الناس والملائكة :

        إستناداً للقرآن الكريم كضابط لجميع المفاهيم التي تدور حول الملائكة ،  وكذلك إلى الحقائق العملية المعاشة ، ممارسة وإستنتاجاً ، فقد تبين أن الكثرة من القوى الفاعلة الخفية التي خلقها الله في عالمنا ، تقوم بأدوارها الكبيرة والمهمة جداً دون أن يحس بها الناس أو أن يتنبهوا إلى مدى فاعلياتها ، وقد يكون الله مستقطباً بها حركاتهم وسكناتهم ، كما ومستقطباً بها الكون المرئي والمعروف كله . ومثال على ذلك ما اتفق الناس على تسميته بالجاذبية ، ومعروف أنها على أرضنا تجذب الأجسام الوازنة  إلى مركز الأرض بنسب حسابية علمية دقيقة ، وكذلك الجاذبية الكونية  التي على أساسها ترتفع السموات ، وتقوم الشموس والأقمار والكواكب بوظائفها المدهشة سابحة في هذا الكون الذي ما زالت تكتنفه الأسرار الجميلة والمخيفة ، وذلك حسب زاوية النظر الإنساني . ومن ذلك قوة الدفع المائي من أسفل إلى أعلى ، والمبنية كذلك على أساس علمي  دقيق ، تعلقاً بأوزان الأشياء المغطسة في الماء وأحجامها فضلاً عن مداخلة الحركة والفارق بينها وبين مثلها قريباً من الأرض أو بعيداً عنها ، في كلا القوتين المتعاكستين : الدفع المائي والجاذبية . ومن هذه القوانين أو القوى الفاعلة الخفية ، الطاقة المحركة لكثير من الأجهزة والتي عليها بنيت حضارة التكنولوجيا الحالية . وجميـع هذه القوى ، كما هو معلوم ، غير مرئية ، وأكثر من ذلك ، فإن كثيراً منها لا نكاد نحسه ، حتى ولو حاولنا تحسسه أو استشعاره ، حتى أن بعضنا إذا لم يكن قادراً على إجراء تجارب علمية على الجاذبية الأرضية ، فإنه لا يصدق بها ، ما دام لا يحسها لا في قيامه ولا قعوده ، ولا يقظته ولا نومه . وبديهي أن هذه القوى موجودة وفاعلة ، ولو كذب بها جميع الناس كما كان الحال مثلاً في القرون الماضية .

        أما ما يهمنا من هذه المقدمة الوجيزة ، هو أن الله عزّ وجل خلق في جملة هذا الخلق ، الملائكة ، وجعلهم  قوى عاقلة وفاعلة ، وجعل أعدادهم ، تتجاوز  كثيراً عدد البشر ، وكذلك  جعلهم قوى غير مرئية ولا محسوسة ، فإن الجاذبية إذن ، والدفع المائي وغاز الأوكسجين وغيره ، والطاقة بشتى أنواعها ودرجاتها ، وغير ذلك من القوى الفاعلة غير المرئية ، هي مخلوقات لله سبحانه ، خلقها وسخرها لمشيئته صادعة بأمره ، كذلك الملائكة وهم خلق أرقى وأسمى وأفضل ، هم عباد لله مكرمون ، يأتمرون  بأمره ، ويسبحون بحمده ، ناشطين دائبين لا يسأمون . وهم كما سنرى من بعض الآيات القرآنية ، خلق نوراني من النوع الشفاف ، الذي لا يستطيع الإنسان العادي رؤيته لا في ليل ولا نهار ، إلاَّ إذا تمثل بإنسان أو بطير أو بغير ذلك .

        والإيمان بالملائكة فريضة ، كالإيمان  بالكتاب والآخرة ، والبعث والحساب  إلخ … قال الله عزّ وجل :{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } .[ 177 : البقرة ] .

        والله عزّ وجلّ ، مدح في الملائكة سجاياهم ، وإخلاصهم ، وتفانيهم في طاعته سبحانه في أكثر من آية ، فقال فيهم  مثلاً { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } وقال{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ } وقال له الحمد : { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ …وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }. [ 13 : الرعد ] . ومعلوم أن خشية الله ومخافته من الصفات التي مدح الله بها خاصة عباده ، قال سبحانه : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } .

        أما كيف يجب أن ينظر الإنسان إليهم ، وما ينبغي أن يعتقده بهم ، فهو كما أخبر سبحانه عنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ }  { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } يسبحون بحمد الله لا يسأمون ، ويخافونه ، ويتفانون في طاعته . وربما  نظر إليهم بعض الناس في الحاضر كما في الماضي ، نظرة تعبدية ، فوقعوا في الشرك الذي لا يغتفر . وقد حذَّر سبحانه من ذلك ، في جملة ما حذَّر منه في قوله تبارك وتعالى عما يشركون :

       { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ …وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}. [79 ـ 80 : آل عمران ] .

        ربانيين ،نسبة إلى الرب الذي هو الله رب العالمين، فمهمة الأنبياء هي دعوة الناس إلى الله ، وإلى توحيد الله ، وإلى طاعة الله ، وحده بدون شريك ، فإنه لا  إله إلاَّ الله .وقوله سبحانه :{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } أي لا يحق لبشر أن يؤتيه الله النبوة أو أن يبعث به رسولاً إلى الناس ثم يقول للناس اعبدوني من دون الله ، وعلى افتراض أنه فعل،فـ { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }، قال تعالى:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } والوتين هو الشريان الرئيسي الذي يغذي الجسم بالدم النقي الخارج من القلب. كذلك الملائكة هم دعاة إلى الله ، إذا كلفهم الله بذلك ، وهم رسل إذا جعلهم الله كذلك،وإلاَّ فلهم وظائف ومهمات هم مخلوقون لها،متلبسون بها،بخلاف الإنسان المخير في معظم شؤونه،والذي قد يعصي الله سبحانه،وطالما عصاه مختاراً، يعمى عن الحق ويتسافل إلى الباطل .فالملائكة ليسوا كذلك،هم لا يعصون الله عزّ وجل طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر،وقد قال فيهم سبحانه:{عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ  وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.[6:التحريم].عليها أو على جهنم،لا يعصون الله إطلاقاً وينفذون ما يؤمرون به،وقد ذكر مدى هذه الطاعة لهذا الصنف من الملائكة،وهو سبحانه يعني جميع بقية الأصناف،ولكنه هنا خصص،بمعنى أنه إذا كان هؤلاء وهم خزنة النار،والبديهي في خلقه لهم أن يكونوا الأقوى والأعتى والأشد قسوة،وقد وصفهم هو سبحانه بالغلظة والشدة،ومع كل هذه الصفات الجافية التي هي لهم،مع كل ذلك،هم لا يعصونه طرفة عين ولا أقل ولا أكثر ـ لإطلاق قوله سبحانه:{لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ}ـ وينفذون بدقة كل ما به يؤمرون ـ كذلك لإطلاق القول وتضمينه معنى أدق التفاصيل،فيما يأمر به ويريده سبحانه لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم .فإذا كان هذا الصنف من الملائكة ، مدى طاعتهم لله عزّ شأنه هو كذلك ، فمن الطبيعي والبديهي أن تكون بقية الأصناف ، الأقل غلظة ، أو التي لا غلظة  فيها أو التي هي رسل لطفه وعنايته ورعايته ، ورحمته وحبه ، بنفس الطاعة  ، ولا نقول أطوع ، لأن آية { لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ  وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ليس  فيها ما يشعر بأن هناك أطوع وأحرص على التنفيذ ، مما تضمنت كلماتها ومعانيها الكريمة .

        ويظهر بقوة ، من تدبر آيات الله والتأمل العلمي في خلقه ، أنه هو سبحانه قد أبى أن تتم الأمور إلاَّ بأسبابها ، وأنه هو سبحانه خالق ومسبب هذه الأسباب . ونحن بعونه وبإذنه تعالى سنستعرض بعض وجوه حكمته سبحانه في خلقه الملائكة ، من خلال مواكبتهم وعلاقاتهم بالإنسان ، في مراحل حياته ومماته وبعثه وحسابه وجنته أو ناره ، حيث هم لا يعملون ولا يتحركون ولا يؤثرون إلاَّ بأمر الله وبإذنه سبحانه ، وذلك كما سنرى إن شاء الله من خلال آياته البينات .

        أما معنى الأسباب على ما جاء في ( اللسان ) : فالسبب : كل شيء يُتَوَصَّلُ به إلى غيره ، وفي نسخـة : كل شيء يُتَوَسَّل به إلى غيره ، وقد تسبب إليه ، والجمع أسباب ، وكل شيء يُتوصل به إلى الشيء ، فهو سبب . وجعلت فلاناً لي سبباً إلى فلان في حاجتي وَوَدَجاً أي وُصْلَةً وذريعة .

        فكما جعل الله سبحانه أسباباً لحفظ السماوات والأرض هي أصناف الجاذبية ، حيث الأرض تسبح في مدار محدَّد هو الثالث حول الشمس بعد الزهرة وعطارد ، وذلك بسبب التجاذب بينها وبين الشمس من جهة وبين بقية الكواكب من جهات . ونفس الشيء يقال عن بقية الكواكب وأقمارها ، وبقية مليارات الشموس في مجراتها ، والمجرات في مساراتها ، مما لو حاول الإنسان تتبع نشاط وحركات كوكب واحد ضمن مجموعته متعلقة حركاته بحركاتها ، لأصابته الدوخة، وفرَّ ساجداً لله يسبحه بعقله وقلبه ولب عظامه . وكما حفظ سبحانه السفن التي كالجبال في البحار بقوة الدفع المائي الذي استخرج سرَّه العالم أرخميدس هكذا : كل جسم يغطس في الماء يتلقى دفعاً عمودياً من أسفل إلى أعلى يساوي وزن الماء الذي حل محله هذا الجسم . إلى آخر ما خلق الله سبحانه من الأسبـاب

العلمية الظاهرة والخفية لحفظ هذا الكون وتماسكه جملة وتفصيلاً . كذلك هو سبحانه خلق الملائكة من جملة الأسباب والوشائج والوسائط التي يدبر ويدير بها ملكه اللانهائي ومملكته  هذه الجميلة الكريمة الرائعة التي بغير حدود . وفي جملة هذا الملك وهذه المملكة ، هذا الإنسان الذي كرمه الله الحبيب وسخر له ما في السماوات وما في الأرض  جميعاً منه ، وذلك في قوله له الحمد : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } .[ 70 : الإسراء ]. وقوله سبحانه : { اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . [ 12 ـ 13 : الجاثية ].

        هذا الإنسان ، كذلك ، خلقه الله وحفظه ، ويسّره وبصّره ، حتى وخيَّره بالأسباب ، من كلمة كن ، ( التي هي إرادة الله سبحانه ، وليست هي أحرف ولا لفظ ولا صوت ولا استغراق زمان ) ، إلى التراب إلى النطفة إلى الطفل الذي منذ جنينيته إلى ولادته إلى وفاته ، يرعاه ويحفظه  حسب أسرار الغيب والمشيئة ، بأعداد من الملائكة ، متنوعة ومحسوبة مهامهم وهو سبحانه فوق كل ذلك الرقيبُ والحاكم والمسيطر والمهيمن .

أولاً : قوله تبارك وتعالى :

       { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } . [ 11 : الرعد ] .

                فكلمة ( يحفظونه ) في الآية ، تدل على الجمع ، وعلى يقينية أنهم أكثر من إثنين ، وعبارة  من بين يديه ومن خلفه ، تعني الإحاطة به ، في أي جهة تحرك ، واعياً أو غير واعٍ ومن أي جهة أُتي إليه ، فله من المعقبات ما يتعقبه ويحفظه بأمر من الله سبحانه وله الحمد . إلاَّ إذا غيّر الإنسان ما في نفسه متحولاً من إيجابية مع ربه الحبيب إلى سلبية ، فحسب درجات تحوُّله  يكون تحول العناية والحفظ عنه، فرداً كان أو جمعاً . { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }  فالمعقبات هؤلاء ، كجميع الملائكة الآخرين مؤتمرون بأمره عزّ وجل ، ودرجة  اهتمامهم  بمن يؤمرون بحفظه ، كدرجة اهتمامه بربه ، ونسبة ولائه له سبحانه ، فإذا كان ولاؤه لغير الله من دون الله ، سقط ، ولذلك كان آخر تنويه في الآية الكريمة هذه : { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } .

ثانياً : قوله لا إلـه إلاًّ هو :

       { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } . [ 17 ـ 18 : ق ] .

        الآية هي خبر عن الملكين المرافقين للإنسان أحدهما عن يمينه يكتب صالحاته، والآخر عن شماله يكتب سيئاته ، وهذا التلقي هو جملة ما يتلقاه المتلقيان عن الإنسان المعهود إليهما بكتابة أعماله .

        هذا هو التفسير المتعارف عند المفسرين بشكل عام .

        أما الحقيقة ، فتوقف قليل عند عبارة { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } ثم الرجوع إلى ما قبلها مباشرة وهو قوله سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ … } فهذا  الكلام المقدس ، يشعر أن التلقي الأوَّلي ، هو من الله سبحانه ، فالملكان يتلقيان من عزته الأوامر والنواهي ، والآية في رأس ما يقصد منها هو قرب الله إلى الإنسان واستبطانه وإحاطته به ، وكذلك بالملكين المكلفين برقابة هذا الإنسان ، إذ يوحي الله إليهما ما يشاء بخصوص هذا الإنسان ويبدو، بقوة ، أن تكاليفهما هي أكثر من مجرد الكتابة ، كتابة الأعمـال . وأقل ما يقال ، في بقية  هذه التكاليف ، هو إشعار الإنسان ، ودائماً بأمر من الله ، بخطئه إذا أخطأ ، فيدخلان عليه الشعور بالحرج ، وإذا أصاب ، يدخلان عليه شعوراً ، عادة يسمى راحة الضمير ، ويتأكد هذا الأمر ، عند الصديقين والأصفياء من عباد الله الصالحين ، وكلما ازدادت نسبة الصفاء والصدق في التوحيد ، كلما ازدادت نسبة اليقين ليس فقط ،  بهذين

النوعين من الشعور ، وإنما كذلك بتوجيه صاحب العلاقة ، بأحاسيس داخلية تقوى وتشتد أو تضعف وتنعدم ، حسب درجة القرب من الله عزّ وجل والإنشغال بذكره ، أو البُعد عنه والإنشغال بسواه .

        أما القول بأن قوله تعالى { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } يعني من الإنسان ، فهذا تقييد وتوجيه لقوله تعالى بدون مبرر ، بلى ، يضاف إلى أولوية التلقي من الله ، التلقي من الإنسان ، وقد تغني عن ذلك ، عبارة { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، أي رقيب حاضر ، إذ تكفي لأخذ العلم بأن الملكين إنما يسجلان كل قول ، إضافة إلى الرقابة العامة ، على الإنسان ، وكل ذلك ضمن هيمنة الله سبحانه وإحاطته بالإنسان وملائكته ورقابته لهما ، لدرجة أنه سبحانه ، إذا أراد أن لا تكتب سيئة في صحيفة إنسان يحبه ، حجب السيئة عن الملائكة ، فما استطاعوا لها إدراكاً ولا تسجيلا .

        أما عن الشؤون الحياتية للإنسان المؤمن ، وعن رعايته في أدق مشاعره النفسيـة وأحاسيسه البدنية ، فإن الولاية العامـة في ذلك ، لله سبحانه وتعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } . [ 11: محمّد ].

ويكون ذلك ، إما بملائكته سبحانه ، وإما بأسمائه الحسنى وأسبابه العليا. قال تبارك وتعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وذلك رهن بمدى صدق الإنسان ومنـزلته عند رب العالمين ، وبالتالي على اختياره . والآية الكريمة التالية ، تشير إلى الأمرين ، وبطريقة الإعجاز القرآني الذي يستحيل أن يجارى ، قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } . [ 30 ـ 31 : فصلت ] .

        فالخطاب في الآية الكريمة :{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ }

فيه أمران حقيقيان هما نسبة الخطاب إلى الله تعالى ونسبته إلى الملائكة ، والحقيقـة، أن هذين الأمـرين مقصـوران ، على تأويـل أن هـؤلاء المؤمنين المستقيمين ،

 

إذا كانت غايتهم من وراء إيمانهم واستقامتهم ، الدنيا والآخرة ، فالله سبحانـه يوكل بهم ملائكته ، يجلون عنهم : الخوف والحزن ، ويدخلون على أنفسهم البشرى بأنهم من أهل الجنة ، ويشعرونهم بحقيقة أن الله يتولى شؤونهم ويحفظهم ويرعاهم ويدفع عنهم الأسـواء . أما إذا كان الله سبحانه هو الغاية ، وهم يحيون له وبه تعبداً وحباً ، دون  توقف عند زهرة الحياة الدنيا وحتى عند الآخرة ، فالخطاب :{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } ، هو لهم ، وهو من الله سبحانه ، وليس من الملائكة ، وفي ذلك كما هو واضح ، فارق عظيم ، لا يجوز قياسه . بين أن يتولاهم سبحانـه بأسمائه الحسنى وأسبابه العليا ، وبين أن يوكل بهم عباداً من خلقه ، ولو كانوا مكرمين وبررة . قال سبحانه : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } . وقال له الحمد : { … وَإن تَظَآهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلآهُ وَجِبْرِيلُ وَصَآلِحُ الْمُوْمِنِينَ وَالْمَلآئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ 4 : التحريم ] .

        ومن الآيات التي تساند معاني الآية الكريمة التي نحن بصددها : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ …} قوله عزّ وجل : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ  مَنشُورًا . اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى  بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .

[ 13 ـ 14 : الإسراء ] .. وقوله عزّ شأنه في حديث عن رسول الله صالح عليه السلام : { قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}. [ 47 : النمل ] ، وفي كلام صالح هنا تورية ، هو تعمدها ولو كان القوم الذين كذبوه لم يعلموا قصده . وذلك أن الملاك أو الملائكة الذين يكتبون أعمالهم وأقوالهم ، هم والناس جميعاً ، في سلطان الله وتحت سمعه وبصره . ومثل ذلك قول الله تبارك وتعالى ، خبراً عن المرسلين الثلاثة وقومهم : { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ … قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } . [ 18 ـ 19 : يس ] .

ثالثاً : قوله له الحمد :

       { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُـونَ } . [ 22 : المجادلة ] .

        بحكم الرحم ،والألفة والمعاشرة ،من الطبيعي أن تحصل مودة بين الأرحام ولا سيما منهم الأقربين ،في الأسرة الواحدة ومتفرعاتها القريبة،من أبناء وأحفاد وأعمام وأخوال وأبنائهم،حيث يشكل هذا المجموع ،ما يسمى بالعشيرة.هذه المودة بين الأقربين وبين أفراد العشيرة،لكي تكون مقبولة مباركة عند الله،جعلها سبحانه مشروطة بالإيمان،فالقرابة الحقيقية هي التي تكون بين المؤمنين. فمن أصرَّ على مودة أبيه أو إبنه أو أخيه ،أو عشيرته بعضها أو جميعها، من خرج منهم عن شريعة الله وتعاليمه ،حرمه الله من نعمة الإيمان ومن تأييده بروح منه . ومن وادَّ أحداً من هؤلاء أو جميعهم على شرط الإيمان ، كتب الله الإيمان في قلبه وأيَّده بروح منه …

        وكأنما جعل الله هذا الأمر علامةً على إيمان المؤمن ،أو على حقيقة إيمانه ، فإذا كان لا يوادُّ أباه أو إبنه أو أخاه ، طاعة لله ، بسبب انحرافهم عن الدين ، فتلك علامة ظاهرية على حقيقة إيمانه ، يقابلها ، في باطنه ، تبعاً لإخلاصه لله وللدين الذي أرسل به رسوله ، أن يكتب الله الإيمان في قلبه ، وما يكتبه الله لا يقدر على محوه أحد ، هي كتابة بحروف نورانية لا تنطفىء ولا تخبو . وأكثر من هذا ، فإنه سبحانه يؤيده بروح منه ، هذا الروح ،أولاً،هو زيادة  على أصل العدد المخصص لكل إنسان من الملائكة ،كما رأينا وسنرى إن شاء الله من الآيات ، وثانياً ،إن الأمر المكلف به هذا الروح ،هو أمر عناية ورعاية وتوجيه وتسديد وبركات إضافية من جهة ، ولها صفة الديمومة من جهة ثانية ، باعتبار أن الذي كتب ويكتب في القلب الإيمان ، ويؤيد بهذا الروح ، هو الله جلّ جلاله ، وهذا الروح ، لا شك أنه غير عادي  في الملائكة العاديين ، هو أعلى شأناً ، وأكثر حَمْلاً  من بركات الله وكنوز رحمته .

        هذا في الدنيا : الكتابة في القلب ، والتأييد بروح منه جلّت عظمته ، ويدوم ذلك بفضل الله وكرمه ، حتى يدخل في الآخرة ، مخلَّداً في نعيم أَنْعَمُهُ رضى

الله عنه وإدخاله سبحانه الرضى على قلبه ، مع ذلك الشرف الرفيع : حسبانه في أنصار الله وحزبه ، المفلحين الرابحين الأبرار .

رابعاً : قول الله له الحمد :

       { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } . [ 2 : النحل ] .

        كأنما الملائكة أنوار علوية ، فوق ما نعرف ونرى من الأنوار ، يوجههم الله سبحانه ، كما يريد وكما يشاء ، بعقول فعَّالة ، يحركها جلَّت قدرته ، في جميع الإتجاهات الباطنية والظاهرية ، بقوى ودرجات مختلفة ، تذكرنا هذه الموجات النورانية المجنحة ، أو الطيور الشفيفة الضوئية اللامرئية إلاَّ لماماً ، تذكرنا ، على ضيق آفاقنا واختراعاتنا الطفولية ، مقارنة بظواهر هذا الكون وأسراره ، وأعماقه وأغواره ، وأنواره السبعين ـ بلغة القرآن الكريم ـ في مقابل ما نعرف من أنوارنا السبعة ، التي لم نخلق منها ولا ذرة ولا ظل ذرة ، تذكرنا بتلك الأداة التي هدانا الله سبحانه لاختراعها ، ندير بها التلفاز ، من بعيد ، بالطاقة ، بموجات نور أرضي،

كذلك هو من خلق الله وصنعه ، ونوجه بها اللاقط والموجة والصوت واللون والجهات … فكيف إذا كانت موجات النور هذه عاقلة ، وبيد الله عزَّ شأنه ، إذا كانت من غير عالمنا الأرضي ، من سماوات أعلى وعوالم أرقى ، يرسلها الله جلَّت عظمته ، تخترق السماوات وتعبر الأجواء ، بأسرع من الضوء ، وأسرع من الأسرع ، حتى يصل إلينا الأسرع الذي لا يجارى ولا يبارى ، الذي تخرس عنده الأرقام والحواسـب ، والأفكار والأحلام والظنون ، ذاك الذي في قول الله سبحانه :

        { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } .

        { (وَاحِدَةٌ ) كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }  وليس كلمح البصر ، إذ لمح البصر يستغرق وقتاً ، هو قياس زمني ، إنما أمر الله أسرع من ذلك بلا قياس ، هو { وَاحِدَةٌ }  كلمح بالبصر ، يعني ، هو جزء من الثانية ، هل جزء من ألف ، أم من مليون  أم من مليار  أو من مليارات ؟ كذلك  هذا كلام وأسئلة أطفال في مواجهة  علم  الله

وأسرار الله ، أرقى العلوم تبقى في مستوى البهيمية مقارنة مع علم الله المكنون ، وفي جميع الأحوال ، فإن ما عند البشر هو من علم الله سبحانه  { لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } . فما هي هذه السرعة  التي قد تجتاز الأكوان  من أقصاها إلى أقصاها ، في { وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } ونذكِّر  كذلك بهذه ( الكاف ) التي في { كَلَمْحٍ }  ، إذ أنها للتشبيه ، واللمح بالبصر المشبَّه به ، غير الحقيقـة  ، فالحقيقة يستحيل على البشر إدراكها ، لذلك شبه لهم الأمر ، بما هو أعلى سرعة عندهم ، سـرعة النور ، التي هي اللمح بالبصر ، أما سرعة أمره سبحانه ، إذا شاء ، حين يشاء ، حيث يشاء ، كيف يشاء … هي أسرع من  جميع ما خلق من السرعات في الكون . فأقصى سرعة عرفها العلم البشري ، هي سرعة الضوء ، وإذا استطاع أن يرصد بالأرقام السرعات التي ما زالت مستعصية في حركات جزئيات الذرة ، فستكون سرعة جديدة أسرع من الضوء ، إنما تبقى سرعة صنف من الملائكة في آية كريمة ـ والملائكة أصناف ودرجات ـ تبدو معها سرعة الضوء المعروفة في علم أهل الأرض كسير السلحفاة في سباقها مع البرق الخاطف . هي في قوله عزّ وجل :

       { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } . [ 4 : المعارج ] .

        وهذه الخمسون ألف سنة لا بد أن تكون إلكترونية، أي بسرعة الإلكترون حول نواة الذرة . فالمسافة إذن  هي ما بين طرفي الكون ،إذا كان لهذا الكون نهاية يقطعها هذا الصنف من الملائكة في خمسين ألف سنة.وإذا كان العلم قد قرر أن طول بعض المجرات العادية،تحت سمائنا الدنيا هذه،حتى نصل من بدايتها إلى منتهاها، يقتضينا ثلاثمائة مليون سنة ضوئية، أي طيراناً برقياً فوقها بسرعة الضوء. هذا ،مع أن أية مجرة من المجرات الكبيرة ما هي إلاَّ كحبيبة غبار في مملكة رب العالمين وعرشه المجيد .فسرعة الملائكة إذن تقطع الكون كله ،في خمسين ألف سنة ضوئية،وتصبح سرعة الضوء الأرضي عندنا مقارنة معها لا تكاد تذكر.كذلك سرعة هذا الصنف المدهش من الملائكة ، التي  يستحيل رصدها بإمكانات الإنسان وآلياته ومراصده، هذه السرعة الهائلة ،كذلك تصبح قريبة من الصفر النسبي مقارنة مع سرعة أمر الله الذي أخبر عنه في قوله جلَّت عظمته : { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } والذي نرى آثاره جليَّةً ، في إسقاط دولة هنا ، وهَدْمِ عرشٍ هناك، ونصر عسكر أو عزيمته هنالك .وزلزال في بر وطوفان في بحر ، وانشقاق أوزون في السماء أو انشقاقات ، ومجرات تولد ، ومجرات تغيب ، وعنايات ببشرٍ اهتدوا ، ونقمات على آخرين ضلوا ، إلى آخر ما يتعلق بإدارة هذا الكون العملاق ، وما خلق الله فيه ، ومن جملته هذا الإنسان المغرور بربه أو الفقير إلى رحمة ربه .

        وفي جملة العناية بهذا الإنسان ، مضمون الآية الرابعة عن الإنسان والملائكة:

{ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } .

        وهذا كذلك  ، كما قدمنا ، لون من ألوان الوحي ، الذي  ينزِّل به ملائكة من لدنه سبحانه بقيادة الروح على أفراد من عباده أو حتى على مجموعات ، حسب نص الآية ، لينذروا أقوامهم ، كلاً بلغته، وفي قومه وفي موطنه ، في القارات وفي الدول والمدن والقرى ، على مدار الأيام أنه لا إلـه يحكم الكون ، ويدبره ويديره ، ويهيمن عليه ، إلاَّ الله القاهر فوق عباده ، الرحمن الرحيم والمنتقـم الجبار . فحق عليهم أن يتقوه حق تقاته وأن يخشوه وأن يسترحموه ويستغفروه ، فإنه سبحانه أهل الكبرياء والعظمة ، واهل التقوى والمغفرة ، وأهل العفو والرحمة .

        ويتكرر ، هذا المعنى ، إنزال الملائكة بالروح ، أو إلقاء من أمره تعالى أو إيحاء الروح كذلك من أمره سبحانه في آيات أُخر : قوله عزَّ وجل : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } .[ 15 : غافر ] . وقوله عزَّت عظمته : {  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ  } .[ 52 ـ 53 :الشورى] .وفي الآيـة الأولى قـوله تعالى :

{ نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } تلويح إلى استمرار الهداية بهذا الذي أسماه  سبحانه { رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } ،وهو غير جبرائيل عليه السلام  أو الروح القدس  الذي كان يوحي الله به من جملة ما يوحي به إلى رسول الله محمّد ( ص ) وصحبه الأبرار الميامين . وفي الآية معنى صريح بأنه سبحانه جعله نوراً ، يهدي به ربما الكثير من خاصة عباده سبحانه ما دام على ظهر هذه الأرض  بشر يرزقون .

خامساً : قول الله له الحمد :

       { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ … يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }.[4 ـ 5 : السجدة ] .

        { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } أي أمر الدنيا مدة أيامها ،تدبير العالم بكل شيء ،المحيط بكل شيء،المهيمن على كل شيء ،قال تبارك وتعالى :{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فإذا اقتضت بعض هذه الشؤون ،الأسباب النورانية والقوانين المحكمة والملائكة على شتى درجاتهم ،كان ذلك كذلك،في جملة تدبيره سبحانه،من أدق الأمور إلى أعظمها .{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أهل النعيم من الجن والإنس ، بسرعات الملائكة على  اختلاف درجاتهم،تعلقاً بإختلاف درجات المؤمنين من الجن والإنس.فمنهم السابقون إلى مقاماتهم  المعدة لهم في عليين عند سدرة المنتهى ، ومنهم  اللاحقون كذلك إلى مقاماتهم في بقية درجات النعيم،والجميع يصلون خلال هذا اليوم المذكور في الآية الكريم  { فِي يَوْمٍ } ، أي مدة ـ قياساً على حسباننا الزمان ـ هي يوم من أيام الآخرة  المخصوصة للحساب ، والتي مجموعها خمسون ألف سنة ، وهذا اليوم الذي يقطعه المؤمنون عروجاً،كان يقتضي منهم ـ لو كان الأمر موكولاً إليهم ـ ألف سنة،بأرقى ما سيتوصل إليه علم البشر من وسائل وطاقات، تختصر الزَّـ مكان أو الأبعاد الأربعة ، أي بأسرع من الضوء(1) ، لو أرادوا قطعه ، أي اليوم الأخروي ، في ظروف مشابهة لظروف دنياهم ، وتركيبة ما تحت سمائها.

من هنا يتبين أن قضية العروج يوم القيامة ستكون عبر السماوات، بعضاً أو كلاً ، حسب الدرجات ، وبأسرع  من أسرع ما سيتوصل الإنسان إلى معرفته من وسائل وقوانين علمية ، حيث سيكون العروج ، أي الإنتقال صعداً ، غير محكوم بالزمان والمكان والسرعة والقوانين العلمية ، مما عرفنا أو سنعرف على أرضنا هذه ، أو تحت سمائنا هذه الدنيا .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     وهذا دليل على أن الله سبحانه  سيكشف للعلماء في الدنيا ، ما هو أسرع من   الضوء.

        وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى يرعى الإنسان في نفسه ومتعلقاته وما يحيط به تحت هذه السماء من أفلاك ونجوم وقوانين علمية وموازين وأرض برطبها ويابسها وبحارها وأنهارها وبواطنها ، مشرفاً بعزته وجبروته ولطفه ورحمته على جميع ذلك بما يشاء من الأسباب ، حاضراً ناظراً ، سميعاً مجيباً ، بكل شيء محيط .

        وكما قلنا بالنسبة للإنسان ، فإن الله سبحانه ، يرعاه بعنايته ورحمته ، ما دام مستأهلاً لهذه الرحمة ، منذ خلقه من تراب ، ثم نفخ فيه العقل ، ثم تمريره في الأصلاب والأرحام . حتى أخرجه طفلاً  ، ثم درَّجه في مراحل العمر ، حتى يتوفاه إما عن تمام العقل ، وإما عن أرذل العمر ، وبين تمام العقل وأرذل العمر ، درجات. وقد أشار سبحانه إلى المفارقتين هاتين بقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }. [ 67 : غافر ] . فهذا مسار يرجى فيه للإنسان  أن يتوج  حياته ويختمها عاقلاً أو بتمام عقله . أما عن الأخسرين فقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } . [ 5 : الحج ] . وهذا مسار يختم الإنسان  فيه حياته وينتهي به ، كما قال سبحانه { إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } .

 

أما الذين اعتبروا { أَرْذَلِ الْعُمُرِ } في هذه الآية الكريمة هو الشيخوخة والطعن في السن ، فهم قد فَصَلُوا بين المعنيين المتلازمين في الآية ،وهما أرذل العمر وانتفاء العلم، [ والرُذالة ، كما جاء في القاموس ، ما انتفى جيده وبقي رديئه ، والرُذال : الدُّون الخسيس . ورَذَلَهُ رَذْلاً : جعله رذيلاً ، والرَّذْل : مصدر رَذَلَ ـ الخسيس الدون أو هو الرديء من كل شيء ] . فإذا اعتبروا هذه المعاني هي للشيخوخة  واعتبارها عند الله والناس ، فهذا تجن على الحقيقة ، إذ أن شيخوخة المؤمن ، لها منـزلة رفيعة عند الله سبحانه وطالما أوصى برعايتها بين الآي والأحاديث على ألسن الرسل . وهي كذلك عند الناس ، حيث تتجلى صفات الإيمان بنورانية وفهم وعلم جَم ووقار وجملة خصائل يفرضها الله على الناس فرضاً دون إرادة منهم ، ودون أن يكون لهم فضل في ذلك  ، بل الفضل لله وَحْدَهُ لا شريك له . وأمثال ذلك كثيرة بين تاريخ الأنبياء ، وهم بشر من الذين عمَّروا ، كنوح ، وإبراهيم ويعقوب وشعيب وغيرهم ، وبين عامة الناس ، من علماء ومفكرين وكتَّاب ، كانت شيخوخة  كل واحد منهم ، أكثر صفاءً ، وربما في بعض الحالات أكثر إنتاجاً من عهود شبابهم  وفي جميع حالات هؤلاء إذا كانوا مؤمنين مرضيين عند الله سبحانه ، لا يقال عن واحد منهم أنه بلغ أرذل العمر ولم يعد يعلم مما علمه الله شيئاً . ثم ماذا  نفعل بمضمون آية { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا … الآية } وهل مضمونها لا ينطبق إلاَّ على الشباب ،في حين أن المؤمنين الشيوخ أولى بعناية الله سبحانه وبرأفته ،ورحمته،   ولا سيما ، إذا كانوا شابوا وشاخوا مجاهدين في سبيل الله في شتى أنواع الجهاد . أما إذا بلغ الإنسان حقيقةً أرذل العمر ولم يعد يعلم من بعد علم ٍ شيئاً ، أي ذهب كل ما يعلم ، فإن في ذلك علامات استفهام ، نختمها عادة بالتسبيح والتحميد والإستغفار لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات .

        وأمر الله عزّ وجل ، لملائكته ، المأمورين بتوفي الناس ، يجيب على علامات الإستفهام هذه إلى حد بعيد . فسلوك الملائكة في توفي الناس أو إماتتهم يختلف من إنسان لآخر ، وقد يكون في هذا الإختلاف مئات الحالات بين أحسن حالات الموت وبين أسوئها في النظر الظاهري ، على أن الظاهر غالباً ما ينبىء عن الباطن الذي يكون إما أبلغ سعادة وهناءَة ،كما استغراقة عميقة في نوم مريح ، يستيقظ بعدها على رحمة الله ، ونعمه ونعيمه ،وإما أشد إيلاماً وانتقاماً ،كما سنرى في بعض آيات الله البينات ، قوله سبحانه وله الحمد .

سادساً : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } .[11 : السجدة ].وطبعاً ، ملك الموت لا يتوفى الجميع ، ولا سيما إذا كان في الأمر موت جماعي ودفعة واحدة ، إنما لملك الموت جنود يأتمرون بأمره،  الذي هو أمر الله سبحانه ، والجميع هم جنود الله ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }.وهكذا ، فيما يتعلق بملائكة  الموت، نرى ، بعد تعميمه الخبر سبحانه ، يفصِّل الأمر نوعاً من التفصيل في الآيات التاليات ، قوله سبحانه :

     ـ  { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا } . [ 97 : النساء ] .

    وقال عزَّ شأنه :

     ـ   { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } . [ 93 : الأنعام ] .

        وقال له الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم :

    ـ   { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .[ 50 : الأنفال ] .

        وقال جلَّ جلاله :

  ـ    {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}] 91:ق]

        وقال لا إلـه إلاَّ هو :

    ـ   { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ . وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ . وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } . [ 83 ـ 85 : الواقعة ] .

سابعاً :  قال تبارك وتعالى :

    ـ  { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } . [ ( 20 ـ 21 ) : ق ] .

        التوفي يتم قبل الساعة ، ويوم قيام الساعة ، أي قبل النفخ في الصور وعند النفخ فيه ، وذلك يوم القيامة .وفي جميع هذه الأحيان يكون توفي الأشقياء كما ذكرت الآيات الكريمة التي أوردناها ،أما توفي المؤمنين السعداء برحمة ربهم ورضاه ورضوانه ، فقد ذكر سبحانه عنهم كذلك في آيات بينات ، حالات أظهر فيها بين العبارة والإشارة أمره للملائكة بتوفيهم وإسعادهم بذلك في الدّنيا ويوم القيامة والآخرة .ونستعرض الآن بعض هذه الآيات التي تتجلى فيها رأفته ورحمته على عباده الأبرار ،وأوليائه الصالحين . قال تبارك وتعالى :

       { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ .نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون } . [ (30 ـ 31) : فُصِّلَت ] .

        فقول الملائكة لهم  في الحياة الدنيا ،وحياً من الله سبحانه،ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا،وكذلك توليهم برعايته ورحمته في الدنيا والاخرة ، فإنَّ في ذلك كله إشعاراً بتسهيل الموت عليهم،وبتوفيهم سعداء،وطبعاً بموجب مضمون وعده جلَّت عظمته:{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } وكذلك  تظهر أنواع العناية والدرجات في بعض إشارات الآيات التالية : قوله سبحانه :

    ـ  { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . [ 32 : النحل ] .

وقوله له الحمد :

    ـ  { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. فقوله تعالى  { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} فيه إشارة إلى حُسْنِ التوفّي ، إذ أن الدار المقصودة هي دار الدنيا ،وعقباها تبدأ من الموت فصاعداً وكذلك، ربما قبيل الموت، أي في المراحل الأخيرة من العمر ، والله واسع كريم .

        وقوله سبحانه :

       { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ.لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ .لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.[101 ـ 103 : الأنبياء ] .

        وهكذا نرى أن رُسُلَ الله من ملائكته المكرمين،يواكبون الإنسان ،بأمر منه سبحانه،منذ هو في الأصلاب وفي الأرحام ـ ما داموا مواكبين آباءَه وأمهاته ـ ومذ يتنفَّس على هذه الأرض ثم يحبو ويدرج ويشب،وكهلاً وشيخاً،إذا إستكمل عمره .ثم يتوفونه ، إذا توفاه الله بهم .ثم إذا { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } من الملائكة المكرمين عند رب العالمين . ثم إذا كان من أهل النار ، تتلقاه خَزَنَتُهَا من الملائكة : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ.وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ }  [70 ـ 71 :الزمر] .وكذلك إذا كان من أهل النعيم ، تتلقاه خزنة النعيم وهم ملائكة الرحمة :{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } .[73 ـ 74:الزمر].وهكذا تستمر مرافقة الملائكة للإنسان،حَفَظَةً وَكَتَبَةً، وأرْواحاً علويةً هم زيادة من فضل الله وكرمه ورحمته للصديقين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ،ومع كل نفس يوم البعث سائق وشهيد ، وملائكة إستقبال وأحاديث ومناقشات منهم وإلقاء حجج على الأشقياء ، ومؤانسة وجميل إستقبال وخدمات جلى للمؤمنين السعداء بحبهم لربهم وبدارهم الباقية ، التي لهم فيها ما يدَّعون ، ولهم فيها ما يشتهون ، من حليم كريم ، ورؤوف رحيم ، وعفوٌّ غفور ، { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } وحتى في سماء الجنَّة سوف نرى ، بإذنه تعالى، وبكرمه وجوده ورحمته أسراب الملائكة ، طائرين محلِّقين في مهمات أو استعراضات ، يزيدون بذلك ، الجنة جلالاً وروعة وجمالاً ، مما لا يخطر في بال ولا يمر في خيـال . قوله تعالى  له الحمد وله المجد : { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }. [ 75 : الزمر ] .

        فالحمد لله رب العالمين ، وله الشكر ، كما حمد نفسه ، وكما شكر نفسه ، وكما ينبغي لكرم وجهه .