النفس اللادينية سجينة

النفس اللادينية سجينة :

        جرى عندي حوار بين رجل دين وأستاذ فلسفة ، أُثبته إظهاراً لفضـل الله على عبده الصالح الذي شعاره  : نعم لكتاب الله ولا للفلسفة …

        الشيخ  : ـ نحن في سفينة الأرض ، فلنقم بجولـة في خضم هـذه الحضارة ، ونتحدث على المائدة ، مائدة العقل ، لأن مائدة الطعام ، كلانا يأكل من طيباتها ، فهي بنسبة عالية متاحة للجميع ، مع فارق لا بدَّ منه ، إن للدينيين ميزة ، هي اجتنابهم المحرمات في سلوكهم عامة ، لكي تبقى قلوبهم ونفوسهم صالحة للتلقي من أعلى .

        الأستاذ : ـ وماذا تتلقى ؟

        الشيخ  : ـ تتلقى الهداية والسعادة ، والنعيم الخالد الموعود .

        الأستاذ : ـ ولماذا لا تهبط هذه النعم على اللادينيين ؟

        الشيخ  : ـ لأنهم يتناولون  من أسفل .

        نحن الدينيين ، نأخذ ونعقـل عن الله خالقنا وخالق هذا الكون ومسخّره لنا . ويجادلون في الله …

       { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ …  وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }(سورة الرعد،   الآية 13) .

        ويحتجون بنظريات ما أنزل الله بها من سلطان . قال نيتشه … ويقول  هيغـل … ويقول ماركس … اسمحوا لنا هؤلاء بشر مثلكم ، ونفوسهم أمارة بالسوء . ثم إنه كـان الأخذ عنهم ، لو أنهم تلقـوا من أعلى ، ولكن هؤلاء تناولوا من أسفل .

        أنقلوا لنا عن مصدر كمال : عن الله جلّت عظمته … عن كتاب لا ريب فيه من كتبه… عن نبي ختمت به النبوات  ، وما كان إفرازاً للصراع الطبقي ولا الجدلية التاريخية…  عن خلفائه الأئمة … وعمّن أوجب الله طاعتهم على الناس بعد أن نبّاهم أو اجتباهم ،  وعيّنهم في كتابه العزيز ،بأسمائهـم أو بأوصافهـم  … وأيضاً عن علماء الفلـك والتشريـح ، والنفـس وشتى حقـول العلم الكاشـف عن حقائـق نهائيـة ، مـمّن أرادهم الله وجعلهـم مصاديق لقوله عزّ وجلّ  :

       { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنـَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ … } (سورة فصلت،   الآية  53

       يبقى الفارق بين العقل  المقدس الذي هو نفخة من روح الله وبين النفس اللادينية من حيث النتائج ، وبالتالي مصير الإنسان العقلاني والإنسان النفساني ، ومصير التابعين  لهذا أو لذاك . مستفيدين هذه المقارنة من قوله تبارك وتعالى:

       { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }(سورة الليل،  الآيات (  5  ـ  10 )).

        فحيث إن العقل مستنير بالله عزّ وجلّ ، الذي  هـو نـور السمـوات  والأرض ، فقد غـدت المصادر  التي يتفـاعل معهـا هـذا العقل ، جميعـها إيجابية ، وهذه المصـادر : هـي الطبيعـة حـوله مُـدارَةً مُدَبَّرةً بكل أبعادها ودقائقها بخالقـها العظيم ، ثم العقـول … عقول الذين نبأهم الله أو اجتباهم وأوجبهم على خلقه ، ثم العقـل الذاتي الذي يعلـم أنه نفخـة من روح الله مسخّرٌ له ما فـي السمـوات وما في الأرض جميعاً منه سبحانـه ، فواضح أن نتائج هـذا التفاعل هي في سلم الإيجابية ، على قاعـدة  (لكل ما قدمت يداه ) مترتب عليها المصير الذاتي  ومصير التابعين  .

        بينما تأخذ النفس اللادينية زادها ، حصيلتها الفكرية ، أدواتهـا ، حاجياتهـا ، وبالتالي غايتها من مصادر هي أوثانها شاءت أم أبت ، حيث إن النية والاعتقـاد والتصديـق بالله العظيـم وبدينه الحنيـف ، همـا في رأس أولويات الاستنارة وبالتـالي التوفيق للأسباب، وما تستتبع من صـلاح بـال وفلاح ، أما اللادينية فهي تعاني من الانتكاس ، والتخبّط ، والتـردّي علـى سلّم السلبية على نفس قاعدة لكل ما قدمت يداه ، كذلك للذات والاتباع . فنتيجة لنيّتها وعدم تصديقها بالله أو بوعده أو بوعيده ، تمسي الطبيعة عندهـا عمياء مجهولة المصير ، ثم هي تأخذ بالاعتمـاد على نفوس الآخرين اللادينيـة بحكم التجانس ، مـمّا يزيد ، بالضرورة ، من نقصهـا الذاتي. وبمـوجب  المنطق العام تكون  النتيجة  : النقص والسلبية .

        ومـمّا يدعو للأسف الشديد  ، هذه المفارقة : فبينما نحن ندّعي  علـى النفس اللادينية في كثير من دعاوانا ، بالعلم والكشوف العلمية ، نجدها مصرّة على نفس الادعاء بالعلم والكشوف ، والحضارة التي  تركب هذه النفس سفينتها .  فنجد أنفسنا ، وبعاطفة الإنسان لأخيه الإنسـان ، مردّدين قـول النبي إبراهيم  عليه السلام  ، الذي أثبته له الله عزّ شأنه :

       { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ،وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(سورة إبراهيم  ،   الآية  36) .

        ونحن نسأل  ، ولكن هذه السفينة  إلى أين في خضم هذه الحضارة  ؟ وما الساحل المقصود ؟  وما الجزيرة المرجوّة ؟ وهل العلم غاية أم وسيلة  ؟

        الواقع أن العلم وسيلة لمعرفة الله عزّ شأنه وللوصول إلى الحقائق العليا والنهائية ، وبالتالي سعادة الإنسان الكلية .

        فهل حقّق العلم  ، بالمنظار اللاديني ، شيئاً من هذا ،  أم أنه زاد الأمر تعقيداً ؟  هذا في وقت زادت طمأنينة  الدينيين  مع الكشوف العلمية ، إلى درجة اليقين بفرد وسهم الموعود ، فضلاً عن سعادتهم النسبيـة على الأرض ، والتي هي على أي حال ،  وبالتأكيد ،  وبالبينات القطعية أفضـل بما لا يقـاس من حالات اليأس ، والتأزّم ، والشقاء ، التي يعانيها اللادينيون،  ظاهراً وباطناً .

        ويبقى السؤال : النفوس اللادينية إلى أين ؟

        رضيت أن تكون رهينة الأرض  ، ورهينة الحضارة ، ورهينة السفين ، وما استطاعت أن تستوحي شيئاً من علم الفلك ،  ولا علم التشريح ، ولا علم العقل ولا علم النفـس ، ولا بقية العلوم .  وليت المشكلة  تنتهي هكذا ، أي تلزم بما ترضى هي لنفسها . الحقيقة العلمية تقول :  قطعاً ، لا ، لأنه ليس عبثاً وجود كواكب في الكون ، هي أكبر من كوكبنا الأرض ، فضلاً عن سماوات غير سمائنا ، ولا عبثاً قول الله عزّ شأنه :

       { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى . وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى . فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى . لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى .  وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى }(سورة الليل  ، الآيات ( 12 ـ 21 )) .