بين أبطال كربلاء وأبطال مؤتة

بين أبطال كربلاء وأبطال مؤتة :

          أما موقف الحسين عليه السلام في كربلاء ، أو جملة مواقفه الشريفة ، فإن إظهاره الأسى والأسف فيها ، وبعض الحزن ، فكان  ذلك دائماً لإلقاء الحجة على الآخرين ، وللإعتبار ، ولإلقاء الدروس المشرقة على أهل الظاهر . أما حقيقة الحسين عليه السلام ، وحقيقة قلبه ومشاعره ، فكانت السعادة بقرب لقاء ربِّه عزَّ وعلا ، ولقاء جده محمّد (ص) وأبيه علي وأمه فاطمة عليهما السلام وجميع الأحبة من أنصار الله وأحبائه الذين سبقوه إلى جوار الله والنعيم المقيم .

          والإمام جعفر الصادق سلام الله عليه ، ليس أدرى من جده الحسين (ع) ، حيث يقول الصادق في تفسيره آية { قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . سورة الشعراء الآية 50 } : من أحسَّ بالبلاء في المحبة لم يكن محباً ( أي لله عز وجل ) ، بل من شاهد البلاء فيه لم يكن محباً . بل من لم يتلذذ بالبلاء في المحبة لم يكن محباً . ألا ترى السَّحرة لما وردت عليهم شواهد أوائل المحبة كيف زالت عنهم حظوظهم ، وهان عليهم بذل أرواحهم في مشاهدة محبوبهم فقالوا : ” لا ضير ” .

          وقال عليه السلام ، في تفسير الآية : { .. كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ . سورة الشعراء الآية 62 قال : من كان في رعاية الحق وكلايته لا يؤثر عليه شيء من الأسباب ، ولا يهوله مخوفات الموارد لأنه  في وقاية الحق وقبضته . ومن كان في المشاهدة والحضرة كيف يؤثر  عليه ما منه يصدر وإليه يرد ؟ ألا ترى كيف حكى الله تعالى عن الكليـم  قولـه :

 

{ .. إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ } .

          ومن الأدلة المادية على سعادة الحسين عليه السلام باستشهاده بين يدي الله عز وجل ، وبكل البلاءات التي شهدها ، والتي تصورها عن أهله وذويه بعد مصرعـه الشريف ، حيث هم في رعاية الله وكلاءته ، وفي حضرته وتدبيره ، ليجعل منهم للعالمين أبلغ عبرة ، وأرقى مدرسة فداءٍ وبطولة في تاريخ البشرية . قلنا من أبلغ الأدلة على سعادة الحسين (ع) وسعادة المستشهدين معه يوم كربلاء ، هو موقف أحد الأبطال من أتباعه وتلاميذه : برير الهمذاني .

          إذ ورد في السيرة الصحيحة ، أن بريراً كان واقفاً قرب زميل له من الأبطال أتباع الحسين (ع) ، المنتظرين دورهم في القتال والمبارزة ، وكانت المعركة دائرة في ذروتها ، بين الحسين عليه السلام وأنصاره على قِّلتهم من جهة ، وبين الكفرة الفجرة أعدائهم على كثرتهم الكاثرة من جهة أخرى ، وعلى ساح المعركة رؤوس تطيح وسيوف تقطر دماً وأيدٍ وأرجل تتقطع ، وصهيل خيل ، وعجيج وضجيج ، وإذا برير يغمز بيده جنب صاحبه ويمازحه ويضاحكه ، وصاحبه يقول : يا برير ماذا جرى لك والساعة ساعة جِدّ ، انظر واتق الله ، قال برير : سبحان الله والحمد لله ، وما همّ ؟ ونحن في عين الله وفي سبيله ، وما هي إلاّ ساعة نجاهد بها هؤلاء الكفار بسيوفنا ونَقتل منهم ثم نُقتل ، ثم نعانق الحور العين .

          الحسين عليه السلام أولى بهذه المعاني العالية ، والمشاعر السامية ، وتفهم الحقيقة الناصعة ، من برير الهمذاني رضوان الله عليه ، فهو أستاذه وإمامه ، وإنما تعلم برير هذا الشرف ، وهذه الشجاعة النادرة ، والثبات أمام الموت ، والسعادة بالشهادة المرتقبة من إمامه العظيم ، سيد شباب أهل الجنة ، الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام .

          في معركة ” أُحد ” ، في بدايتها ، رسول الله (ص) امتشق سيفاً أمام ثّلَّة من أبطال المسلمين وقال ـ يحرضهم على القتال ـ من يأخذ ها السيف بحقِّه ؟ فاندفع الرجال كل يقول : أنا يا رسول الله .. إلاَّ رجل مُعْلَم بعصابة حمراء حول رأسه ، قال وما حقه يا رسول الله ، قال (ص) : أن تضرب به حتى يلتوي . قال أنا لها يا رسول الله . فأخذه وشهره ، وأخذ يمشي به ويتبختر ، والتبختر أبلغ من الخيـلاء . قال من كان من المسلمين ، يا رسول الله ، انظر إلى أبي دجانة ـ وهي كنية الرجل ـ إنه يمشي مشية يبغضها الله ورسوله كما قلت عن مشية الخيلاء . قال (ص) : ” إلاَّ في هذا الموقف ” . أي موقف تحدي أعداء الله وإظهار البأس والقوة وشجاعة الأبطال .

          وأبلى أبو دجانة ، كما هو مشهور ، بلاءً حسناً في أُحد .

          لو لم يكن أبو دجانة ، سعيداً بمواجهة الموت وقتال أعداء الله ، ما كان صدر منه ما صدر ، من صورة المقاتل السعيد بلقاء ربه ، وقد ملأ حب الله والنخوة برديه .

          وفي سيرة ابن هشام ، أن رسول الله (ص) ارسل سرية لقتال الروم في مؤتة ، وهي ناحية من نواحي الاردن . وأَمَّر على السرية مولاه زيداً ، وأوصى أنه إن استشهد فالأمير جعفر بن أبي طالب ، فإن استشهد فالأمير عبد الله بن رواحة ، شديد الحب كان لرسول الله (ص) بطلاً وشاعراً .

          وصل المسلمون إلى مؤتة ، ووصلت نجدات إلى عسكر الروم تفوق المائة ألف جندي ، ووجد المسلمون أنفسهم ضمن خضم من الأعداء يفوقونهم أضعافاً مضاعفة عدة وعددا . وإذ فوجىء المسلمون بذلك ، تشاور القادة ، بين أن يتراجعوا منسحبين ، وبين أن يبادروا القتال غير المتكافىء . فقرروا القتال على قاعدة إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة .

          فاستشهد زيد ، وأخذ الراية جعفر ، فاستشهد وأخذ الراية عبد الله ، فاستشهد ، فانسحب ببقية العسكر خالد بن الوليد …

          ما دعانا إلى تذكار هذه الوقعة ، أثران تركهما لنا جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة ، كل موقف منهما ، أو كل أثر ، يشكل في الحقيقة قيمة عالية في علم النفس ، ومعرفة حقائق ما تنطوي عليه الصدور المؤمنة  من فروق ٍ بين درجات اليقين .

          فأما الأثر الأول الذي تركه جعفر ، فبيتان من الشعر ، ارتجز بهما قبل الإندفاع إلى المعركة التي فيها الشهادة شبه المحتمة . قال :

   ما أجمـل الجنـة واقترابها               طيبـة وسائـغ شرابها

   والروم روم قطِّعت أصلابها            عليَّ إن لاقيتها ضرابها

          واضحٌ لناقد الشعر المختص ، أنه ليس في البيتين شاعرية شاعر ، فجعفر بن أبي طالب لم يكن شاعراً كعبد الله بن رواحة . وإنما كان عليه أن يقول شيئاً بحكم عادة الأبطال المميزين ، قبل المبارزة أو الإنخراط في المعركة . وإنما في البيتين أولاً ، المضمون ، وهو يعبِّر عن الشوق إلى الجنة ونعيمها من جهة ، ومن جهة ثانية  وهو الأهم في مثل هذا الموقف ، هو استبشاره باقترابها ، يعني باقتراب استشهاده ، وعميق اعتقاده أنه بالشهادة يدخل الجنة . وفي وصفها المختصر ـ لضيق الوقت ودقة الموقف ـ ( طيبة وسائغ شرابها ) دلالة على حنين مستبطن إليها . ثم  يعلن عداءَه لهؤلاء الروم ، الذين هم أعلنوا عداءَهم لرسول الله (ص) وللدين المجيد . ثانياً ، في الشكل ، فجعفـر رضوان الله عليه ، اختار ـ وطبعا بغير قصد ـ بحراً من بحور الشعر ، يجري في أذن السامع كجدول ماءٍ عذب ، وهو الأكثر انسياباً في وقعه وتفعيلاته ، وحتى في القافية المرتاحة . فالمضمون كما قلنا ، يدل على شوق إلى الجنة وحنين ، والشكل ينم عن حالة نفسية هادئة هانئة فيما تصبو إليه من لقـاء الله عز وجل ، غير مترددة ، ولا أثر فيها للخوف أو الجزع ، واضحة عندها الطريق والنهاية الجميلة المشرفة ، إلاَّ غضباً في البيت الثاني ، في ثناياه ، من الطبيعي جداً أنه غضب لله على أعداء الله . وفوق ذلك كله ، قيل في استشهاد جعفر ، كما نقل لنا التاريخ  المحقق ، أقوال ، لا ينتهي عندها الإعجاب بتلك البطولة الفذَّة ، ورباطة الجأش والبسالة في أعلى مستوياتها . فقد قيل إنه ضرب على يمينه ، فأخذ الراية بيساره ، حتى لا ينهزم من خلفه ممن يقود من المسلمين ، ثم قطعت يساره بضربة ، فاعتنق الراية بكلتا اليدين المقطوعتين ، حتى طعن ، فتلقف الراية عبد الله بن رواحة . عندما حدِّث رسول الله (ص) بحديث جعفر قال : : أبدل الله جعفراً بجناحين يطير بهما في الجنة ، أو كما قال (ص) . فعرف جعفر بن أبي الطالب في التاريخ فيما بعد بجعفر ذي الجناحين ، أو بجعفر الطيار .

          أما عبد الله بن رواحة ، ذلك البطل الشاعر ، والصحابي المرموق ، المميز بصدقه وصراحته ، وصفاءِ شعره وصدق مواقفه ، فقد أخذ الراية ثم تراجع قليلا إلى فسحة في الميدان ، ليرتجز ، وليحفظ المقاتلون من حوله أرجوزته وينقلوها إلينا صافية بكامل صدقها وعميق دلالاتها . قال :

          أقسمـتُ يا نفسُ لَتنزلِنَّـهْ                      لَتنزِلِــنَّ  أو لَتُرْغَمِنَّـهْ

          ما لي أراكِ تكرهينَ الجنَّةْ                  قد طالما قد  كنتِ مُطمئِنَّهْ

  ما أنتِ إلاَّ نُطْفـَةٌ في شِنَّـهْ

فأولاً ، في المضمون : عبد الله يخاطب نفسه ، يقسم عليها أن تنزل في المعركة الطاحنة ، التي قضت أمام عينيه على كبيرين في القادة ، شهيرين في البطولة ، ويبدو أن نفسه لا تطاوعه ، فهي ترى الهول والدماء ، وكثرة عدد الأعداء ، والنجدات التي ترفدهم . ثم باختصار شديد ، هو الموت الأحمر ، فنفسه تمانع ، ولكن هو حرَّض قومه في البداية على الثبات وعدم الإنسحاب كما ذكرت السيرة ، فما به الآن يتردد ؟ لا ! ( لتنزلِنَّ أو لترغمنَّه ) هو مع نفسه في صراع أي صراع ، وجدال صعب أي جدال ، يعاتبها عتاباً مريراً : ( ما لي أراك تكرهين الجنة ) هو على يقين كذلك بالجنة والنعيم في جوار رب العالمين ، ولكن نفسه ما زالت نزاعة إلى الدنيا ، يتابع عتابها ، هنا الوعي يعمل بسرعة مذهلة ، ثبت ذلك في الأخبار ، وثبت في التجربة ، وثبت علمياً ، أنه في ساعات الهول والرعب والفزع ، يستحضر الإنسان في لحظة أو لحظات ، تقارير مطوَّلة مفصلة عن نفسه وعن تاريخـه ، وإذا تكلم ، فبكلمات قليلة جداً ، يستحضر معاني ومواقف طويلة جداً . هكذا ، أرجوزة عبد الله بن رواحة ، تستعرض الواقع والمستقبل ، ولا يفوتها الماضي ، يقول لنفسه  مستمراً بالعتاب المرير : ( قد طالما قد كنتِ مطمئنة ) أي أخذت قسطك كفاية من الدنيا والراحة فيها والإطمئنان ، وهذا وقت الجد ، أعلى درجات الجد ، بذل النفس في سبيل الله ، وكما قيل : الجود بالنفس أقصى غاية الجودِ . هذا المعنى هو في أعماق عبد الله بن رواحة . ثم شتم نفسه أهانها ، انتصر عليها : ( ما أنت إلاّ نطفة في شِنَّه ) أي في شن وإلهاء هنا في القافية هي هاء السكت . والشن هو السقاء البالي . حسم أمره وحزم قوَّته ، ثم اندفع في أتون المعركة ، وظل يقاتل حتى أبلى البلاء الحسن ، ثم استشهد تحت ضربات السيوف وطعن الرماح . راضياً كذلك ، فرحاً بما صار إليه من صدق العزيمة وشرف القرار .

          موقف عبد الله بن رواحة ، هو لون آخر من ألوان البطولة الفذة الفخمة ، فبعد أن ترك للعالم ، خارطة واضحة المعالم لحالته النفسية ، وصراعه معها ، توَّج ذلك كله بالوصول إلى الهدف النبيل ، إلى أقصى الغاية ، وهل هناك هدف أو غاية أعلى من مقعد صدق ٍ عند مليك مقتدر ، عند الله تبارك وتعالى ، ومخلداً في النعيم المقيم مع الأنبياء والصديقين والشهداء . المهم في النتيجة ، هو الإنتصار على النفس ، فالإنتصار عليها هو الخطوة الأولى الصادقة ، لمتابعة الإنتصارات في الحياة العامة ، ولا سيما في المواقف الصعبة وأقصاها بذل هذه النفس رخيصة بين يدي عزة الله ، وهو بعد ذلك البديل الأعظم والأكرم والأرحم ، وبلا قياس ، فله سبحانه المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم .

          كلا البطلين كان سعيداً في مواجهة الموت ، ما دام في سبيل الله ، مع فارق ٍ تبين بالمقارنة بين شعريهما . الحسين بن علي عليهما ، كان أكثر إدراكاً للسعادة في سره ، فنفس أبيه علي عليه السلام بين جنبيه ، وهو الذي ساعة ضُرب الضربة القاتلة بسيف ابن ملجم قال : فزتُ ورب الكعبة .