تناقضات في كتاب هل نرى الله

هل نرى الله

                                                    للعلامة الطهراني

 

تناقضات في كتاب هل نرى الله :

===============

 

          وما زالوا يذهبون بعيداً عن القرآن المجيد ، عن كلام الله الحي القيوم الذي لا إلـه إلاَّ هو ، إلى الفلسفة وعلم الكلام ، وكلاهما ما أنزل الله بهما من سلطان . بعد نزول التعاليم الإلـهية  وختمها بالقرآن .

قال تبارك وتعالى :

          { .. قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ .. . سورة سبأ الآية 23 } .

وقال تبارك وتعالى :

          { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . سورة سبأ الآيات ( 31 ـ 33 ) } .

          يلاحظ في هذه الأيام ( ونحن في القرن الخامس عشر من الهجرة المباركة والواحد والعشرين الميلادي ) هجمة على ما يسمى بعلم العرفان الإسلامي ، وهي هجمة بائسة ، باعتبارها أولاً ليس فيها من جديد يذكر ويتلاءَم مع ما أوصـل الله إليه العالم من العلم والكشوف والأعاجيب في خلقه ، وثانياً أنهم يستخرجون ما ينشرونه بغزارة ، وبطريقة تبدو فيها بقوة النزعة التجارية عند الناشرين ، وليس كما هو المفروض ، النزوع إلى معرفة الله أكثر فأكثر ، ومن مصادره الصافية والتي أصفاها على الإطلاق ، ذاته القدسية ، آمراً ناهياً ، مفهِّماً الخاصة ، معلماً العامة ، في قرآنه المجيد . بل يستخرجون هذا العلم مما تراكم في بطون الكتب والمجلدات القديمة من الفلسفة اليونانية والرومانية ، ومما تداخل في كل ذلك من علم الكلام مع الفلسفات القديمة مشرقية ومغربية .

          أكتب هذا الآن ، وأنا خارج للتو من مطالعات مرهقة في مجلدات ” الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ” وبين يديَّ كتاب ” هل نرى الله ” للعلامة الطهراني .

          ويبدو بوضوح أن الكتاب متأثر كمعظم الكتابات العرفانية ، بأنماط الفلسفة التي في الأسفار العقلية الأربعة ، كما أن هذه المجلدات من الأسفار متأثرة وبحدود قصوى بالفلسفات الدخيلة على الإسلام .

          وكتاب [ ” هل نرى الله ” الطبعة الأولى ـ بيروت ـ 2001 ]  انتشر انتشاراً سريعاً وملفتاً بين الشباب  المتعشق لكل جديد عن الإسلام ، ولا سيما عن معرفة الله عزت عظمته . وقد نقله إليَّ أحد الطلبة الجامعيين ، وهو صديق محب لله تعالى ولدينه الحنيف ، معروف بالاتزان وعدم التعقيد ، وإنما بدا لي مع هذا الكتاب ، وبعد أن طالعه ، وفي وجهه وعينيه الكثير من علامات التعجب والإستفهام ، يخالطها مسحة من الخـوف والحيرة . وإذ اطلعت على الكتاب ، عرفت السبب وبطل مني العجب .

وقبل أن أبدأ بعرض ما يناقش في الكتاب ، أريد وبفضل منه تعالى وبإذنه ، أن أعرِّف عن نفسي هذه التي تفضل عليها ربي وأخرجها من الظلمات إلى النور ، وإلى نور على نور …

          وحقيقة الأمر ، أن الله تبارك وتعالى جنَّبني فوضى التعلم من المعلمين غير الأصيلين ، وألجأني إليه وحده سبحانه مستقلاً عن الآخرين ، بعد أن جعلني على بينة من أمري ، مدخلاً إياي في منازل النور ، فيما يقال وفيما لا يقال . وقد ألمحت في بعض شرائح كتبي على بعض فضله ومننه وآلائه عليّ . وقد جنبني الإنفعال الغضبي ، وقواني في روحي ونفسي ، ليطلعني على الأرقى والأنقى من الحقائق ، نصاً وروحاً فيما يدور حول معرفته سبحانه ، وذلك في كتابيه العظيمين : القرآن والكون ، وبين القرآن والكون ، سنة خاتم النبيين محمَّد وآله الأطهار الميامين .

          ومن أنواع قوتـه سبحانه التي قواني بها ، أن جنَبني ظلمات المعلمين غير المجتبين ، والخلاص من فوضى أتباعهم ومقلِّديهم ، تحت عناوين الفلاسفة والحكماء والمتكلمين . ليرفع بما يعلمني سبحانه من يشاء من عباده الصالحين ، من بؤر التقليد والعبث والإنحراف عن صراطه في داري الدنيا والآخرة .

          وهذا نمط من اختلاف أراء وأقوال فلاسفة كبار وحكماء وعلماء كلام :  فقد ورد في ” كتاب الحكمة المتعالية ” هذه العبارة : [ وكذلك الحال في أكثر التعريفات الحقيقية للأشياء كتعريف الحيوان بأنه الجسم الذي من شأنه أن يحسّ ويتحرك وتعريف الإنسان بأنه الحيوان الذي من شأنه أن يدرك الكليات أي يتعقل المعاني الكلية ويتصورها ] (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1)  المجلد السادس ص 16 الطبعة الثالثة 1981 دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

                  

          هذه التعريفات ، أصبحت من المضحكات للتلاميذ في الصفوف المتوسطة ، في عصرنا هذا ، عصر فلق الذرة . ومع ذلك ما زالت هي هي تدرَّس في حوزاتنا الدينية في مادة المنطق ، وهي في معظمها مأخوذة من منطق أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان ، أيام تعدّد الآلهة .

          فاليوم أصبح بين الكتابين العظيمين : القرآن والكون ، كل شيء يحس ويتحرك . أما في القرآن المجيد ، قوله تبارك وتعالى :

 

1) ـ     { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ  وَالأََرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا . سورة الإسراء 44 } .

 

وقوله تبارك وتعالى :

2) ـ     { أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ . سورة النور الآية 41 } .

 

وقوله تبارك وتعالى :

3) ـ     { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأََرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . سورة [ الحديد + الحشر + الصف ] الآية1}.

 

وقوله تبارك وتعالى :

4) ـ     { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ . سورة الرعد الآية 13 } .

وقوله تبارك وتعالى :

5) ـ     { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ . سورة ص الآية 18 } .

          وقبل أن أتشرَّف بالإلفات إلى المضامين الحقيقية للآيات الكريمة ، أريد أن أثبت نماذج كذلك من المنطق الذي ما زال يدرَّس في الحوزات الدينية ، بعد أن أصبح معظم ما فيه في وادي القديم البالي ، وأصبح ما فتح وما يفتح الله تبارك وتعالى على عباده من العلم المتسارع المذهل في قمم عالية ، تفسِّر مغلقات القرآن وتفسِّرها مغلقات القرآن . ويبقى القرآن هو القول الفصل الذي ليس فوقه فوق دون منازع .

          ورد في كتاب المنطق المفروض على طلبة العلوم الدينية ما يلي ، وذلك تحت عنوان الكليات الخمسة (1)(2) :

” وقد يسأل السائل عن الإنسان والفرس ….. والقرد( ما هي ؟)

” وقد يسأل السائل عن الإنسان فقط ….. ( ما هو ؟ )

” لاحظ أن الكليات هي المسؤول عنها هذه المرة ! فماذا تـرى

” ينبغي أن يكون الجواب عن كل من السؤالين ؟ ـ نقول : أما

” الأول فهو سؤال عن كليات مختلفة الحقائق ، فيجاب عنه بتمام

” الحقيقة المشتركة بينها ، وهو الجنس ، فتقول في المثال : ( حيوان)

” وأما الثاني ، فهو سؤال بما هو عن كلي واحد . وحق الجواب

” الصحيح الكامل أن نقول في المثال : (حيوان ناطق)”

  وقبل هذا ص 79

” أنه إذا كان الإنسان يساوي الناطـق  فإنَّ لا إنسـان يساوي لا ناطق ” .

          ويلاحظ القارىء مدى التقارب بين هذا المنطق وبين نظرية دارون في النشوء والإرتقاء ، والتي ثار عليها هؤلاء العلماء ، واضعوا هذا المنطق ، لأنهم لم يرضوا أبداً أن يكون جدَّهم قرد وهم بهذا الجانب محقون . فكيف إذاً يناقضون أنفسهم بهذا الوضوح ؟

          ثم إنهم يعارضون كتاب الله تبارك وتعالى ، فانظر كيف أخذهم منطق أرسطو وغيره من مناطقة وفلاسفة بعيداً جداً عن قرآنهم المجيد ، وهو بين أيديهم ، يتلونه ويقدسونه !!

          وهكذا ففي منطقهم أن الإنسان والفرس والقرد ، حيوانات وأن الإنسان وحده حيوان ناطق .

          بينما في القرآن الكريم ، الهدهد ، يخاطب سليمان (ع) ويتحداه { .. أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ . سورة النمل الآية 22 } . ويذهـب ويجـيء  واعياً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب المنطق ـ تأليف العلامة المظفر . الطبعة الثالثـة ـ المجلـد (1ـ3) . مطبعة النعمان . النجف الأشرف . السنة 1388 هـ 1968م .

(2) ص 85 و 86 .

 عاقلاً مفكراً ناطقاً كأحسن ما يكون النطق . وظاهر القرآن حجة على جميع خلقه ، وبعد الظاهر ، فليتأول ما يشاء المتأولون . وكذلك النملة إذ تخاطب قومها : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا  النَّمْلُ  ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين . سورة النمل الآيات ( 18 ـ 19 ) } .

ويجب أن لا ننسى كذلك قوله تعالى :

{ قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ } و { فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ .. } و { وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ } .

وتحت عنوان : الفصل . ورد ما يلي :

” فإذا رأينا شبحاً من بعيد وعرفناأنه حيوان وجهلنا خصوصيته

” فبطبيعتنا نسأل ( إلى أن يقول ) والجواب عن الأول ( ناطق)

” وهو فصل الإنسان أو ( صاهل) وهو فصل  الفرس . وعن

” الثاني ( حساس ) مثلاً وهو فصل الحيوان(1) . “

          وفي مكان آخر من نفس الكتاب ، نكتفي بهذا النموذج من النماذج الكثيرة المفتونة بالفلسفة بعيداً عن النصوص الإلـهية ، من مثل أنه حتى الله لا يقدر أن يجمع النقيضين ، وقد عالجنا هذا الموضوع الخطير في كتابنا ( العقل الإسلامي ) وغيره وغيره كثير . يقول في صفحة 76 :

” ( نسبة التساوي ) : وتكون بين المفهـومين اللذين يشتـركان

” في تمام أفرادهمـا ، كالإنسـان والضاحـك ، فإن كل إنسان

  ضاحك وكل ضاحك إنسان (2) .”

ثم في الصفحة 77 :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)         نفس المصدر  ص 86 و 87 .

(2)         نفس المصدر .

” (نسبة العموم والخصوص) وتكون بين المفهومين اللذين يصدق أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر وعلى غيره . ويقال للأول : ( الأعم مطلقاً ) ، وللثاني ( الأخص مطلقاً ) كالحيوان والإنسان والمعدن والفضة ، فكل ما صدق  عليه الإنسان يصدق على الحيوان ولا عكس (1) .”

          فقوله كل إنسان ضاحك وكل ضاحك إنسان ، صحيح في أن كل إنسان ضاحك ، وليس صحيحاً في كل ضاحك أنه إنسان ففي لغة العرب ، يقولون ضحكت الأرنب وضحكت الضبع أي حاضت ، وقد ورد ذلك في أشعارهم . هذا إلى جانب  قولهم ضحكت المرأة أي حاضت . وقد فسَّروا قوله تعالى { .. فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ .. } أي حاضت (2) .

          ويلاحظ  في القسم الثاني من هذا النموذج تحت عنـوان ( نسبة العموم والخصوص ) ، وكذلك في بقية النماذج الآنفة ، مدى الإصرار على عدم الفصل بين الإنسان والحيوان . وعلى الإصرار في نفس الوقت على الفصل بين الإنسان والحيوان من جهة وبقية خلق الله من جهة ثانية ، فلماذا لا تكون الملائكة أناساً ـ بحكم هذا المنطق ـ وهي ناطقة ، ولماذا لا يكون الجن كذلك وهم ينطقون ويتكلمون ويسمعون القرآن ويبلغون قومهم بأفصح النطق وأبلغ الكلام . ولماذا لا يكون الطير وأنواع الحيوان كذلك أناساً وقد أثبت الله عز وجل كونها ذوات لغات أطلع عليها وأفهمها بعض أنبيائه عليهم السلام ، ولماذا لا تكون كذلك الأشياء أناساً بحكم هذا النطق ، وقد ثبت في كلام الله  تبارك وتعالى وهو أصدق المصادر على الإطلاق ، وهو المعيار ، وفيه القول الفصل ، وقد ثبت فيه أن الأشياء تسبِّح مدركة واعية ناطقةً  { .. كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ .. } كل في درجته من سُلَّم الخلق وبالتالي من سُلَّم الوعي والإدراك .

          وكذلك كما رأينا في أحد نماذج كتاب المنطق الآنف الذكر قد حصر الإحساس في الحيوان قوله ص 87 : ” والثاني ( حساس ) مثلاً وهو فصل الحيوان . يريد بالفصل أن ما دون الحيوان من نبات وحجر وحديد وغير ذلك مما تعارفـوا علـى تسميتها بالجمادات أنها دون إحساس . وقد أثبت الله تعالى كذلك في القرآن الكريم  أن الجمادات ، لها إرادة نسبية وحس نسبي لا يعلم مداه إلاَّ الله تبارك وتعالى ، قال سبحانه : { .. فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ .. سورة الكهف الآية 77 } وقال تعالى :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        نفس المصدر .

(2)        أنظر باب ضحك . لسـان العرب لابن منظور المجلد العاشـر ـ  دار صادر ـ بيروت  .

 

 

 

{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . سورة فصلت الآية 11 }  .

          ولقد أثبت العلم لغة للنبات تحت ( بوقال ) زجاجي  معزول عن الأصوات الخارجية ، وضع فيه جهازٌ للتسمع يلتقط ما تحت مستوى الصوت . وكانت المفاجأة : أن النبات يتكلم . ولغة أخرى ، عند حيوان البحر ذلك الذكي ، الدرفيل .

          قال تبارك وتعالى : { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا . قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا . أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا . سورة الإسراء الآيات (49 ـ 51 ) } .

          والحقيقة أن هذا تصوُّر مما يخطر في بال من يتأمل ، وقد قيل ( ساعة تأمل أفضل من سنة عبادة ) أن يصهر الإنسان في فرن حديد ، أو أناس كثيرون ، أو في أتون حجارة مما يصنع الكلس ، فلا يبقى من الإنسان خبر يذكر . ففي الحديد يصبح حديداً في سقف منزل أو في قطار … وفي الكلس كما يرى القارىء ، إما في عمران المنازل أو غير ذلك ، ثم التحدِّي في الآية  { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ .. } { .. مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. } { .. مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } . و { عسى } القرآنية واجبة ليس فيها خلف ولا تردد .

          كان الرد على عجب المتعجب في الماضي أصعب . أما اليوم ، فقد تبين بالعلم القطعي ، ، أن جميع المجسمات ذرية أو نووية ، ومنها هذا الإنسان وذلك الحديد أو الخشبة أو الحجر . وأن ذرات الحديـد بمضامينها من النوى والبروتونات والألكترونات إلخ …  هي في حركة دائبة لا تتوقف ،  حتى أنها لا تكف عن الإشعاع إلا عند درجة  الصفر المطلـق ، أي 273،1 تحت الصفر في الميزان المئوي ( سنتيغراد ) .

          أما في القرآن ، فهي إضافة إلى ذلك واعية تسبِّح بحمد ربها ، والناس لا يفقهون تسبيحها ، فإذا حصل الإمتزاج بين الإنسان وهو ذري ويبن الحديد أو أي شيء آخر سيكون ذرياً قطعاً ، فسيبقى  الحديد على حديديته ، أو أي شيء على شيئيته ، وكذلك الإنسان على إنسانيته ، وكل صنـف  في حدود شخصيتـه ، ووحده الله عزت عظمته ،

 وحده القادر على الفصل بين الأجناس (1) وأوصافها ، وبكلمة كن فيكون .

          ولا ننسينَّ أن المعَّول على الأنفس  بعد الموت . فبمجرد أن يموت إنسان ، تفارق نفسه بدنه . فيلبسها الله بدناً كما يشاء عند بعثها ، قال تعالى :

 

{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سورة الأحقاف الآية 19وقال تبارك وتعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الزمر الآية 42 } .

          فالأنفس يمسكها الله ويحفظها الله دون الأبدان التي تتحلل إلى عناصرها الأصلية ، أو يبقى بعضها محفوظاً مكرماً بإذنه تعالى وبحكمته ، حتى يقضي الله فيها قضاءه أو يرفعها إلى حيث يشاء ، كما رفع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام .

          والأنفس لا يحتجزها حديد ولا حجر ولا أفران حامية . ويطلقها الله عندمـا يتوفاها ، أو يجعلها حيث يشاء في برزخها ، أو يرفعها إليه تبارك وتعالى ، وهو بكل شيء محيط وعلى كل شيء قدير .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        الشحنات التي في أجزاء الذرة لا تولد ولا تموت ولكن تبقى محفوظة .

ويحسن بنا كذلك هنا ، أن نذكر كلمة موجزة عن أصغر شحنة كهربائية موجودة في الطبيعة .  تلـك هـي التـي أسموهـا الكوارك : Les Quarks ، وإلى سنة 1936 كان يظن الفيزيائيون أن شحنة الألكترون هي الأصغر في الكون وأنها الشحنة الأوليَّة . وفي السنة 1936 اكتشف علماء الفيزياء أن النوترونات والبروتونات مكونة من عناصر Particules اعتبروها الأصغر في الوجود وسموها Quarks .

فتبين أن النوترون ليس هامداً أي Neutre كما كان متفقاً عليه عند الفيزيائيين  .

عوداً إلى كتاب  :

 

          هل نرى الله ؟

 

          يقول العلامة الطهراني في أول الكتاب تحت عنوان الله نور :

” قال الله الحكيم في كتابه الكريم :

          { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسـْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُـورِهِ ( إلى منزل قربه ) مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة النور الآية 35 } ” .

          وما بين هلالين بعد قوله تعالى : يهدي الله لنوره ، عبارة ( إلى منزل قربه ) هي تعليق من العلامة ، صحيح لا نقاش فيه .

          إلاَّ أنه يتناقض مع قوله في الصفحة 11 حيث يقول بالحرف : ” إنَّ ذات الله سبحانه نور ” (*) .

          وهذا ليس صحيحاً ، لأنه تشبيه واضح ، حيث يتبادر لذهن القارىء أو السامع وبالضرورة ، النور المألوف المتعارف لدى الناس . ثم ، وإن كان قصده كما سيظهر فيما بعد ، أنه نور غير الأنوار المعروفة ، فمهما  أعطاه من صفات النورانية ، يبقى نوراً ، ولو كان بينه وبين بقية الأنوار مليارات الدرجات ، ومع ذلك يبقى متعارضاً مع قـول الله { .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. . سورة الشورى الآية 11  } وإن أدنى الأنوار المعروفة ، يوجد بينها وبين أرقى الأنوار المعروفة ، وأصفـى الأنوار المتخيلة ، وأسمى أنوار التجلي ، شبه ومماثلة . يقول تعالى : { .. وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا .. . سورة البقرة الآية 25 } سواء كان نوراً أو فاكهة أو أنواع الجمال المادي والمعنوي .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  (*)  أنظر صورة ً للصفحة التي فيها العبارة وكذلك صوراً لبعض الصفحات ذات العلاقة  آخر كتابنا هذا .

          وفوق النور المجلِّي للنور وغير النور ، لا بدَّ أن يكون شيء أرقى من النور ، وأبهى وأجمل من أجمل الأنوار ، هو مرصود في قوله تبارك وتعالى :

          { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ . سورة السجدة الآية 17 } .

          فإذا كانت ألوان الجمال وروائع المشاهد والسعادات ، في الآخرة ، هي في واقع خفاء قبل قيام الساعة على جميع ما خلق الله من أنفس في السماوات والأرض ، حتى نفوس الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين ، فمن الأكثر بداهة أن تكون ذات الله تبارك وتعالى هي أخفى وأخفى على جميع خلقه . قال تعالى في كتابه الكريم { ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ . لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . سورة الأنعام الآيات ( 102 ـ 103 ) } .

          وقال جلَّت عظمته في قضية موسى (ع) وطلبه أن يرى الله سبحانه :

{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ . سورة الأعراف الآية 143 } .

          ومعلوم عند أهل اللغة أن لفظة  { لَنْ }  في قوله  تعالى : { لن تراني } هي للنفي القطعي . فالمعنى  لن تراني إطلاقاً ، لا على الحقيقة المجـردة ولا حتى بتجلي الذات . لأن تجلي الذات ، كما رأينا في الآية ، يدمِّر الجبل ويسويـه بالأرض الصحراوية ، أي يفقده جبليته ، ولو كان تجلي الذات لإنسان ، لأفناه وأفقده بشريته . والذي صعق موسى ليس تجلِّي الذات الإلـهية ، وإنما الرهبة من تدمير الجبل وجعله قاعاً صفصفاً .

          فكيف كان تجلِّي الله بذاته ، حتى جعل الجبل دكا ؟ فهل كان بقوة ذرية أو هيدروجينية أو نيوترونية أو أية طاقة هائلة مما ركبه الإنسان وأخرجه من المادة ؟ فإذا كان ذلك ، صحَّ أن نقول إنه تعالى نور في ذاته ، أي طاقة مميزة رهيبة ، فوق الأنوار المعروفة ، كما  يقول أصحاب هذا الزعم . ولكن هل يملك أي نور متخيَّل أو متصور ، هل يملك أن يكون عاقلاً وعادلاً وخلاقاً وخيراً محضاً ، ورحماناً ورحيماً ، وحليماً وكريماً، وحنَّاناً ومنَّاناً ، ومبدعاً السماوات وأفلاكها ، ونظام الذرة مكبَّراً في النظام الشمسي ، موسَّعاً في أنظمة المجرات ، متعالياً في نظام السماوات ، متحجباً بحجب الجمال وحجب النور ، فعَّالاً لما يريد ، يقول للشيء كن فيكون ؟! …

هل صحيح أن كل ما هو موجود هو الله ؟!

          ورد في الكتاب المذكور ” هل نرى الله ” في الصفحة 13 السطر الرابع هذه العبارة :  ” كل ما هو موجود هو الله . “

          ثم في الصفحة 18 ، ابتداءً من السطر الثامن ، يقـول : 

” لقد خلقنا الله عز وجل في أحسن تقويم ، وأودع فينا من جميع الأسماء الحسنى والصفـات العليا  وجعل أنفسنا من الهيولى .”

ثم يتابع في نفس السياق : ” ولم يجعل لنا حداً ولا حدوداً من جهة الإستعداد والقدرة على التقدم والتكامل والإرتقاء في سلَّم اليقين والوصول إلى العرفان والتوحيد ، والفناء في ذات الله المقدسة . ”  .

          ثم يوقع نفسه في تناقض شديد ، حيث يستشهد بالتتابع بهذه الآيات الثلاث ، ص 48 :

          { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ .. }

 

          { .. فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }. 

 

          { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .

          فبعدما ثبت أن الشك في وجود الإنسان العياني ووجود عامة المخلوقات والأشياء ، سفه وسفسطة ، وأن الأدلة عن الوجود العياني لأفراد الكون ، لا تنتهي إبصاراً وإحساساً ومعاناة ، ما كنا مضطرين لإثبات ما هو ثابت ، وما هو موجود بديهة وعقلاً وشرعاً ، لولا أن بعض الكتاب والمتكلمين نفوا وجود الإنسان ووجود الحيوان ووجود عامة الموجودات جملة وتفصيلاً ، واعتبروا أنَّ ” كل ما هو موجود هو الله ”  وهي العبارة التي أشرنا إليها في الكتاب المنوه عنه ، وغيره من الكتب الفلسفية الدخيلة على تعاليم الله ورسله وأوليائه الصالحين .

ولو كانت هذه الكتب تزين بعض مقولاتها بين الحين والآخر ، بآيات من القرآن الكريم ، والقرآن كلام الله ، والفلسفة منطق المخلوقين .

         

          ولنقارن بين هذه المقولة :

          ” كل ما هو موجود هو الله “

وبين قوله تبارك وتعالى :

          { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ..}

          فإذا كان ” كل موجود هو الله ” فإن كل موجود تدركه الأبصار أي ببساطة هي تراه بحدوده الظاهرة ، وقد تفصِّله تفصيلاً دقيقاً ، الإنسان يرى الحيوان ويصنِّفه فصائل ، ويدرسه ، حتى أن الإنسان يدرس طبائع الحيوان من الحشرة ، بل من الخلية البسيطة المفردة في مياه البحار إلى الفيل وفرس النهر ، والحيوان يرى الإنسان ويألفه ويعطيه مما أودع الله فيه من منافع ، أو يستوحش منه ويظل بعيداً عنه في بحاره وأنهاره أو براريه وأجوائه . وكلا هذين المخلوقين يعرفان حدودهما وحدود الصخرة والشجرة والماء والهواء وطيب الطعام وخبيثه، فيقبلان على الأول ويجتنبان الآخر ، فإذا كان كل فرد من أفراد الإنسان أو الحيوان أو الأشياء هو الله ، فكيف يقول الله تعالى أنه { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ .. } وهذه آية في كتاب الله  { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . سورة فصلت الآيات ( 41 ـ 42 ) } .

          وهؤلاء الفلاسفة لا يريدون قطعاً ، أن يردُّوا القول على الله ، ولا أن يشككوا في كتابه المجيد ، ولكن تُغويهم الفلسفة وشياطين الفلسفة ، وتشطح بهم بعيداً عن الحقائق الإلـهية فيقعون في الأوهام ويحسبون أنهم يحسنون صنعا .

          ولو كانت الفلسفة حقاً ، لما تناقض الفلاسفة وخطَّأ بعضهم بعضاً وانقسموا إلى أكثر من فرقة ، حتى طلع عليهم وما زال يطلُع من الملهمين ، من يطعن  بأصل الفلسفة ، فيرمونها تارة بالسفسطة وتارة بالتهافت وتارة بأنها جنت على جوهر الإسلام أكثر مما جنته حملات الغزو البربرية .

          وهذا نموذج من اختلاف الفلاسفة ، وتعدُّد آرائهم وتناقضها حول الحقيقة الواحدة :

          فقد ورد في كتـاب ” الحكمة المتعاليـة في الأسفار العقلية الأربعة ” وتحت عنوان (1) : ” في ذكر اختلاف الناس في تحقق الجوهر الجسماني ونحو وجوده الذي يخصه .” ما يلي :

          ” فمن قائلٍ من زعم أنه مركب من ذوات أوضاع جوهرية غير منقسمة أصلاً لا وهماً ولا فرضاً ولا قطعاً ولا كسراً ، وهؤلاء أيضاً تشعبوا إلى قائل بعدم تناهي الجواهر الفردة في كل جسم حتى الخردلة وهو النظَّام من المعتزلة وأصحابه .

          وقائلٍ إلى تناهيها وهم جمهور المتكلمين .

          ومن قائل أنه متصل  في نفسه .

          فمن هؤلاء من ذهب إلى أنه يقبل الإنقسام بأقسامه لا إلى نهاية وهم جمهور الحكماء .

          ومنهم من ذهب إلى أنه يقبل عدداً متناهياً ثم يؤدي إلى ما لا ينقسم أصلاً ، وهو صاحب كتاب الملل والنحل .

          ومنهم من ذهب إلى أنه لا يقبل من الإنقسام إلاَّ ما سوى الخارجي أعني الفك أو القطع لكون الجسم المفرد عنده صغيراً صلباً لا يقبل شيئاً منهما لصغره وصلابته وهو ذيمقراطيس من الفلاسفة المتقدمين .

          والقائل بانقسامه لا إلى نهاية افترقوا ثلاث فرق ففرقة ذهبت إلى أنه جوهر بسيط هو الممتد في الجهات المتصل بنفسه اتصالاً مقدارياً جوهرياً قائماً بذاته وهو رأي أفلاطون الإلـهي كما هو المشهور ومذهب شيعته المشهورين بالرواقيين ومن يحذو حذوهم وسلك منهاجهم كالشيخ الشهيد والحكيم السعيد شهاب الدين = يحي السهروردي في كتاب حكمة الإشراق. وفرقة إلى أنه جوهر مركب من جوهرين أحدهما صورة الاتصال والآخر الجوهر القابل لها وهم أصحاب المعلم الأول ومن يحذو حذوهم من حكماء  الإسلام  كالشيخين  أبي  نصـر ( يعني الفارابي ) وأبي علي ( يعني ابن سينا )  . وفرقة إلى أنه مركب لكن من جوهر قابل وعرض هو الاتصال المقداري وهو ما ذهب إليه الشيخ الإلـهي في كتاب التلويحات اللوحية والعرشية وقد شنَّع عليه بعض  الناظرين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  المجلد الخامس ص 16 و 17 ـ دار إحياء التراث العربي ـ  بيروت   .  الطبعة الثالثة 1981.

 في كتبه لما وجد تناقضاً بين كلاميه في هذين الكتابين حيث حكم ببساطة الجسم وجوهرية المقدار في أحدهما واختار أنه مركب من جوهر سمَّاه هيولى وعرض هو المقدار بناءً على تجويزه تركب نوع واحد طبيعي من جوهر وعرض وبين الكلامين مخالفة بحسب الظاهر”. انتهى كلام الحكيم الإلـهي صدر الدين الشيرازي مؤلف الكتاب .

          وما دام للفلسفة ، نفس قواعد المنطق والمصطلحات ، وطرق الاستنتاج والاستقراء ، التي تؤسس عليها وتنطلق منها ، فلماذا إذاً يتفرق أصحابها هذا التفرق المنكر ، حتى انقسموا إلى فلاسفة ماديين ملاحدة ، وآخرين مؤمنين إلـهيين . ثم انقسم الماديون وتفرق الإلـهيون ، بين مليين أتباع كتب منزلة ، وأتباع كتب غير منزلة … إلى أن تلملمت فلسفة ، فيها الكثير من أفكار الفلاسفة الإغريق مثل أرسطو وديمقراطيس وأفلاطون الإلـهي وغيرهم ، وأُلبست ثياباً إسلامية مطرزة ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ثم سميت فلسفة إسلامية .

          وهذه الفلسفة الإسلامية ، كذلك ، دهيت بمزاعم منكرة ، كان من شأنها أن تنحرف بكل من يطلع عليها عن مضمون الإسلام ، إلاَّ من تحصن بربه جلَّت عظمته ، وبدينه الحنيف ، ومن أخطر هذه المزاعم ، أن الدين بفرائضه وعباداته المرسومة ، إنما وضع للعامة وليس للخاصة ، لأن  الغاية من الدين ، هي أن يكون الإنسـان مهذباً خلوقاً مستقيماً ، والعامة وحدهم بحاجة إلى هذه الصفات لأنهم جهلة ، أما أهل الخاصة فهم مثقفون متعلمون متحصنون بتربية صالحة وخلق قويم .

          هذه المزاعم ، أدت بأكثر من اطلع عليها ، سواء كان مثقفاً أو غير مثقف ، إلى أن يعتبر نفسه . هو كذلك من أهل الخاصة ، فيتحلل من الفرائض والعبادات .