بين العقل والنفس والدماغ

        إن لفظة ( العقل )  هي لفظة عربية مشتقة  من المجرد الثلاثي ( عقل  ) على دعوى أن الفعل المجرد هو أصل الإشتقاق ، أو هي مصدر مشتقاتها حسب من يقول أن المصدر هو الأصل في الإشتقاق ، ولذلك  سمي مصدراً  . ومن معانيها في اللغة :  فهم  وفقه ، وربط وقيّد  ، وهي معان متقاربة .

        أما في القرآن الكريم  الذي هو المعيار الأعلى في دراسة المعاني  وقوالبها ، فإن هذه اللفظة ( العقل ) لم ترد فيه إطلاقاً بصيغة المصدر أو الإسم ،  وإنما وردت فقط بصيغة الأفعال  المضارعة ( تعقلون )  24 مرة  و  ( يعقلون ) 22 مرة  ، و ( نعقل ) مرة واحدة في قوله تعالى  :

       { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }(سورة الملك ،  الآية  10).

        ومرة واحدة ( يعقلها ) في قوله تعالى :

       { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }(سورة العنكبوت  ،  الآية    43).

ومرة واحدة بصيغة الفعل الماضي ( عقلوه )  في قوله تعالى :

       { .. يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ .. }(سورة البقرة  ، الآية   75).

       ومن مرادفاتها  ،  فَكَّر ، وَفَهِمَ  ، وَدَرى  ، وجميعها كذلك لم ترد إلا بصيغة  الفعل  .

        فمن هذه الصيغ الفعلية : عقل وفهم وفكر ودرى ، التي جاءت في القرآن الكريم  مختصة بالإنسان ، فهمنا أن الله تبارك  وتعالى هكذا  شاءه  يعقل ويفكر ويفهم ويدري ، وذلك بعد أن نفخ فيه  من روحه سبحانه ، مستنتجين بالضرورة ، وربطاً بالنصوص ، أن الإنسان قبل أن ينفخ الله فيه من روحه ، لم يكن يعقل ولا يفهم  ولا يفكر  ولا يعلم ولا يدري  .

        فإذن  إن ما نسميه نحن ( العقل ) إنما هو بالضرورة  الروح التي ذكرها سبحانه وتعالى في قوله :

       { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ  ، الذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ،  ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ }(سورة السجدة  ، الآيات   6  ـ  9) .

        وقوله تبارك وتعالى :

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } (سورة  الحِجْر   ،  الآيتان  28 ـ  29) .

وخلاصة القول حول العقل والنفس والدماغ ،  إن الدماغ ليس هو العقل ، وإنما هو من المراكز الأساسية للعقل ،  وهو مع القلب  من  ( الألباب )

المشار إليها في 16 ـ  ست عشرة آية من القرآن الكريم  ، اخترنا ثلاثـة للإيجاز  : قوله تعالى :

* { ..وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }(سورة إبراهيم ، الآية 52 ) .

* {.. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ  }(سورة الزمر ، الآية 18).

* { هُدَىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ }(سورة غافر ، الآية 54) .

       وبين الدماغ والقلب مشاركة فعليـة  في مجالات العقـل  والفكـر والعواطف ، تترتب عليها المشاركة  الفيزيولوجية المعروفة في علم التشريح . على أن  معظم النشاطات سَنَنْسِبُها بعد قليل إلى الدماغ لأن الله عز وجل  أراده هكذا : رأساً  وقائـداً للإنسان ، ومعه القلب في جميع  مياديـن النشـاط البشري  .

        أما دليلنا القرآني على أن القلب هو من مراكـز  العقـل أو الأعضاء  المتفاعلة مع العقل ،  وأن  المعني به هذا الذي بين الضلوع  ، فقوله تعالى :

       { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُـونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }(سورة الحج ، الآية 46).

        وقوله تعالى :

       { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ..}(سورة الأعراف ، الآية 179) .

       وآمل  من القارىء أن يعتبر أن ما سينسب إلى الدماغ من علاقـة  بالعقل  كذلك نسبتها إلى القلب ، وأهمها تقريرنا أن الدماغ  يعقل فينجو بصاحبه ، أو لا يعقل فيهوي بصاحبه ، وكذلك القلب وبقية الجوارح .

العلاقات الوظيفية بين العقل والنفس والدماغ :

        ولكن الدماغ  هو ( اللب ) الأوسع نشاطاً ، أو هو المفاعل الأعلى خطراً في عالم الجواهر المادية . فهو مركز التبليغ والترجمة والتفسير ، إضافة إلى الإحساس والذاكرة ، والعواطف والقدرة على الحركة  ، فإن ضاق عن العقل تحول إلى الآلية والغريزية  بنسبة ما يضيق ، وبقيت له هذه الأمور كما هي  للدماغ الإلكتروني أو المخلوقات الغريزية  الراقية .

        أما العقل ، فهو الروح المؤيد بعلم الفطرة ،  السابقة على البدن ،  ومن ميزاته إدراك الحقائق المجردة ، البسيطة والمركبة  ،  غير مستقل  عن ربه تبارك وتعالى ، خالد ، يغضب ويتأذى ، ولكنه لا يتعب ولا يتعذب ،  تأخذ منه  خلايا الدماغ  توجـيهاً وتعـليماً وهداية حسـب استعـدادها  ، يرجـع إلى ربه ، والنفس هي التي تسعد أو تشقى  ، ووظيفته دعـوة النفـس  إلى خالقهـا الله الذي  لا إلـه  إلاّ هو ، ومقاضاتهـا بتعاليمه سبحانه مبيناً لها الحق من الباطل ، والمطلوب من السـلوك في معراج العبـادة ، موصلاً  إياهـا إلى أعلى درجات اليقين والعلم ـ  في حدود العقل الإنساني ـ والسعادة الحقيقية في الدارين ـ قول أحد العارفين  : لو عرف الملوك سعادتنا لقاتلونا عليها بالسيـوف ـ كل ذلك برموز تفهمها جميع لغات  البشر ولهجاتهم ، هذه الرموز يقوم  الدماغ بترجمتها بناء على ما عُلِّم ولُقِّن ، ليقدمها للنفس باللغة التي  ترتاح إليها ، وذلك أثناء إلتـزام  النفس بكلية البدن  والجهاز العصبي . أما إذا تحررت النفس ، فلا تعود بحاجة إلى الدمـاغ ، ولكنـها تحتفظ بأدائـه ، وتفهم لغـة  الرموز  الكونية بدون ترجمة ، فضلاً عـن إمكانيـة  تعبيرها بأيـة لغـة شاءت لم تكن تعلمتها في حال الإرتهان .

        وإن العلاقة بين العقل والدماغ ،  هي علاقـة الطاقـة الغيبية الموجّهـة لبرمجة مفاعلها الأرقى  في جواهـر المادة . والنفـس هي التي تسبب انفتـاح الدماغ على العقل أو انغلاقه دونـه ، أو جعلـه في حـالات بين الحـالتين . يعني يكون هذا الـواقع المتكيـف ، رهن بمـدى إقبال الإنسان على ربه ،  أو  تباعده عنه جلّت عظمته .

        وفي حال تلبس النفس بكفر أو شرك أو استكبار ، أو  الوقوع في هوى  أو إثم ، ينشغل الدماغ والنفس بالحدث منصرفين عن العقـل ، فتفقد النفـس بذلك الهـداية والسـداد والرشـاد  ، وتحاول الإستئثار ضالـة ظالمـة بموقع القيادة ، مأذوناً لها بذلك تبعاً لاختيارها وتنكرها لولاية الله ورعايته ، فيتخلى  عنها الله  امتهاناً وإمهـالاً وتحجيمـاً ، وليس إهمـالاً أو تفويضاً ، وفيها قـال سبحانه :

       { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا  ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ،قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا  }(سورة الشمس  ، الآيات  7 ـ 10).

        ومن حيث رعايته سبحانه ، للأنفس البارة  النقية المجاهـدة ، وخذلانه للأنفس الجاحدة المعاندة البهيميـة في الحيـاة الدنيـا وعند المـوت ، وحين الانتقال من محطـة الأنفس  ، هذه الأرض  الدنيـا إلى الأرض العليـا على اختلاف درجاتها ، قوله تبارك وتعالى  في الأبرار :

       { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ..}(سورة النحل  ، الآية  32) .

       { يَا أَيَّتُهَا النَّفـْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعـِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيـَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ،وَادْخُلِي جَنَّتِي }(سورة الفجر  ،  الآيات  27 ـ 28 ـ 29 ـ 30) .

        وقوله سبحانه في أهل الضلالة :

       {.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }(سورة الأنعام  ،  الآية  93) .

        هنا يخطر سؤال مهم ، هـو كيف يكـون مستوى الإنسـان الفكري والإنساني عامة ،  إذا هو لم يقلع عن غيِّـه ولم يعقل ؟ والجواب ، ولو أنه قد مر موزعاً خلال البحث ، إلاّ  أنه ينبغي إيجازه بالقـول  : يكون  شأنـه كشـأن حيوان راق متحضر  ، متعلم ، أمثال الأنواع العليا  من القـردة ، إنما يميزه شكله الإنساني وذلاقة لسانه وقلمه ، وكثرة الأرقام  التي يتعامل معها ، والمهارات التي يباشرها  في شتى حقوله ، وكذلك  حجم دماغه المتناسب مع بدنه ، وقد تتراوح هذه الحالة  بين التضيّق في التعامل مع العقل  ، مع رحمة الله وسمائه وأسمائه ، وبين تجافي الإنسان وتباعده عنها ، ثم انقطاعه بشكل نهائي ، حيث لا يفلح بعد ذلك كيد في إذهاب غيظ  . قوله تعالى :

       { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }(سورة الحج ، الآية 15) .