حملة عسكرية إلى أُحُـد :
ما كتبناه لغاية الآن في هذا الموضوع : ( حكمة الله وحاكميته في أُحُد ) هو عبارة عن شرح موجز لهذا العنوان الخاص ـ العام ، ومحاولـة تحديد لإطار المعركة ـ العِبْرَة ، يتضمن مقدماتـها ومعالمها والنتائج . ففي المقدمات نبدأ بالسبب :
أما سببها ، فإن بقية من زعماء قريش ، ممن لم يقتلوا في غزوة بدر ، اجتمع رأيهم على الثأر لقتلاهم في بدر ، وأن يستعينوا بعير أبي سفيان وما فيها من أموال لتجهيز جيش قوي لقتال رسول الله (ص) . فاجتمعت كلمة قريش على ذلك ، وانضم إليهم غيرهم أيضاً ممن يسمون بالأحابيش ، واستعانوا بعدد كبير من النسوة كي يمنعن الرجال من الفرار إذا أحدق بهم المسلمون . وخرجوا من مكة وقد بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل .
وسمع رسول الله (ص) بالخبر ، فاستشار أصحابه وخيَّرهم بين الخروج لملاقاتهم وقتالهم ، والبقاء في المدينة ، فإن دخلوا عليهم فيها قاتلوهم ، فكان رأي بعض شيوخ من المسلمين عدم الخروج من المدينة ، وكان عبد الله بن أبي سلول من أصحاب هذا الرأي . غير أن كثيراً من الصحابة ممن لم يكن لهم شرف القتال في بدر ، رغبوا في الخروج ، وقالوا يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا … ولم يزل أصحاب هذا الرأي برسول الله (ص) حتى وافقهم على ما أرادوا . فدخل بيته فلبس درعه وأخذ سلاحه ، وظن الذين ألحوا على رسول الله (ص) بالخروج ، أنهم استكرهوه على ما لا يريد ، فندموا على ما كان منهم ، ولما خرج عليهم قالوا : استكرهناك يا رسـول الله ، ولم يكن لنا ذلك ، فإن شئت فاقعد . فقال رسـول الله (ص) : ما ينبغي لنبـي إذا لبس لأمته ( أي درعه ) أن يضعها حتى يقاتل(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه ابن إسحاق والإمام أحمد وروى الطبري قريباً منه 2/62 وتاريخ الطبري : 2/500 وترتيب مسند الإمام أحمد 22/52 .
ثم إن النبي (ص) خرج من المدينة في ألف من أصحابه ، وذلك يوم السبت لسبع ليال خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً من هجرته عليه الصـلاة والسلام(1) . حتى إذا كانوا بين المدينة وأُحُد ، انخزل عبد الله بن أبي سلول بثلث الجيش ، وكان يتخذ منهم ( ميليشيا ) خاصة به ، وكرَّ راجعاً وهو يقول : عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي له ، وما ندري علام نقتل أنفسنا ؟
وتبعهم عبد الله بن حزام يناشدهم الله أن لا يخذلوا نبيهم ، فلم يستجيبوا لندائه ، وقال زعيمهم : ” لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ” . في هذه الأثناء أنزل الله عزَّ وجل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ . بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } .[ 149 ـ 150 : آل عمران ] ، وأبلغ رسول الله (ص) ذلك كما أسلفنا ، إلى الذين ثبتوا معه من المؤمنين . وفي الآية الأولى كما هو واضح ، سمى الله هؤلاء الذين انشقوا : كافرين، { إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وفي الآية الثانية { بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } وعد بتوليهم بعنايته ورعايته ونصره . مما كان يجب أن يلزمهم بالطاعة لأوامر رسول الله (ص) بحرفيتها ، ويجعل كل واحد منهم بصلابة الصخر لا يلين ولا يشك ، ولا يولي الأدبار . فماذا الذي حصل ، حتى قلب الله لهم النصر إلى خذلان ؟ مما جعل بعضهم يظن الظنون برسول الله (ص) الذي أبلغهم وعد الله سبحانه ، وهم كانوا كذلك معتمدين على وعـود كثيرة منه (ص) قبل ذلك اليوم ، بأن الله سينصر الإسلام والمسلمين على أهل الشرك .
الذي حصل هو ما فصَّله سبحانه بقوله : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي جبنتم عن عدوكم وكففتم وطمعتم بالمغانم { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } . [152 : آل عمران ] . وذلك أن النبي (ص) عسكر وأصحابه في الشعب من أُحُد ، فجعل ظهور المسلمين إلى أُحُد واستقبلوا المدينة . وجعل على الجبل خـلف المسلميـن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات ابن سعد : 3/87 . وسيرة ابن هشام : 2/62 .
خمسين رامياً ، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير ، وأوعز إليهم قائلاً : ” قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا “(1) .
وألحَّ كل من رافع بن خديج وسمرة بن جندب أن يشتركا مع المؤمنين في القتال وهما إبنا خمس عشرة سنة ، فردَّهما النبي (ص) لصغر أسنانهما ، فقيل له : يا رسول الله إن رافعاً رام ، فأجازه ، فجاء سمرة بن جندب يقول : فأنا والله أصرع رافعاً ، فأجازه هو أيضاً .
وأمسك النبي (ص) بسيف فقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فأقبل أبو دجانة قائلاً : أنا آخذه بحقه ، فأعطاه إياه ، فأخرج أبو دجانة عصابة حمراء فعصب بها رأسه ( وكان ذلك شأنه عندما كان يريد أن يقاتل حتى الموت ) ، ثم راح يتبختر بين الصفوف ، فقال رسول الله (ص) : إنها لمشية يبغضها الله إلاَّ في مثل هذا الموطن (2) .
فاقتتل الناس ، وحميت الحرب ، وراح المسلمون يحسون المشركين في اندفاع مذهل .
وقتل صاحب اللواء وكان من بني عبد الدار ، فأخذ اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وما هو إلاَّ أن أنزل الله نصره على المسلمين ، فانكشف المشركون منهزمين لا يلوون على شيء ونساؤهم يدعون بالويل . وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون . فتكلم الرماة الذين كانوا يرابطون على الجبل في النزول ، واختلفوا فيما بينهم ، فنزل كثير منهم ظناً منهم بأن الحرب قد وضعت أوزارها ، وراحوا يأخذون مع أصحابهم الغنائم . وثبت رئيسهم عبد الله بن جبير مع بضعة من أصحابه قائلين : لا نجاوز أمر رسول الله (ص) . ونظر المشركون إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن سعد 3/80 وابن هشام بألفاظ قريبة من هذه وروى نحوه البخاري 5/28 .
(2) ابن هشام 1/233 وروى مثله مسلم عن طريق حماد بن سلمة . إلاَّ أنه لم يرد في مسلم : إنها لمشية يبغضها الله ( انظر صحيح مسلم : 7/150 ) .
خلاء الجبل وقلة أهله ، فكرُّوا راجعين بالخيل ، وحملوا على من بقي من الرماة، فقتلوهم وأميرهم ، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف .
ومرة ثانية كان قد أبلغ رسول الله (ص) المسلمين وعد الله بالنصر ، وقبل بدء المعركة ، حيث أنزل الله تعالى قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُـمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّـالِمِينَ}. [ 151 : آل عمران ] . ورغـم أن هذه الآية طبعت بداية المعركة بطابعها العميق ، واستقطبت المشركين فيما بعد ، في حمراء الأسد ، الغزوة التي تلت أُحُد، فستبقى كذلك سنَّةً من سنن الله تعالى في خلقه ، يرون مصاديقها في كل آن وزمان إلى قيام الساعة .
وعلى هذا الوعد المبارك من الله جلًّ وعلا ، ترتب حسم المعركة في البداية لمصلحة المسلمين ، حيث وضعوا سيوفهم في رقاب أعدائهم الذين تضعضعت صفوفهم ، مع أول صدمة صدمها إياهم أنصار الله المسلمون ، ودفع بهم ما تملكهم من الرعب الشديد ، إلى الهرب ، حتى أن النسوة كن يتصدين للهاربين يعبن عليهم جبنهم وفرارهم . وقد اشتهر عن هند بنت عتبة ، زوجة أبي سفيان ، قائد المعركة آنذاك ، قولها شعراً ، تهزج به في وجوه الفارين من المعركة ، وبعض النسوة معها يرددنه ، فمنه قولها :
عِرْسُ المُولِّيِ طَـالِقْ والعَـارُ مِنهُ لاحِـقْ
إن تَهزِمُوا نُعانِـقْ ونَفْرُشُ النَّمَـارِقْ
أو تُهْزَمُوا نُفَـارِقْ فِرَاقَ غَيـرِ وَامِـقْ
وهكذا يحاولن إرجاعهم إلى ساح المعركة ولكن عبثاً . فأصبح المسلمون مهيمنين على المكان . ولكن بدلاً من أن يتعقبوا القوم ويكسروهم شر كسرة ، انشغل أكثرهم بالمغانم وجمعها من أرض المعركة ، وتركوا علياً بن أبي طالب رضي الله عنه مع مجموعة قليلة من الفرسان همهم طاعة الله وجهاد أعدائه من المشركين ، ينقضُّون على شراذمهم كالصقور والعقبان . وبينما هم كذلك ، صاح صائح : يا خيل الله … إلتفَّ علينا المشركون بخيلهم فارجعوا وراءكم . وصائح آخر يقول : ها هم يتوجهون إلى رسول الله (ص) وقد أصبح بينهم وحده . فالتفت الأبطال الذين ثبتوا ، فإذا الأعداء يضعون سيوفهم في رقاب المسلمين . وكان أول من قتل من المسلمين من الخلف ـ بعد استشهاد ابن جبير ومن ثبـت معـه على الجبل ـ أولئك الذين عصوا الله ورسوله بنزولهم من حيث أوصاهم بالبقاء . فأبيدوا وهم منشغلون مع آخرين بجمع الغنائم . فكان أول هم بديهي لصاحب الراية ومن صدق الله معه من الفرسان والرجَّالة ، أن يعودوا مخترقين ساح المعركة، وقد عاد المشركون الهاربون ليطبقوا عليهم من أمامهم ومن خلفهم بفكي كماشة. وأعانهم الله عزَّت عزته ، حيث وصلوا إلى النبي (ص) ليجدوه جريحاً في وجهه الشريف ، ينزف دماً غزيراً وقد أحدق به الأعداء من كل جانب ، لولا بعض الفدائيين الذين نصبوا أنفسهم تروساً حوله يتلقون بأبدانهم السهام والسيوف والرماح الكافرة . ثمانية أو أقل من ذلك ، أولئك الذين ثبتوا مع رسول الله (ص) حتى النهاية ،بعد أن استشهد دونه في سبيل الله من استشهد، وقُتِلَ في سبيل الله أو في سبيل المغنم من قُتِل . أما الباقون فقد ولَّوا الأدبار في كل اتجاه تمكنوا من الهروب فيه . ولا سيما الذين صعدوا الجبل خائفين هلعين لا يلوون على شيء . وقد صوَّر الله سبحانه هذا المشهد ، ظواهره وبواطنه ، بآيات رصدت في القوم حتى الأحاسيس والنوايا الدقيقة والعميقة ، فضلاً عن الصور الخارجية لتصرفاتهم وتحركاتهم السلبية منها والإيجابية . وسنجد كل ذلك ، من سبر أغوارهم وأعماقهم وكشف نواياهم ، على اختلاف معادنهم آنذاك ، في هاتين الآيتين الكريمتين ، قوله تبارك وتعالى مخاطباً المسلمين ، وطبعاً بالطريقة القرآنية التي تقول الكثير الكثير من البيان ، بالقليل القليل من الكلام : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.[153 ـ154 : آل عمران ] .