باسـم ربك الذي خلق … فقرأ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ اَلْرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }P(1) P.
وهكذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله أحسن قراءة عرفت ، وظلّ يقرأ حتى أكمل الله عليه وعلى البشرية الدين الحنيف والقرآن المجيد وظلّ يقرأ هكذا حتى قبضه الله إلى رحمته وجواره وحبّه .
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله كتب كثيراً ، وإنما بنفس الطريقة التي بها قرأ . أعني بدون قلم ولا قرطاس . والحقيقة العليا للقراءة والكتابة ، أنهما في العقلاني الذي هو قبل التجسيم الحسّيّ أو المحسوس ، هما كذلك بدون أدوات مـمّا نعرف ونتداول . حتى القلم واللوح ، إضافة للقراءة والكتابة ، لهما معان ، فوق ما نتصور في عالم المحسوسات .
ولكن ، صحيح أن محمّداً صلى الله عليه وآله كان في العرف العادي لا يقرأ ولا يكتب بيده . إلاَّ أن الله سبحانه لو كان وصفه بالأمّيّ قاصداً جهله بالكتابة والقراءة ، لما كان أولاً قال له اقرأ … فقرأ . ولكان ثانياً اكتفى بهذه الصفة صفة ( الأمّيّ ) ، إذا كانت كما فهمها ـ خطأ ـ العرب ثم الآخرون . إلاَّ أنه حيث لم يرد سبحانه هذا المعنى ، وإنما أراد لرسوله محمّد صلى الله عليه وآله ، أن يكون عُرْفاً ، لا قارئاً ولا كاتباً ، لذلك خاطبه عزّ شأنه بقوله :
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}P(2) P.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة العلق ، الآيات ( 1 ـ 5 ) . (2) سورة العنكبوت ، الآية 48 .
فمحمّد صلى الله عليه وآله لم يكن أمّيّاً بمعنى جهله القراءة والكتابة . فكونه كان يجهلهما معروف بالنص والسيرة . ولكن أمّيّاً ـ كما وصفه الله سبحانه ـ لمعان أخر ، وكذلك قومه العرب . فما هي هذه المعاني ؟ …
إن هاتين اللفظتين ( أمّيّ وأمّيّين ) إنما هما في أوجه معانيهما ، تشريف للنبي صلى الله عليه وآله وتشريف لقومه العرب . ففي تحليلهما اللّغوي ، هما نسبة لأمّ التي معناها الأمّة ، ففي لغة العرب : [ ( الأمّ كالأمّة) أنظر لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 27 ـ دار صادر ] . و ( الأمّة ) إذا كانت تعني شخصاً ، ففي جملة معانيها : ( الأمّة : الرجل الجامع للخير، الأمّة : الإمام ،الأمّة : العالم ، الأمّة : الرجل الذي لا نظير له ، إلخ … )P(1) P.
ولفظة أمّة ، هي في آية من آيات القرآن ، تعني النبي إبراهيم عليـه السلام ، وهي قوله تعالى :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}P(2)P.
ونسبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ونسبة قومه العرب لأبيهم إبراهيم عبر ولده إسماعيل عليهما السلام معروفة ومشهورة حتى عند اليهود أنفسهم ، ناهيك عن شهرتها التاريخية . إلاَّ أن اليهود معروف عنهم تحريف الكلم عن مواضعه . وقد حرَمهم الله سبحانه من شرف انتسابهم هم والنصارى إلى إبراهيم ، وقرّر هذا الشرف لمحمّد صلى الله عليه وآله ولقوم محمّد من العرب وكافة المسلمين . فليتأمل المتأمّل في تأنيبه لهم وللنصارى :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }P(3) P.
ثم قوله تعالى :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر ـ لسان العرب .
(2) سورة النحل ، الآية 120 .
(3) سورة آل عمران ، الآية 65 .
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }P(1) P.
وخليل الله إبراهيم هو رمز التوحيد في تاريخ البشرية ، والتوحيد هو أصل الدين القيم ، وروحه ونوره ومنطلق حقائقه وأسراره ، وقوله تعالى لمحمّد صلى الله عليه وآله :
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }P(2) P.
يعني التوحيد في أعلى منازله .
ثم قوله تعالى للعرب قومِ محمّد صلى اله عليه وآله وكذلك لجميع من التحق وسيلتحق بهم من المسلمين :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } P(3) P.
وواقع أن في ذلك خصوصية واجتباءً ( أي اصطفاءً ) وتفضيلاً على بقية الملل وبقية الشرائع السماوية ، بدلالة قوله سبحانه : { وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتَابِ … } وتتضح هذه الخصوصية وهذا التفضيل أكثر فأكثر في قوله سبحانه :
{يأيها الذين آمنوا … وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }P(4) P.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران ، الآية 68 .
(2) سورة الأنعام ، الآية 161 .
(3) سورة آل عمران ، الآية 110 .
(4) سورة الحج ، الآية 78 .
هؤلاء هم الأمّيّون الذين شرّفهم الله سبحانـه وأكرمهم بأن سمّاهم كذلك ، ذلك لأنهم وحدَهم كانوا ، وسيبقون في الأرض ، ما بين قطبيها ومشرقيها ومغربيها ، هم وحدهم أمّة التوحيد ، أمة لا إلـه إلاَّ الله ، وحده لا شريك له ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، والكون أحد ، فالكون كله ليس كفواً لوحدانية الله وجبروته وعزّته .
وأهل التوحيد هم أنصار الله ، وأنصار الله هم أهل التوحيد . وغيرهم ليسوا أنصار الله لأنهم غير موحدين .
فاليهود اتخذوا أحبارهـم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، وقالوا عُزَيْرٌ ابن الله ، وغيرهم بقية أهل الأرض ، يراوحون بين وثنية وصنمية وإلحاد ، في عقائدهم وضلالاتهم ومعبوداتهم من تعبّد لأصنام منحوتة أو مصوّرة في الكنائس ومعابد الشرق الأقصى إلى تماثيل ماركس ولينين وستالين وغيرهم في الإتحاد السوفياتي وبقية دول الإلحاد سواء على الطريقة الشيوعية أو على الطريقة الرأسمالية . أصبحت مع اتساع الإعلام الحديث ظاهرة مكشوفة ، ليست بحاجة مـنّا إلى أن نورد صوراً ووثائق وأدلة .
المسلمون يشهدون كل يوم شهادة أن لا إلـه إلاَّ الله ، وكل أهل الأرض غيرهم ، يعبدون ما ينحتون ، بين نحت فكر ونحت إزميل ، حتى أن ملايين تثور لأجل صنم أسقطه على الأرض ثوار آخرون : هؤلاء لأنهم حكموا باسمه فأكلوا حقوق الآخرين قمعاً وظلماً ، وهؤلاء لأن صاحبه كان وعدهم الشبع ، فما وجدوا لديهم إلاَّ الجوع ، الذي أشدّه جوع الأنفس ، ثم الضياع الذي أسوأه البعد عن الله تبارك وتعالى .
والله سبحانه لا ينصر إلاَّ أنصاره :
{ .. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }P(1) P.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحج ، الآية 40 .