حقيقة الانسان هي نفسه والبدن عنصر ثانويّ
إنّ اتحادَ الأنفس الثلاث مع البدن ، مشكّلةً معه جسماً واحداً مركباً هو الإنسان النوع .
هو أشبه ما يكون بعنصر الماء المركب في الحقيقة من عنصري الأوكسجين والهيدروجين .
وكما ينفصل الأوكسجين عن الهيدروجين بفعل تيار كهربائي ، كذلك تنفصل النفس عن البدن ، وبنسب متفاوتة ، تحت تأثير المـوت أو النـوم ، أو مادة مبنّجة ، أو ما شابه .
إن حقيقة الإنسان هي نفسه دون بدنه ، أو ضمن بدنه مركبة معه . ولذلك فإن الله تبارك وتعالى يخاطبها أو يخبر عنها وهي منفصلة عن البدن يوم القيامة والحساب ، بصيغتي المؤنث والمذكر في ذات الوقت ، قولُه تعالى :
{ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ }(سورة الزمر ، الآيات 56 ـ 59) .
نفسا البدن والجهاز العصبي : تُعَاقبان وتُعَافيان :
وكما أن النفسَ المخيّرة الملهَمَة الباقية َ ، هي التي تسعد أو تشقى ، في الدنيا مؤقتاً ، وفي الآخرة مؤبداً ، كذلك ـ وإنما في الحياة الدنيا فقط ـ تعاقب نفس الجهاز العصبي (الدماغ ومتفرعاته ) بإلحاق أذى جزئي أو كلّي فيها أو آلام مختلفة ( كالشلل ومشتقاته مما قد يصيب الوجه من التواء ، وما شابه ، وكذلك ما يسميه الطب عندما يعجز عن تشخيص الداء ” عصبي ” لجهله هذه الحقائق ) .
وكذلك تُعاقب نفس البدن ، بإيقاع إصابة ، أو خلل ، في عضو أو أكثر من أعضائه ، بشكل دائم ، أو متكرر ، أو عارض .
من أسبـاب الإخلالات التي تسبب الأوجاع في مكان ما من البدن ، مثلاً ، ما يكون بهدف وقاية الإنسان أو على سبيل تعليمه . حيث ينبّه الإنسان بوجع ما ، فإذا لجأ لأيّ شيء من دون الله ، معتبراً هذا الشيء كافياً لشفائه ، وقع في الشرك ، وربما فيما لا تحمد عقباه من الوجع . كذلك إذا وقع في رَوْعِه مثلاً أن سبب هذا الوجع أو هذا الخلـل برد أو حر أو ما شابه من الأسبـاب ، معتقداً أنهـا منقطعة عن مسبب الأسباب الذي هو الله سبحانـه ، وقع كذلك في الشرك وفيما لا تحمد عقباه من مشاكل المرض الذي يبدأ ابتلاء ويصبح مع الشرك أو الكفر ، حقيقة .
وقد يصاب الإنسان بوجع ما ، للتذكير بتقصير ما ، كنسيان فريضة ، أو تكليف بمستوى الفريضة . أو الإخلال بفريضة ما أو تكليف ما ، كعدم قراءة القرآن ، أو عدم قراءة الدعاء ، أو كقـراءة القرآن وعدم تدبـر معانيه ، وهكـذا …
أما الثواب فنقيض كل الذي ذكرنا من العقوبات لكلا النفسين العصبية والبدنية ، الثواب بالعافية ، التي معها السعادة وإشراقة هاتين النفسين انسجاماً مع الثالثة الأصيلة ، تسامياً واقتراباً هنيئاً من رضاه ، ثم رضوانه سبحانه عز شأنه وتبارك وتعالى ، وذلك كذلك ، إما بشكل عارض أو متكرر أو دائم .
وفي هذا المجال كذلك ، مجال الثواب ، قد تحصل في بعض الحالات إفرازات مختلفة من البدن ، عن طريق الأنف أو الفم أو العين أو الأذن أو الجلد ، أو أي مكان آخر ، فإنما يكون ذلك استكمالاً لتطهير البدن وتنقيته من كل شائبة . هذا مع الإيمان والتوحيد ، أما مع خلاف ذلك ، فأعراض المرض أو ديمومته .
هل العلاج مشروع ؟
أما بخصوص الطب ، فهو إما وقائي وإما علاجي ، وكلاهما مشروع ، وإنما الوقاية أشرف من العلاج .
ثم إن العلاج درجات أو حالات ، فهو صحيح أنه غالباً ـ وليس دائماً ـ يسكّن وجعاً ، أو يبرىء مرضاً ، أو يصلح خللاً ، على المستويين النفسيين : البدني والعصبي ، ولكنه مع كل فائدة ، يفوّت مقابلها مصلحة أفضل منها . فمع العلاج الشافي : إذا كان الأمر عقوبة كتبت على صاحبها مؤجلة . وإذا كان تعليماً ، خسر العلم الأنفع والأسمى ، وإذا كان الوجع أو المرض تطهيراً وتزكية ، خسر درجة القرب من الرحمن الرحيم ، وهي الأفدح في حساب الخسائر ، وإذا كان تذكيراً بفريضة أو تكليف ، فاته الأجر ، وحلّ محله تراكم الآثام .
وعلى كل حال ، فإن العلاج في جميع حالاته وأشكاله ومستجداته ، مضافاً إليه جهد المريض ، والنفقات، وجهد الآخرين ، كل ذلك مقدّر أيضاً وهو بإذنه تعالى ، وقد تتداخل معه العقوبة ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً .
على أن هناك حالات كثيرة مفجعة ، قد تحصل عبر العلاج ، نادراً ما يصرّح بها . يعرف عنها الأطباء أكثر من المرضى ويكتمون .
ثم إن بعض الحالات قد يكون مقدراً لها الشفاء بدون علاج ، فإذا دفعها التسرّع إلى العلاج أصبحت بليّة .
وما أكثر ما يكتب فـي هـذه المواضيـع ، على أننـا للإختصـار ،
نضرب مثلاً، خبراً ، نقلته وكالات الإعلام ، لعل التأمل فيه ، يفي ببعض الجوانب مما نريد أن يحصل معه الإيمان بالله الواحد القهار . والخبر كما ورد في جريدة السفير 17 كانون الثاني 1990 هو: قام طبيب بلجيكي ببتر ساق سليمة لأحد الرجال ، بعد أن أخطأ في فهم توجيهات كبير الجراحين ببتر الساق ذات درجة الحرارة الأقل . وكانت حرارة الساق المريضة قد زادت بعد ان انحسرت إصابة ميكروبية بطريقة مفاجئة قبل إجراء العملية ليبادر الجراح ببتر الساق السليمة . وقد شفيت الساق المريضة تماماً بعد ذلك .
تلف البدن يحرّر الأنفس الثلاث :
إن في الجسم كما هو معلوم ، أعضاء رئيسية ، كالرأس والقلب والأوداج والرئتين وغيرها ، إذا أصيبت إصابات قاتلة ، أو تعطلت وظائفها لسبب أو لآخر ، حصلت الوفاة ، والوفاة كما ذكرنا ، هي انفصال الأنفس الثلاث عن البدن .
وكما أن هذه الأعضاء الرئيسة ، يؤدي تعطيلها أو تخريبها ـ دفعياً أو تدريجياً ـ إلى الموت ، كذلك فإن الأعضاء المرؤوسة ، إذا أصيب بعضها بما قد ينتشر ليتلف الجسم كله ، فإذ ذلك يؤدي أيضاً إلى الموت .
وطبعاً هذا ليس بجديد ، ولكن الجديد الذي نرمي إليه ، هو أن لهذا الموضوع صلة وثيقة ، بقانون هو من أهم القوانين الإلـهية التي يخضع لها الإنسان طائعاً أو مكرهاً ، مختاراً أو مجبراً ، عنيت قانون الهلاك والإهلاك . فما هو هذا القانون ؟
قانون الهلاك والإهلاك :
من المعلوم في العرف الديني القرآني ، أن الأعمار مؤجلة بآجال ، أو موقوتة بمواقيت، وذلك اعتماداً على آيات أشهرها قوله تعالى :
{ .. فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }(سورة الأعراف ، الآية 34).
والفهم الظاهري عند الناس عامة ، أن الإنسان لا يموت قبل أن يستكمل عمره المكتوب له ، لا يزيد عن ذلك ولا ينقص منه .
والحقيقة هي غير ذلك . الحقيقة أن هناك عمراً مكتوباً أصلاً وهذا صحيح ، ولكن قد يطرأ على هذا المكتوب ، ما يكتب عليه أو يكتب دونه ، وهذا معنى الآية الكريمة :
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (سورة الحديد ، الآية 22) .
وفي قوله تبارك وتعالى :
{.. وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (سورة فاطر الآية ، 11).
تنبيه واضح إلى حقيقة أن عمر الإنسان المكتوب له أصلاً ، قد ينقص منه . طبعاً لأسبـاب تتعلق باعتقاد الإنسان وسلوكه تبعاً لهذا الاعتقاد أو خلافاً له . ويتضح الأمر أكثر فأكثر في قوله تعالى :
{ .. بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ }(سورة الأحقاف ، الآية 35).
وقوله سبحانه :
{ .. هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ }(سورة الأنعام ، الآية 47) .
ونحن نرى أن جميع الخلق يهلكون ، البـَرُّ منهم والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فلماذا خصّص سبحانه بالإهلاك في الآية الأولى القوم الفاسقين وفي الثانية الظالمين ؟ ثم نقرأ في “غافر : آية 34 ” ، قوله تبارك وتعالى عن يوسف عليه السلام :
{ .. حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا .. } ( سورة غافر ، الآية 34) .
وبالمقارنة ، ندرك أن الهلاك غير الإهلاك ، ونفهم من لغة القرآن أن الهلاك هو استكمال العمر المكتوب أصلاً تماماً وكمالاً ، وأن الإهلاك هو قطع العمر قبل أن يستكمل، بسبب من كفر أو شرك أو إصرار على اعتقاد فاسد ، أو تكذيب الرسل ، أو تكذيب لما أنزل الله ، أو ظلم أو فسوق ، أو إصرار على كبيرة ، أو فساد أو إفساد في الأرض ، إلى آخر ما هنالك من مستَدعِيات الإضرار بالأنفس أو الأبدان ومعها سخط الله جلّت عظمته .
على أن هناك استثناءاتٍ قد تندرج في مصاديق هذه الآية الكريمة قوله تعالى :
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا }( سورة مريم ، الآية 75 ) .
فالذي نفهمه من الآية الكريمة هذه، نراه جليّاً على الأرض: فمن أهل استحقاق العذاب، من يعذب في الدنيا قبل الآخرة، ومنهم من يمدّ له بالعطاء والعافية ، ويوم تقوم الساعة يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ونحن لم نحشد هذه الأدلة ، إلاَّ لنقرر ، بفضل منه سبحانه ، فائدةً مهمةً جداً في جملة الفوائد ، وهي أنه من يخرّب جسمه أو نفسه ، كلاً أو بعضاً ، بمحرم من المحرمات ، إنما يقرّب أجله بيده ، ويستعجل الموت قبل استكمال عمره ، مستدعياً نقمة ربه سبحانه ، ومتعرضاً لغضبه وعذابه .
ولأجل هذا ـ من وجه من الوجوه ـ كان من فضل الله سبحانه ، تحليل الحلال وتحريم الحرام : تحليل الحلال من الطيب ، المندوب والمباح ، وتحريم الحرام مـمّا يدخل الجـوف أو الأنـف أو الرئتيـن ، أو مـمّا يغرّر بالنفـس أو يخبّلـها أو يلامـس ظاهر البدن ، من رجس أو نجس أو خبث مخبّث ، أو حتى بفرح ومرح بغيـر حـق . وكل ذلك مـن عناصـر الإهلاك الدفعي أو التدريجي .
وأفضل الدواء أو العلاج لذلك كله ، سلامة القلب من الشرك ، والترقي في فهم التوحيد ، وحسن التوجّـه إلى الله تبـارك وتعـالى ، وحسن التوكل عليه له الحمد .
هذا لمن تتشكل عنده قناعـة يقينية بهذا الأمر ، علماً أنه عن طـريق العلاج ، قد يأذن سبحـانه ويتكرم بإصلاح ما فسد ، أو بترميم عضو مصاب بتأثير محرم من المحرمات ، مثل بعض الأشربة أو الأطعمة ، أو المشبوهات كالتدخين ، أو تعاطي أي منكر من المنكرات، ممارسة أو نظراً أو سماعاً . أو الإفراط زيادة عن الحـاجة ، أو التفريط إخلالاً بتـوازن النفس والجسـم وإتزانهما . فإن الإنسان المصاب كليّاً أو جزئياً بشيء من ذلك كله ، يشفى ويرمّم بالتوبة النصوح ، والإيمان الواعي لمعاني التوحيد وعمل الصالحات :
{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }(سورة يَس ، الآية 79) .
{ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }(سورة الفرقان ، الآية 70) .
وبالجملة ، فإن الله سبحانه وتعالى محيط بالجسوم والأنفس وبكل ذرة من الجسـوم ومن الأنفـس ، وبكـل جزيء من الذرة في الجسـوم والأنفس ، وكل شيء اشتمل عليه هذا الكون الذي لا يعلم أبعاده إلاَّ الله جلّت قدرته وعزّ شأنه :
{ .. أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ }(سورة فصلت ، الآية 54) .
{ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }(سورة سبأ ، الآية 3).
{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }(سورة الزمر ، الآية 62).
{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ،وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }(سورة الشعراء ، الآية 78 ـ 82)