بين تهجّد الليل وصناعة القنبلة :
فإذا بقيت الفطرة سليمة أو إذا أزيلت عنها الأقنعة والحجب ، بخروجٍ شجاع من دوائر الجذب الأرضي ، وقرار حاسم جريء ، يختار به الإنسان ربّه الله تبـارك وتعـالى دون سـواه . عندها يشـرح الله سبحانه صدر هـذا الإنسان لدينه ، فتنجلي البصيرة ، وينجلي حتى البصر … حتى الألوان تتبدّل عنده ويصبح لها مذاق خاص … فإذا الأرض غير الأرض ، وإذا السماء سماوات ، وإذا سرّ الله في قلب عبده ووليّه سعادة حقيقية يستحيل أن يتوصل إليها إلاَّ بقلب طفل أو بقلب شجاع .
إذن بالعقل يستمطر النور من الله :
{ ..يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ..}(سورة النور ، الآية 35)
فيستضيء القلب ويزهر ويتلألأ بنور الله ، بين الناس في الحياة الدنيا :
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ..} (سورة الأنعام ،الآية 122)
وفي الآخرة ، وبين الدنيا والآخرة :
{ .. نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ .. }(سورة التحريم ، الآية 8)
أما بالسماع ، والمحاكاة ، والتقليد ، في مجال الاعتقاد ، بعيداً عـن التوحيد ، فصريح قول الله تبارك وتعالى :
{.. إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ..}(سورة الزخرف ،الآية 22)
الله عزّ وجلّ يذكر قولهم هذا ، ثم يقرعهم بقوله تعالى :
{..لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ .. }(سورة الأنبياء ،الآية 54)
أما ما يتوصل إليه العقل وينعقد عليه القلب ، فبحاجة إلى مدد يزيده خيراً وبركاتٍ من لدن الله عزّ شأنه ، فالإنسان لا يقـوم بذاته ، إنّما عليـه أن يخطو الخطوات الأولى تصميماً على المعرفة ، صدقاً ، وحبّاً ، وإلتزاماً ـ وحتى هذا لا يكون إلاَّ بإذنه تعالى ـ ثم تأتيه الهداية من حيث لا يحتسب :
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ..} (سورة مريم ، الآية 76) . صدق الله العظيم .
أما بدون اليقين عن طريق العقل ، فلا يكون الوهج بين تخشّع وحنين في العبادة ، وصفاء في التوجّه ، وصدق في مجاهدة النفس وتزكيتها ، وإقدام وبسالة في مجاهدة أعداء الله .
بدون اليقين عن طريق العقل ، يبقى الإنسان إذا الريح مالت مال حيث تميل . وبدون اليقين عن طريق العقل ، تبقى النفس خاوية ، خالية ، تتعكز على ظاهر البدن ، وعلى الظواهر الشكلية عامة .
والناس في تاريخ التديّن ، غالبيتهم من هذا النمط . بينما المطلوب الذي يتناسب مع الكرامة التي أكرم الله بها هذا الإنسان ، وهي العقل ، المطلوب أن لا يفرط الإنسان بهذه الكرامة ، وأن يحسن الشكر لخالقه ، تعبّداً على خوف ورجاء ، وتقرّباً إليه سبحانه وتعالى بكل صلاح يزكيه العقـل المستنير بربّه ، بين تهجّد الليل وصناعة الرغيف وصناعة القنبلة ، جهـاداً في سبيل الله .
أمّا كيف يتوصـل العقل إلى الكشف ومعرفة الحقـائق ؟ وعلى ماذا يجب أن ينعقـد القلـب ؟ فهنـا تبدأ الحكاية ، حكاية الإيمان الحقيقي والكفر الحقيقي .
في الواقع أن ما تعارفنا على تسميته ” بالإعتقاد ” هو الخطوط الرئيسية لدين الله عزّ شأنه ، مضافة إلى الأساس الذي يستحيل أن يقـوم بدونـه ، عنيـت به التوحيد ، هذا المخطط الهندسي الفذ ، الذي أسـاسـه ولحمـته التوحيد ، مطبوع في النفس البشرية ، منقوش نقشاً ، وهـو وإن كان قابلاً لأن يحجب أو يطمس ، إلاَّ أنه غير قابل لأن يبدّل أو يمحى …
{.. لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ .. }(1) .
{.. لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ .. }(2) .