العقل ام النفس الأمارة العقل يدرك الكمال ويتكامل بخالقة ؟
في الواقع الموضوعي ، إن تاريخ البشرية المعـروف ، بما فيه من إيمان وإلحاد ، وفكر وفلسفات ونشاطات عقلية ، ما ادّعى فيه إنسان كمال العقل بمعنى أنه ينتج الكمال . أما بمعنى أنه يدرك الكمال ويتلقاه ، فمتفق عليه عند معظم الفلاسفة والمتكلمين والمناطقة ، سوى قلة من السفسطائيين لا يعتد بآرائهم . وصدق الله العظيم ، قوله :
{ …وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }سورة الإسراء ، الآية 85.
وقوله :
{ …وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }سورة طـه ، الآية 114 .
وقوله :
{ …وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء …}سورة البقرة ، الآية 255.
فإذن : هذا العقل يقبل الزيادة ، وإذن فيه قابلية التكامل ، ولكن كيف ؟
والجواب : بالله … بما أوصل إليه من التنـزيل مضمونـاً أن لا يحرف ، وبعلم لدني بغير قلم: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(سورة الحجر ، الآية 9).
وقوله تعالى :
{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا }سورة الكهف ، الآية 65.
وبما يهدي إليه سبحانه من عرفانٍ مكتوب ٍ :
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }سورة القلم ، الآية 1.
وبما يظهره إليه من علم ٍ مكنونٍ :
{ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }(سورة العلق ، الآيات ( 4 ـ 5 )) .
وبما يكشف له ما يشاء من الأسرار :
{ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ …}(سورة الفرقان ، الآية 6) .
ثم إن هذا العقل يرى أن العلم ما استطاع أن يدحض ولو إشارة بسيطة واحدة من إشارات القرآن . وإن كل كشف علمي لا يتم إلاَّ بإذن الله تعالى ، سواء أتى هذا الكشف على يد مؤمن أو يد ملحد :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُـمْ أَنَّهُ الْحَقُّ …}(سورة فصلت ، الآية 53 ).
وإن القرآن أخبر عن حقائق وأسـرار ، كان يجهلها أهل الأرض وقت نزوله ، ثم عرّفهم الله بعضها عملياً بعد أكثر من عشرة قرون من تنـزيله . وإن القرآن ما زال فيه علم ما يجهله الناس في هذا العصر ، رغم تقدم العلوم ، والمستقبل حقيق أن يكشف هذا الأمر ، كما عودنا القرآن المجيد في أيامنا هذه وفي العصور السالفة وحتى قيام الساعة .
والإنسان المفكّر ينبغي أن يسأل : من أين أتى القرآن بهذه الأسرار والمعلومـات ؟
والجواب أنه من الله الذي لا إلـه إلاَّ هو وحده لا شريك له .
هذا السؤال والإجابة عليه إذا عُقْلِنَ النظر فيهما لعرف الناس أن الله عزّت قدرته هو وحده وراء كلِّ علم ٍ حقيقيٍ وكشفٍ علميٍ في مشارق الأرض ومغاربها وفي الكـون كلّه ، منذ خلق السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما . هذا العرفان ، يجب أن يغدو عامـل خجـل وإدانة قبل الدينونة ، لأصحـاب الرأي الشائع بين معظم المثقفين اليوم ، حول ما يسمّـونه سلبية الدين في التعامل مع الكشف العلمي ، وهذا الرأي خلاصته أن التديّن كان بشكل عام ، عائقاً عن الإكتشافات العلمية ، وإنتاج العباقرة ، ولذلك بقيت المجتمعات المتدينة ، تعاني من الفقر والتأخّر والأميّة العلمية . فالحمد لله على نعمـة التديّن ، والحمد لله الذي اختصّنا بمعرفته ولم يشغلنا بعلم سيكون عاراً وشناراً ودماراً على أصحابه في الدنيا والآخرة .
أمحراب العلوم . يتهم ؟!
النفوس الأميّة هي التي تتهم الإسلام ، أما المستنيرون بالله فهم مسلمـون . وتذاكر الهوية ليسـت مقياسـاً ، بل هي بالنسبـة لأكثر الناس كالحامل حتفه بيده .
إن سوء الاطّلاع ، ليس فقط على مضمون الإسلام ، بل حتى على تاريخـه الظاهري، من جهة ، ومن جهة ثانية ، البطشات الرهيبة التي بطشتها الكنيسة بعلماء أفذاذ ، هذان الأمـران متلازمـان ، جعلا النفـوس الأميّة تتهم الدين عامة وضمنه الإسلام ، بالقمعية ضدّ العلم والعلماء .
وفي صدد الردّ ، نسأل القارىء الحصيف ، هل علمت يوماً، منذ القرآن الكـريم ، أن أئمـة الديـن الإسلامـي وعلمـاءهم ( في مقابل البابوات ) أقفلوا ، باسـم القرآن ، أبواب البحـث العلمي ، كما فعلت الكنيسة ، باسم التوراة والأناجيل ؟ أو هل هم ردّوا حقيقة علمية بعد كشفها ،في حين _وباسم التوراة والأناجيل_ سمّت الكنيسة العلماء هراطقـة ، وكانت تحاكمهـم بهذه التهمة ، تهمة الهرطقـة ، في محاكم التفتيش التاريخية المخيفة .
الواقع أن أئمة المسلمين وعلماءهم ، لم يفعلوا شيئاً من ذلك أبداً ، لأن الإسلام في الحقيقة هو محـراب العلوم ، وأساسها المتيـن ، وكيف يتنكر الأساس المتين للعمارة والأيدي التي تشـارك في بنائـها ، مهـما كانت أجناس هذه الأيدي أو خلفياتهـا .
ولا يتسع المجال هنا للحديث عن حضارة أسّسها الإسلام على العلم ، وظلّت منـارة الدنيـا لأكثر من سبعمائـة سنة ، كانت أوروبـا أثنـاءها غارقة في الجهل والأميّة والتخلّف .
صحيح أن العالـم ، فجع بعلمـاء عظام ـ باسم الدّين ـ على يد الكنيسة ، عبر فترة من الزمن ، وأن الكنيسة كانت تنطلـق في ردود فعلهـا من الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد ، يعـني التـوراة والأناجيـل . والحقيقـة أنـها الكنيسة ، ولا التـوراة المجموعة مع الأناجيل ، فيما يسمى ( الكتاب المقدّس ) Bible ، كانا يمثلان دين الله في هذه العصور تمثيلاً كاملاً وخالصاً لوجه الله تعالى . بل كانـت الكنيسـة ، وباعتراف المسيحيين المدوّن في كتب التاريخ ، قد انحرفت انحرافاً خطيراً عن تعاليم المسيح عليه السلام ، فضـلاً عن أنها لم تكن عندها معطيات أن تناقـش أيـة قضيـة علمية في ضـوء النصوص الدينيـة ، الموجـودة لديها في القرون المتأخرة ، لأن تلك النصوص لم تكـن صالحة لتقويـم أي موضوع علمي ، بسبب ما مرّ عليها من تحوّلات : بين فقد أصولها الأساسية من جهـة ، وبين نقـل وترجمـة وتحريف من جهة ثانية . وهذا يستحيـل أن يقال شيء منـه عـن القـرآن الكريم ، بشهـادة جميع الباحثين العالميين ، الذين تصدّوا لدراسة مقارنـة بين الكتب الدينية الثلاث ، ولا سيّما في مجـال الحقائـق العلميـة التي توصّلت إليها الكشوف .
ولعل أبرز من تصدّى لهذا الموضوع في السبعينات والثمانينـات ، هو المفكر الفرنسي الدكتور موريس بوكاي .
ونحن إذ نهنىء هؤلاء الباحثين المنصفين ـ على قلّتهـم ـ بنتائـج صدقهم وتجرّدهم ونبارك لهم الفتوحات العقليـة التي فتحها الله بسبب انتصـارهم للحقّ وتصميمهم على انتهـاج طرق العقل ، بدلاً من التعصّـب الأعمى والانفعال ، ندعو المفكّرين خاصة ً ، والمهتمين بقضايا الفكر عامـةً ، إلى قراءة ذلك الباحث موريس بوكاي، في كتابيه الصادرين تباعاً ، الأول : ( التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ) الصادر سنة 1976م والثاني : ( الإنسان من أين جاء ) . حيث يعرض في هذين الكتابين ، وبالبراهين العلمية والعقليـة الحاسمة أن الكتاب الوحيد المنـزّل من لدن الله تبارك وتعالى ، أو الذي يستحيل إلاَّ أن يكون من عند الله سبحانـه ، والذي لا يزال في الأرض على ثباته كما أنزل هو القرآن الكريم ، وأن الكتاب المقدّس Bible بعهديـه القديم والجديد ، أي التوراة والأناجيل ، حرّف وحوّر وبدّل وأنقص منه وزيد عليه ، وأنه يتضمن مغالطات ضخمة من وجهة نظر العلوم .
ونحن هنا ، وإبراءً للذمّة ، نورد لموريس بوكاي بعض الفقرات ، مـمّا سيكون حجة على المفكرين والباحثين في جملة الحجج وما أكثـرها : لمـاذا توصّل موريس بوكاي وأمثاله إلى الحـق فارتاحوا وأراحوا ، بينما بقـي الآخرون مصرّين على العمى والضـلالة ، فتعبـوا وأتعبـوا معهم الذين لا يعقلون … إلى الأبـد …
يقول موريس بوكاي :
” إننا عندما نقيم الدليـل ، وبالاستناد دائماً إلى النصـوص ، على أن القرآن يحتوي في طروحاتـه ، حول نقاط معينة على أفكار تتطابق والعلـوم الحديثة ، في حين أن الإنجيل يعالج نفس النقاط بطريقةٍ مغلوطةٍ علمياً ” .
” إن الفترة الأعظم من تاريخ الحضارة الإسلامية ، والتي شهدت تقدّمـاً علمياً ضخماً ، هي تالية وبقرون عديدة لعصر تنـزيل القرآن “.
ويقول في مكان آخر من بحثه :
” كل هذه الملاحظات المثيرة لكلّ من يتناولها بتجرّد ، والتي لم تثبت علمياً إلاَّ بعد قرون عديدة متأخرة ، تضع حديثنا في إطـار يمنـح المسألـة أبعاداً كبيرة ً ” .
ولكن يبقى السؤال المطروح نفسه :
” ولكن ينبغي أن نعلم أن خاصيّة القرآن هذه ، ليست نتيجةً لعمليات حذف خضع لها النص القرآني ، في العصـر الذي كانـت تكتشـف تلك الأخطاء … إذ أن المخطوطات الأكثر قدمـاً للقرآن ، والنصوص المعاصرة ، تتماثل بشكل قاطع ، برغم مرور أكثر من ألف سنة ، على تنـزيل القـرآن ، وبالتالي لو كان محمّـد ، هو مؤلف القرآن فعلاً ـ وهو الغرض الذي يأخذ به البعض ـ فكيف أمكنه أن يكتشف الأخطاء العلمية الواردة في الإنجيل حول مسائل كثيرة ، وأن يتلافاها عندما وضع ـ حسب الغرض ـ نصاً يتناول نفس المسائل ؟ علمـاً بأنه منذ كتابة الإنجيل ، وحتى عصـره ، لم تتوضـح أيـة حقيقة علمية جديدة ، بحيث يمكنه على ضوئها ، تلافي تلك الأخطاء ” .
” لقد رأينا سابقـاً ( أي في فصل سابق ) أنه بالنسبة لمفسـري الكتاب المقدّس ، ينبغي اعتبـار كتب العهـدين القديـم والجديـد ( أي التـوراة والإنجيل ) على أنها كتبت بالإلهـام ” .
وفي مكان أيضاً من كتابه :
” وهناك مخطـوطات من القرن الأول للهجرة توثـق النص المتـداول الآن ، ثـمّة عنصر آخر للتوثيق ، هو حفظ القرآن غيباً ، وقد تواصـل ذلك منذ عصر النبي ” .
” … وقد وجدت أجـزاءً من القرآن ، تعـود للقرون الأولى للهجرة ، متشابهة تماماً للمخطوطات الأكثر قدمـاً . وكل الطبعات المعاصرة ، ليست إلاَّ استنساخاً للنماذج الأصلية . فالقرآن لم يخضع لعمليات كتابة متعددة يصبـح معها نصّه عرضة للتحريف عبر الزمن . إذ لو كـان مصـدر القرآن مشابهاً للإنجيل ، لكان من المتوقع ، أن تستند الموضوعـات التي يتطرق لها إلى مفاهيـم ، تعكس معتقدات عصر التنـزيل ، مع ما فيها من اساطير وخرافات مختلفة … وبالتالي فإن النص ، سيكـون ممتلئاً بالأقاويـل الموروثة ، ذات المنشأ الأسطوري غالباً . وهكذا فإن فرص إدخال أقوال مغلوطة في النص ، ستصبح فرصاً مضاعفـة ، كما بخصوص الموضوعـات المذكورة آنفاً … ولكن أي شيء من هذا لا نجد له أثراً في القرآن … ( أ.( المنطلق ) العدد 20 ـ 1402 هـ . تحت عنوان : القرآن لا يمكن إلاَّ أن يكون وحي.. المؤلف : موريس بوكاي . ترجمة : حسين الحكيم .) .
* * *
هذا ، وإضافة إلى الدكتور بوكاي ، فإن مجموعـة من العلمـاء الغربيين ، تصدّوا لموضوع عـدم ثبـات التوراة والأناجيل ، وثبات القرآن وتطابقه المدهش ، مع الحقائق العلمية المكتشفة حديثاً . وقد كانـت الغايـة من دراساتهم تلك ، هي البحـث عن سبب انفجـار الغرب في موجتين خطيرتين من الانفلات الهستيري ، اجتاحتا أوروبا وأميركا في السبعينـات ، وهما موجتا الخنافـس في بريطانيـا ، والهيبيين في الولايـات المتحـدة الأميركيـة .
وتوفيراً لجهد القارىء وضعنا خلاصة لتلك الدراسات ، مفادها أن الإنجيل والتوراة ، كانا سبب خيبة أمل كبيرة للطلاب ، وللشباب بشكـل عام وجملة من المثقفيـن حيث إن الكتـابين المقدسيـن ، لم يصمـدا للحقائـق العلمية ، مـمّا شكّل سبباً مباشراً لعدم الثقـة بهما ، وبالتالي لمراودة الإلحاد ، ومعه لتحولات نفسية خطيرة في المجتمعـات الغربيـة نتيجـة للصدمـات التي من جرائها تزعزعت العقيدة الدينية في أعماقها ، حيـث أصبحوا ـ حسـب تصريحاتهم ـ يشعرون أنهـم بلا هـدف ، في خضـمّ متلاطـم من نشازات الحضارة المادية الحديثة .
وهكذا فلم يبقَ إلاَّ القرآن ، هو الكتاب الوحيد في الأرض ، المنـزّل من لدن الله عزّ وجلّ ، بواسطة جبرائيل عليه السلام ، على محمّد صلى الله عليه وآله رسول الله وخاتم النبيّين. وبقي القرآن ـ وهو باق إلى يوم القيامة ـ هو الحقيقة الراهنة ، على أنه كلام الله تبارك وتعالى وأنه الكتـاب الوحيـد في الأرض ، الذي لم يطرأ عليه أي تغيير ، أو تعديل ، أو تبديل ، منذ وجوده على هذا الكوكب . كذلك الحقائق العلمية التي فيه ، هي باقية تتحدّى العلم والعلماء ، وتساعدهم ضبطاً وتصحيحاً وإرشاداً .
النفس اللادينية سجينة :
جرى عندي حوار بين رجل دين وأستاذ فلسفة ، أُثبته إظهاراً لفضـل الله على عبده الصالح الذي شعاره : نعم لكتاب الله ولا للفلسفة …
الشيخ : ـ نحن في سفينة الأرض ، فلنقم بجولـة في خضم هـذه الحضارة ، ونتحدث على المائدة ، مائدة العقل ، لأن مائدة الطعام ، كلانا يأكل من طيباتها ، فهي بنسبة عالية متاحة للجميع ، مع فارق لا بدَّ منه ، إن للدينيين ميزة ، هي اجتنابهم المحرمات في سلوكهم عامة ، لكي تبقى قلوبهم ونفوسهم صالحة للتلقي من أعلى .
الأستاذ : ـ وماذا تتلقى ؟
الشيخ : ـ تتلقى الهداية والسعادة ، والنعيم الخالد الموعود .
الأستاذ : ـ ولماذا لا تهبط هذه النعم على اللادينيين ؟
الشيخ : ـ لأنهم يتناولون من أسفل .
نحن الدينيين ، نأخذ ونعقـل عن الله خالقنا وخالق هذا الكون ومسخّره لنا . ويجادلون في الله …
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ … وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }(سورة الرعد، الآية 13) .
ويحتجون بنظريات ما أنزل الله بها من سلطان . قال نيتشه … ويقول هيغـل … ويقول ماركس … اسمحوا لنا هؤلاء بشر مثلكم ، ونفوسهم أمارة بالسوء . ثم إنه كـان الأخذ عنهم ، لو أنهم تلقـوا من أعلى ، ولكن هؤلاء تناولوا من أسفل .
أنقلوا لنا عن مصدر كمال : عن الله جلّت عظمته … عن كتاب لا ريب فيه من كتبه… عن نبي ختمت به النبوات ، وما كان إفرازاً للصراع الطبقي ولا الجدلية التاريخية… عن خلفائه الأئمة … وعمّن أوجب الله طاعتهم على الناس بعد أن نبّاهم أو اجتباهم ، وعيّنهم في كتابه العزيز ،بأسمائهـم أو بأوصافهـم … وأيضاً عن علماء الفلـك والتشريـح ، والنفـس وشتى حقـول العلم الكاشـف عن حقائـق نهائيـة ، مـمّن أرادهم الله وجعلهـم مصاديق لقوله عزّ وجلّ :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنـَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ … } (سورة فصلت، الآية 53)
يبقى الفارق بين العقل المقدس الذي هو نفخة من روح الله وبين النفس اللادينية من حيث النتائج ، وبالتالي مصير الإنسان العقلاني والإنسان النفساني ، ومصير التابعين لهذا أو لذاك . مستفيدين هذه المقارنة من قوله تبارك وتعالى:
{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }(سورة الليل، الآيات ( 5 ـ 10 )).
فحيث إن العقل مستنير بالله عزّ وجلّ ، الذي هـو نـور السمـوات والأرض ، فقد غـدت المصادر التي يتفـاعل معهـا هـذا العقل ، جميعـها إيجابية ، وهذه المصـادر : هـي الطبيعـة حـوله مُـدارَةً مُدَبَّرةً بكل أبعادها ودقائقها بخالقـها العظيم ، ثم العقـول … عقول الذين نبأهم الله أو اجتباهم وأوجبهم على خلقه ، ثم العقـل الذاتي الذي يعلـم أنه نفخـة من روح الله مسخّرٌ له ما فـي السمـوات وما في الأرض جميعاً منه سبحانـه ، فواضح أن نتائج هـذا التفاعل هي في سلم الإيجابية ، على قاعـدة (لكل ما قدمت يداه ) مترتب عليها المصير الذاتي ومصير التابعين .
بينما تأخذ النفس اللادينية زادها ، حصيلتها الفكرية ، أدواتهـا ، حاجياتهـا ، وبالتالي غايتها من مصادر هي أوثانها شاءت أم أبت ، حيث إن النية والاعتقـاد والتصديـق بالله العظيـم وبدينه الحنيـف ، همـا في رأس أولويات الاستنارة وبالتـالي التوفيق للأسباب، وما تستتبع من صـلاح بـال وفلاح ، أما اللادينية فهي تعاني من الانتكاس ، والتخبّط ، والتـردّي علـى سلّم السلبية على نفس قاعدة لكل ما قدمت يداه ، كذلك للذات والاتباع . فنتيجة لنيّتها وعدم تصديقها بالله أو بوعده أو بوعيده ، تمسي الطبيعة عندهـا عمياء مجهولة المصير ، ثم هي تأخذ بالاعتمـاد على نفوس الآخرين اللادينيـة بحكم التجانس ، مـمّا يزيد ، بالضرورة ، من نقصهـا الذاتي. وبمـوجب المنطق العام تكون النتيجة : النقص والسلبية .
ومـمّا يدعو للأسف الشديد ، هذه المفارقة : فبينما نحن ندّعي علـى النفس اللادينية في كثير من دعاوانا ، بالعلم والكشوف العلمية ، نجدها مصرّة على نفس الادعاء بالعلم والكشوف ، والحضارة التي تركب هذه النفس سفينتها . فنجد أنفسنا ، وبعاطفة الإنسان لأخيه الإنسـان ، مردّدين قـول النبي إبراهيم عليه السلام ، الذي أثبته له الله عزّ شأنه :
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ،وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(سورة إبراهيم ، الآية 36) .
ونحن نسأل ، ولكن هذه السفينة إلى أين في خضم هذه الحضارة ؟ وما الساحل المقصود ؟ وما الجزيرة المرجوّة ؟ وهل العلم غاية أم وسيلة ؟
الواقع أن العلم وسيلة لمعرفة الله عزّ شأنه وللوصول إلى الحقائق العليا والنهائية ، وبالتالي سعادة الإنسان الكلية .
فهل حقّق العلم ، بالمنظار اللاديني ، شيئاً من هذا ، أم أنه زاد الأمر تعقيداً ؟ هذا في وقت زادت طمأنينة الدينيين مع الكشوف العلمية ، إلى درجة اليقين بفرد وسهم الموعود ، فضلاً عن سعادتهم النسبيـة على الأرض ، والتي هي على أي حال ، وبالتأكيد ، وبالبينات القطعية أفضـل بما لا يقـاس من حالات اليأس ، والتأزّم ، والشقاء ، التي يعانيها اللادينيون، ظاهراً وباطناً .
ويبقى السؤال : النفوس اللادينية إلى أين ؟
رضيت أن تكون رهينة الأرض ، ورهينة الحضارة ، ورهينة السفين ، وما استطاعت أن تستوحي شيئاً من علم الفلك ، ولا علم التشريح ، ولا علم العقل ولا علم النفـس ، ولا بقية العلوم . وليت المشكلة تنتهي هكذا ، أي تلزم بما ترضى هي لنفسها . الحقيقة العلمية تقول : قطعاً ، لا ، لأنه ليس عبثاً وجود كواكب في الكون ، هي أكبر من كوكبنا الأرض ، فضلاً عن سماوات غير سمائنا ، ولا عبثاً قول الله عزّ شأنه :
{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى . وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى . فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى . لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى . وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى }(سورة الليل ، الآيات ( 12 ـ 21 )) .