بين الغضب المقدََّس وغير المقدَّس

بين الغضب المقدََّس وغير المقدَّس :

          ونعود إلى قوله تبارك وتعالى : { فاخلع نعليك }  وقد قلنا أن المقصود بهما الحزن والغضب والله العالم . وكما تحدثنا عن الحزن انطلاقاً من القرآن الكريم مدعمين الآيات بأمثلة من تاريخ أنصار الله الأبطال ، الأصفياء والأولياء . كذلك وبنفس هذه المنهجية نتحدث عن الغضب ، لأنها الأعلى في الموازين والمعايير .

          قبل أن أشير إلى الآيات التي تنهي عن الغضب أو الغيظ أو التجبر ، وهي معان ٍ متقاربة ، ينبغي أن أفصل بين الغضب المقدس الذي هو أمر تعبدي ، وهو غضب أنصار الله ومحبيه ، وبين الغضب غير المقدس وهو الذي يضر بصاحبه وقد يعاقب عليه .

          أما الغضب المقدس ، فهو الغضب لله عز وجل ، ولدينه ولكتابه ولجميع شعائره . والله سبحانه يمنح به قوة غير عادية ، رهنا ً بالمواقف وأنواعها .

          ومن أمثلته التاريخية ، غضب علي عليه السلام ، واقتحامه الباب الموصد لحصن خيبر ، واقتلاعه من مكانه ، ليتدفق منه جيش المسلمين ، بعد أن كان أعياهم لضخامته وصلابته .

          ثم الكلام عنه عليه السلام ، وفي أكثر من موقف ، ولا سيما في ميادين القتال ، إذ كان يغضب لله ، فيكبر ويضرب ، فلا تخيب ضربته . أما إذا غضب لنفسه لسبب أو لآخر ، فإنه كان يحجم عن القتل ، فيسأل عن ذلك فيقول : إنما أقاتل غضبا ً لله وليس غضبا ً لنفسي .

          وإذا كان الغضب المقدس ، أي الغضب لله ، مؤيدا ً منه سبحانه فلا بدَّ أن يكون مباركا ً ونافعا ً لصاحبه ، في نفسه وبدنه ونتائجه . وليس كذلك الغضب الشخصي ، أي غضب الإنسان لنفسه ، فقد ورد أن الإنسان إذا غضب لغير الله ، يبدأ غضبه بشرارة  يأخذ الشيطان  بالنفخ عليها حتى تتأجج ، ما لم يكبح الإنسان غضبه ويعقلن موقفه .

          ولمعالجة الغضب الشخصي طرق . بعضها مستفاد من دين الله سبحانه ، وهذا يؤجر عليه صاحبه في الدنيا والآخرة ، وبعضها مستفاد من رياضات هندية مثل اليوغا ، أو غير هندية ، كبعض التقاليد الشعبية .

          أما ما هو ديني ، فهو ناجح حتما ً ، وذلك معروف بالتطبيق والتجربة ، وأبرزه استحضار بعض آيات القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ } فبمجرد أن يستحضرها ويقولها الإنسان المغضب ، يروَّح عنه ، وتهدأ نفسه ، ومنها قول لا قوة إلاَّ بالله وتكرار ذلك ، أو لا حول ولا قوة إلاَّ بالله ، ومنها الإستغفار ، ومنها أن يقف الإنسان ، إذا كان سائرا ً ، أو يقعد إذا كان واقفا ً ، أو يستلقي إذا كان قاعدا ً ، ومنها أن يمسَّ رحما ً من أرحامه ، إلى غير ذلك من أسباب اللجوء إلى الله تبارك وتعالى .

          ولعله غني عن القول ، الحديث عن مدى أضرار الغضب ، سواء في التفاعلات النفسية أو البدنية ، أو في النتائج . فقد تقع الجرائم الخطيرة ، والكبيرة والصغيرة ، من جراء الغضب الذي لا يكبح أو لا يعالج في حينه . وسجلات المحاكم حافلة بالجرائم التي سببها الغضب . هذا ، فضلا ً عما يتركه من آثار على القلب وعامة الجهاز العصبي ، من ندوب وتمزقات ، وفي بعض حالات تفاقمه قد يؤدي إلى الذبحة أو الموت كمدا .

          والإنسان الغضوب ، غالباً ما يكون متوتراً ، أميل إلى العبوس والكآبة . مما ينغص علاقاته بجميع من يحتك بهم ، من أسرته إلى المجتمع ، وبالتالي ينغص عليه أمر دنياه وأمر آخرته ، وذلك بما يركم على نفسه من آثار سلبية وآثام صغيرة وكبيرة .

          وهذه آيات كريمات ، لها صلة وثيقة بهذا الموضوع ؛ قال تبارك وتعالى :

         

          { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ . سورة الشورى الآيتان ( 36 ـ 37 ) } .

وقوله تبارك وتعالى :

          { وَسَـارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.  سورة آل عمران الآيات ( 133 ـ 136 ) } .

          شرط سبحانه في هذه الآيات لكي تتم مغفرته للمتقين ، شروطا ً ، أولها الإنفاق في سبيل الله على أي حال ، في العسر ما أمكن ، وفي اليسر مع التمكن ، وفي حالي الرضا وخلافه ، وثانيها كظم الغيظ ، وبمعناه لجم الغضب في ترجمة غضبه عمليا ً ، والعفو عمن ؟! عن النـاس ، وهي كلمة فيها إطلاق ، يعني عن جميع الناس على اختلاف أحوالهم ، طبعاً يستثنى الغضب المقدَّس كما أسلفنا . وما دام أمر الله تبارك وتعالى هو بالعفو عن الناس ، فأصبح من الأولى العفو عن الأقربين أرحاماً وإخواناً في الله . أما قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني كلما كانت درجة الإنفاق في سراء أو ضراء هي أحسن ، وكلما كانت درجة كظم الغيظ هي أفضل ، وكلما كان العفو عن الناس ولا سيما الأقربين هو بدرجة أعلى ، كان الثواب من الله تبارك وتعالى أجزل وأفضل .

          أما بقية الآيات ، فواضح فيها فضل الله تبارك وتعالى في توسعة باب التوبة يذكرون الله ويستغفرونه نادمين أشدَّ الندامة على معاصيهم وذنوبهم ، وفي الندامة بكاء ، وفيها تمريغ الوجه على الأرض ذلاً بين يدي الله جلَّت عظمته ، هؤلاء ، وإن لم يغفر لهم الناس إذا اطلعوا على سوء أعمالهم ، والناس غالباً أميل إلى التحكم والتجبر والقسوة ، وبالتالي لعدم الغفران . وشتان بين رحمة الله ورحمة الناس ، ولا قياس .

          كان رسول الله (ص) يوماً يسير في صحابة له ، فشاهد امرأة تحمل طفلاً لها رضيعاً ، فاستوقف القوم وقال : أرأيتم إلى هذه المرأة وطفلها . قالوا نعم يا رسول الله . قال : هل هي ملقية ولدها في النار ؟ قالوا : طبعاً لا  يا رسول الله . قال : فوالذي نفسي بيده ، لله أرحم بعبده المؤمن من هذه المرأة بطفلها .

          وكل متكبِّر ٍ متجبِّر ٍ غضوبٌ . وقد ذم سبحانه المتكبرين المتجبرين الذين يجادلون في آيات الله ولا يعملون بها ، وأوعدهم جهنم . قال تبارك وتعالى :

          { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ . سورة غافر الآية 35 } .

          ولقد نهى رسوله (ص) عن التجبر وعما فيـه مـن الكبر والغضب . وبنهيه رسوله نهى عن هذه الصفات الذميمة في البشر ، كلَّ مسلم ومسلمة . قال تبارك وتعالى مخاطباً محمّداً (ص) :

          { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ .. . سورة ق الآية 45 } .

          لله وحده الكبرياء في السماوات والأرض  ، وله الجبروت وحده ، ولو أنه سبحانه حمد من تخلق بأخلاق الله ، وأمر الناس بالرحمة والعدل والإحسان والغفران والرفق والعفو عند المقدرة . قال سبحانه :

          { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ . سورة الحشر الآية 23 } .

          والناس بفطرتهم ينكرون على أي إنسان أن يكون جباراً غضوباً لا يرحم . لذلك قال الرجل الوثني لموسى عليه السلام لما غضب لنفسه وللذي من شيعته وأراد أن يبطش به :

          { .. إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأََرْضِ .. . سورة القصص الآية 19 } فكفَّ موسى عليه السلام عن غضبه ، واعتذر واستغفر ، فكان نموذجاً صالحاً وقدوة حسنة لكل من تنفعه الذكرى ولمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . قوله تعالى :

          { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ . وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ . فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ . وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ . وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ . يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ .  إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ . يَوْمَ تَشَقَّقُ الأََرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ . سورة ق الآيات ( 37 ـ 45 ) }.

          يبقى أن نذكر أنه من غضب  لقيمة أو لمنقبة أو لشيمـة من الشيم من مثل كرامة الإنسان أو عرضه أو ملكه ، فقد غضب لله ، لأن هذه الأمور وشبيهاتها ، هي مما حفظه الله لعباده وأمر بالحفاظ عليه كحقوق شرعية مقدَّسة .

          والحقيقة أن الله تعالى أمر بالحلم لأنه نقيض الغضب ، وحبَّب الحلم وكـرَّه الغضب . قال سبحانه يثني على نبيّه ورسوله إبراهيم عليه السلام :

          { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . سورة هود الآية 75 } .

 

          وقال سبحانه واصفاً الغلام الذي وعدهُ به بعد عمره الطويل وصبره الجميل ، بأنه غلام حليم ، مما يشعر بأن هذه الصفة هي من أعلى المناقب التي يتفرع منها الكثير من الصفات العالية والمكرمات ، على أن كلمة ” حليم ” هي من جهة ضد الغضب وهي في نفس الوقت ـ ما دامت كذلك ـ فهي تعني العقل والذكاء . قال تعالى :

          { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ . سورة الصافات الآية 101 } .

          ورغم أن الحلم منقبة عالية كما أسلفنا ، إلا أنه في مواجهة ما يمسُّ حقوق الله الذاتية أو حقوق عباده الشخصية ، فجدير بالحلم أن ينقلب إلى غضب مقدس . وفي رأس حقوق العباد متداخلة في حق الله جلَّت عظمته ، حق الأمة ، حقها في الحفاظ عليها ، في إعلاء شأنها ، وفي حفظ دستورها القرآن والعمل به ، وفي نصرتها وقتال أعدائها بالغالي والنفيس .

          كانت بين عليّ عليه السلام وبين معاوية ، خلافات تاريخية ليس أكبر منها حجماً بمقياس ما بين الحق والباطل ، فنكـل معاوية وغـدر وخـان ، وأعدَّ لحرب علي (ع) فوجد عليٌّ (ع) نفسه مكرهاً مضطراً يُعدُّ بالمقابل لحربه . وفي هذه الأثنـاء ، وردت أخبار ، أن ملك الروم ، يُعدُّ كذلك لغزو المسلمين في بلادهم فقال  علي (ع) وهو في العراق ، وملك الروم يريد بلاد الشام حيث معاوية . قال عليه السلام ، والله لوصدق الخبر ، وصدق ابن الأصفر ، لوضعت يدي في يد معاوية ، لنقاتله جميعاً ، وإلاَّ توجهت بجيشي وحدي لقتاله . هذه غضبة لله مقدسة ، على مستوى الأمة .

عندما نزلت آيات أول سورة النور ، وفيها :

          { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِين . وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . سورة النور الآيات ( 6 ـ 7 ) } .

          وتلا رسول الله (ص) الآيات ، وفي مجلسه صحابة وفيهم الأحنف بن قيس ، وكان مشهوراً بالعقل والحلم ، وكان يقصده شيـوخ القبائل في الجاهلية ، يتعلمون الحلم منه ، حتى بعث محمَّد (ص) فكان سيد الحلماء . ومع ذلك ظل العرب يضربون المثل بحلم الأحنف . قال أبو تمام يمدح المعتصم :

لك حكم لقمان وصورة يوسف   في حلم أحنف في ذكاء إياسِ .

          فهذا الأحنف الأستاذ في حلمه . لما سمع الآيات ، التي فيها لزوم الإشهاد على الزوجة إذا كانت تزني ، ولا شهود غير الزوج : قال وقد غضب  : والله يا رسول الله لو رأيتهما بعينيَّ هاتين ، لقطَّعتهما بسيفي هذا إربا . فضجَّ المسلمون في المجلس : أتعترض على رسول الله وآيات الله . فأسكتهم محمّد (ص) وقال : أرأيتم إلى الأحنف ، فوالذي نفسي بيده ، إني لأشد غيرة من الأحنف ، والله عز وجل أشد غيرة مني ومن الأحنف على نساء المسلمين . وإنما في فهمكم للآيتين لبس . أو كما قال . وشرح لهم الأمر ، وموجزة أنه قد يلجأ أزواج من الرجال مرضى في شرفهم وقلوبهم وأخلاقهم ويتهمون أزواجاً لهم افتراءً عليهن وظلما . فيكون المخرج الشرعي الرائع في هكذا حال : الملاعنة كما حكم الله وأنزل وهو خير الحاكمين . أما ما قصده الأحنف فهو أن يراهما حقيقة بعينه فهذا شأن آخر، ويؤخذ فيه في الشريعة ـ بعد التحقق من صدقه ـ بأحكام أخر، ينصف فيها الزوج الغيور على عرضه .

          وقبل الخلوص إلى الغاية من قولـه تبـارك وتعالـى :

 

{ إخلع نعليك }  نذكِّر بأن انتفاء الحزن كلياً من الإنسان في جميع أطواره أمر يكاد يكون مستحيلا . ولو كان الخلاص منه دفعة واحدة ممكناً ، لتخلص من ذلك سيد البشر وأمير الأنبياء محمّد (ص) . ولأنه (ص) لم يستطع ، أوليس بالإمكان التخلص منه دفعياً ، رأينا أن الله تبارك وتعالى يكرر عليه الوصايا بالنهي عنه : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } { وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ .. } { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ ..} إلى غيرها من الآيات الكريمات .

          وكذلك الخلاص من الغضب ، ليس من السهل أن يكون أمراً دفعياً . وإنما الله سبحانه أراد أن يكـون الخلاص منهمـا ـ أي الحزن والغضب ـ كما يبدو ، بالتدريج ، وبالرياضة الروحية ، وجعل ذلك أمراً تعبدياً ، يرجى من ذلك رضاه ووجهه الكريم .

          وأما الغاية القصوى من أمر الله تبارك وتعالى في قوله :

 

{ إخلع نعليك }  فنجدها في أول الآية وفي مجمـل الحكايـة ، ابتداءً من قوله تعالى : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } إلى قولـه : { .. فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } .

          أما بداية الآية ، فقوله عزَّ وجل مخاطباً موسى ـ الذي سيكون رمزاً فيما بعد ـ: { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } ومهما قلنا في وقع هذا الخطاب وتأثيره على المخاطب ، ومدى فعلـه فيه ، في نفسه وروحه وعامة كيانه ، فكل لغات الأرض لا تستطيع أن تعبرِّ تعبيراً ولو شبه كامل عن عظمة الموقف وأبعاده في نفس موسى ( الرمز ) وفي روحه وكيانه .

          وفي معاني { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } ما يمكن أن يقال . ففي قوله عز وعلا { أنِّي أنَا } أن فيها حصر ، في فقه اللغة ، لا تحتمل اللغة حصراً أقوى منه ، وبماذا ؟ بالربوبيـة . أي { أنَا رَبُّكَ } ولا ربَّ لك غيري في هذا الوجود ، وفوق هذا الوجود ، وحول هذا الوجود . وفيها الإشعار بالعظمة التي ليس فوقها ولا بعدها عظمة { إنِّي أنَا رَبُّكَ } رب الأكوان ورب الخلائق الذي لا إلـه إلاَّ هو . ففي سياق الآية ، في خطابه لموسى (ع) { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى . إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي . سورة طه الآيات ( 13 ـ 14 ) } . وفيها الإيناس والعطف والرحمة ، وكم كان بحـاجة إلى كل ذلك موسى ، والدليل على ذلك مؤانسته سبحانه له بسؤاله ، { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } وفيها ما لا ينتهي معه التأمل والتفكير ، بالعظمة والرحمة ، والجبروت والرأفة وبأسمائه الحسنى التي لا تحدُّ ولا تعدّ .

          أما قوله تعالى : { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ }  بعد الذي ذكرناه عن معناهما ، فقد اصبحت واضحة الغاية القصوى من خلعهما ، وهي التهيئة لنيل مقام القرب من الله تبارك وتعالى وعزَّ وعلا . فبخلعهما يغدو كل شيء في الإنسان صافياً طاهراً صالحاً للتلقي ، لتلقي الوحي ، لتلقي الهداية ، لتلقي النور المقدس ، ثم النور الأقدس . ثم … ثم مقعد صدق في جوار الحبيب الأعظم في جوار الله جل جلاله ، وهنالك الأنبياء والشهداء والصديقون ، وهنالك عليّون وسدرة المنتهى .

 

لا يحمل خطابي غيري ولا يجيبني سواي :

          ولعلَّ أجمل ما نقل عن موسى (ع) وخطاب الله له ، رواية عن الإمام الصادق عليه السلام ما يلي :

          ” قيل لموسى عليه السلام : كيف عرفت أن النداء هو نداء الحق ؟ فقال : لأنه أفناني وشملني ، وكأنَّ كل شعرة مني كانت مخاطباً من جميع الجهات ، وكأنها تعبِّر عن نفسها بجواب . فلما شملتني أنوار الهيبة ، وأحاطت بي أنوار العزة والجبروت ، علمت أني مخاطب من جهة الحق ، ولما كان أول الخطاب { إنِّي } ثم بعده { أنَا } ، علمت أنه ليس لأحد أن يخبر عن نفسه باللفظتين جميعاً متتابعاً إلاَّ الحق . فأُدهشت وكان هو محل الفناء ، فقلت : أنت أنت الذي لم تزل ولا تزال ، ليس لموسى معك مقام ، ولا له جرأة الكلام ، إلاَّ أن تبقيه ببقائك ، وتنعته بنعتك ، فتكون أنت المخاطِب ، والمخاطَب جميعاً . فقال لا يحمل خطابي غيري ، ولا يجيبني سواي ، وأنا المتكلِّم وأنا المكلَّم ، وأنت في الوسط شبح يقع بك محل الخطاب . “