تأويل الوقائع الأربع مع موسى وصاحبه (ع)
قصة رسول الله موسى عليه السلام مع صاحبه العالم ، هي من أبلغ القصص القرآني ومن أعمقه ، من حيـث مفارقات
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحيث أن الله عز وجل إذا أراد أمراً مؤجلاً ، يبقى هذا الأمر في علمه سبحانه ويكون هذا الأمر ( أوَّلاً ) من حيث ترتيب المراحل . ثم قد يرمز إليه برؤيا أو أكثر فيكون الرمز ثانيا أو من ( المثاني ) . فإذا أوّل الأمـر إلى حقيقـة بقـي ( أولا) من حيث الترتيب ، وكذلك بقي الرمز في ( المثاني ) .
ما بين ظواهر الأمور وبواطنها . وفي مقدماتها وأسبابها أن موسى عليه السلام سأل ربّه تبارك وتعالى بما معناه : ( ربي ، هل في الأرض رجل أعلم مني ) فأجابه الله سبحانه بالإيجاب وأرسله إلى هذا الرجل على عنوان مفتوح هو أحد السواحل البحرية ، عند ( مجمع البحرين ) ، والمرجَّع أنه في مكان ما من قناة السويس حالياً .
ولإمتاع العقل وتشريف النفس براوئع القصة ، نوردها كما وردت في القرآن الكريم ، لنجد أنها سهلة الفهم ميسورة المعاني ، يجد الإنسان المؤمن فيها لذة كما لذة حل الطلاسم والمسائل الكونية المبهمة وشبه المغلقة .
وهذه هي القصة كما جاءت بتسلسلها في القرآن الكريم :
{ وإذْ قَالَ مُوسىَ لِفَتـاــهُ لاَ أبْرَحُ حَتَّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْن ِ أوْ أمْضِيَ حُقُبَا . فَلَمَّا بَلَغَا مَجمَعَ بَيْنِهمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذّ سَبيلهُ في البَحْر ِ سَرَبا . فَلَمَّا جَاوزَا قَالَ لِفَتـاــهُ آتِنَا غَدَاءَنا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرنَا هـاــذا نَصَبَا . قَالَ أرَأيـتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أنْسـاــنِيهُ إلاَّ الشَّيطانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبيلَهُ في البَحْر ِ عَجَبَا . قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغ ِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارهِمَا قَصَصَا . فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَـاــهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وعلّمْنَـاــهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمَا. قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أتَّبعُكَ عَلَى أنْ تُعَِّلمَن ِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدَا . قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبْرَا . وَكَيْفَ تَصْبرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بهِ خُبْرَا . قَالَ سَتَجدُني إنْ شَاءَ اللهُ صَابراً وَلاَ أعْصي لَكَ أمْرا . قَالَ فإنْ اتَّبَعْتَني فَلاَ تَسْألْني عَنْ شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرَا . فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا رَكِبَا في السَفينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أخَرَقْتَهَا لِتُغْرقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْرَا . قَالَ ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعيَ صَبْرَا . قَالَ لاَ تُؤَاخِذْني بمَا نَسيتُ ولاَ تُرْهِقْني مِنْ أمْري عُسْرَا . فَانْطَلَقَا حَتَّى إذا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بغَير ِنَفْس ٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرَا . قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعيَ صَبْرَا . قَالَ إنْ سَألْتُكَ عَنْ شَيءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصـاـحِبْني قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرَا . فَانْطَلَقَا حَتَّى إذا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ استَطْعَمَا أهْلَهَا فَأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُريدُ أنْ يَنْقَضَّ فَأقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيهِ أجْرَا . قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ سَأُنَبِّئُكَ بتَأويل ِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرَا (1) .
لقد رأينا كما هو واضح ، في سياق هذه القصة القرآنية ، أربعة مواقف يعجز عن حملها أهل الظاهر بشكل عام : الأول ، أن نبياً من أولي العزم ومن أعلى مستويات النبوة يُبعث به ليتعلم اختصاصاً غير اختصاصه ، من رجل مغمور لا يعرف المؤرخون إسماً له ، فيُدِلُّ بما علمه ربُّه ، مُحِقاً ، على هذا النبي الكريم . ويستجيب موسى (ع) لشروط أستاذه ، ويفرح لقبوله ، ويسعد بأن يكون له تابعاً طائعاً ، حتى ومعتذراً بعد كل صدمة .
أما الموقفان الثاني والثالث ، فهما في مستوى الجريمة النكراء ، يحكم على فاعلهما بالإعدام شرعاً وعقلاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الكهف الآيات : 60 ـ 78 .
أما الرابع ، فموقف حرج : إنسان جائع يستطعم أهل قرية فلا يطعمونه ، يلاحظ جداراً من جدرهم ( يريد أن ينقض) على وشك أن ينهدم ، فينقضه ثم يعيد بناءه ، مع ما يقتضي ذلك من بذل الجهد ، ليس على شبع ، بل على جوع .
وكان من الطبيعي جداً ، لأي مؤمن يعاين هذه المواقف ، أن يتعامل مع كل موقف بما يناسبه من الأدب أو الغضب أو إسداء النصيحة . وكذلك كان يمكن أن يفعل موسى عليه السلام، وهو النبي ـ الإنسان ، الذي لم يكن من اختصاصه ـ أي أن الله عز وجل ما قدَّر له ـ أن يعلم بواطن هذه الأمور. لولا أنه أخذت عليه العهود والمواثيق ، وحُذر من الإعتراض وذكِّر تكراراً ، ومع ذلك ، ما سلك موسى (ع) هذه المسالك ، إلا لشدة حرصه على طاعة ربه ، ولأن ظواهر الأمور كما بدت له فساد وإفساد ، فقد بدر منه ما بدر. حتى إذا قضى الله ما قضى ، وأدرك موسى سر هذا الإختصاص ، الذي لم يكن تعليماً عظيماً له وحده ، وإنما كان للبشرية جمعاء ، إستَغْفَرَ وشَكَر ، والله حليم كريم .
ثم يأتي ( المعنى الثاني ) للتأويل ، ليحسم هذه المواقف ، ومثيلاتها وتفريعاتها كلها في تاريخ الإيمان بوحدانية الله عز وجل وهيمنته وقيوميته وعلمه وأسمائه الحسنى فكان التأويل في كتاب الله تبارك وتعالى كما ورد على لسان صاحب موسى (ع) هو هذا :
{ أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ فَأرَدْتُ أنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وراءَهُمْ مَلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبَا . وَأمَّا الغُلـاـــمُ فَكَانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْن ِ فَخَشِينَا أنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرا . فأرَدْنَا أنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَـواةً وأقْرَبَ رُحْمَا . وأمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلـاـمَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وكَانَ أبوهُمَا صَالِحاً فَأرَادَ رَبُكَ أنْ يَبْلُغَا أشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ومَا فَعَلْتُهُ عَنْ أمْري ذَلِكَ تَأويلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيهِ صَبْرَا}(1) .
هنا ، نجد في عرض القصة ، قبل تأويلها ( بالمعنى الثاني للتأويل ) ، أننا في مواجهة وقائع أو حوادث عجيبة أو خطيرة ، أو مفجعة ، أو غريبة أطوارها ، يدركها الإنسان بأحاسيسه ويقظته ، وينفعل معها ، إلا أنه لا يدرك الأسباب والدوافع التي فرضتها فرضاً ، أو جعلتها قضاء منزلا . فإذا تعامل معها الإنسان دون أن يفهم أسبابها ودوافعها والحكمة منها ، بقيت دون تأويل . وفي ذلك الخسارة التي لا تُعوَّض وذلك شأن الجاهلين . أما إذا أحاط الإنسان بموجباتها والحكمة منها ، فقد وقع تأويلُها . وفي ذلك الهداية والتأييد من الله والفوز المبين . على أن كل ذلك إنما يقع بعلمه سبحانه ، ومشيئته ثم قضائِه . وهكذا فإن الإحاطة بالأسباب والدوافع والنتائج ، إنما تقتصر على الله عز وجل والراسخين في العلم . أي الذين اختصهم سبحانه بهذا الوجه وربما بغيره من وجوه الإختصاص ، ثم هم يظهرونها للناس بإذنه عز شأنه .
وهذا ( المعنى الثاني للتأويل ) يقرِّبنا كثيراً ، من المعنى الثالث ، الذي هو ( تأويل القرآن ) كما سنرى إن شاء الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الكهف الآيات : 79 ــ 82 .