رسول الله (ص) يقضي بإذن الله في الغنائم :
العلم من الله والإذن من الله لرسوله (ص) شرطان أساسيان لقضائه (ص) في غنائم الحرب . وسنرى أنه (ص) في قسمة غنائم حنين ، ينحو نحواً يبدو عجباً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه .
(2) رواه ابن سعد الطبقات ، وأخرجه الترمذي في سننه ، وقد رواه ابن سعد عن عاصم الكلابي عن الأشهب ، عن الحسن .
قبل التأمل فيه ، وقبل معرفة نتائجه والغاية منه . ولا سيما فيما يختص بإعطاء أهل مكة ـ الذين كانوا لفترة قريبة أَلَدَّ أعدائه ـ أكبر الحصص . في حين أن الأنصار ـ من أهل المدينة ـ الذين تفانوا في نصرة دين الله ونصرة رسوله ، والجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، لم يعطهم ما يذكر . وحتى لا نستبق الحوادث ، نقرأ ونتمعن ، دون أن ننسى روعة العدالة والرحمة وسموَّ الهدف في كل عبرة من عبر الغنائم ، غنائم حنين وقسمتها . تلك هي عدالة الله ورحمة الله ، وإشارات كريمة إلى ما أعده الله سبحانه للمجاهدين الموقنين المحبين لله ولرسوله في الدنيا والآخرة :
… وعاد رسول الله (ص) إلى الجعرانة ، وفيها السبي والغنائم التي أخذت من هوازن في غزوة حنين . فقسم السبي هناك . ثم قدم عليه وفد من هوازن المسلمين ، وسألوه أن يردَّ عليهم أموالهم وسبيهم . فقام رسول الله ( ص) في المسلمين ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فإن إخوانكم قد جاؤوا تائبين . وإني رأيت أن أردَّ إليهم سبيهم ، فمن أراد منكم أن يطيِّب ذلك فليفعل ، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل(1) .
فنادى الناس جميعاً : قد طيَّبنا ذلك يا رسول الله .
وسأل رسول الله (ص) وفد هوازن ـ فيما رواه ابن إسحاق ـ عن مالك ابن عوف ما فعل ؟ فقالوا هو بالطائف مع ثقيف . فقال لهم أخبروه أنه إن أتى مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل . فأخبر مالك بذلك . فجاء يلحق برسول الله (ص) حتى أدركه بين الجعرانة ومكة . فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل . وأسلم فحسن إسلامه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي بأن يردَّ السبي بشرط أن يعطى عوضه فيما بعد .
وخصَّ النبي المؤلفـة قلوبهم ـ وهم أهل مكة ـ بمزيد من الغنائم والأعطيات ، يتألف بها قلوبهم على الإسلام ، فوجد بعض الأنصار من ذلك وقالوا: غفر الله لرسول الله ، يعطي قريشـاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم(1).
فبلغ ذلك رسـول الله (ص) فأرسل إلى الأنصار فاجتمعوا في مكان أعدَّ لهم ، ولم يدع معهم أحداً غيرهم ، ثم قام فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :
يا معشر الأنصار ، ما قَالَةٌ بلغتني عنكم ؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألَّفَكم الله بي ، وكنتم عالة فأغناكم الله بي . ( كلما قال لهم من ذلك شيئاً قالوا بلى ، الله ورسوله أمنُّ وأفضل ) ثم قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصـار ؟ قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل . فقال (ص) :
أما والله لو شئتم لقلتم ، فَلَصَدَقْتُمْ ولَصُدِّقْتُمْ : أتيتنا مكذَّباً فصدَّقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك فصاحوا : بل المن علينا لله ولرسوله .
ثم تابع رسول الله (ص) قائلاً : أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل لعـاعة(2) من الدنيا تألَّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به . والذي نفس محمّد بيده لولا الهجرة لكنت أمرءاً من الأنصار ، ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً ، لسلكت شعب الأنصار ، وإنكم ستلقون أثرة من بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري ورواه الطبري والبيهقي وابن سيد الناس كلهم عن طريق ابن إسحق بمزيد من التفصيل .
(2) اللعاعة : بقلة خضراء تستهوي العين ، شبه بها الدنيا …
فبكى القوم حتى اخضلَّت لحاهم ، وقالوا رضينا بالله ورسوله قسمـاً ونصيباً (1) .
وتبعه (ص) ناس من الأعراب يسألونه مزيداً من العطاء ، حتى اضطروه إلى سمرة تعلَّق بها رداؤه ، فالتفت إليهم قائلاً ؛ أعطوني ردائي أيها الناس ، فوالله لو كان لي بعدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم ، ثم لا تجدونني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً .أيها الناس والله ما لي من فيئكم إلاَّ الخمس ، والخمس مردود عليكم .
وأدركه أعرابي فجذبه (ص) جذبة شديدة من بُرْدِهِ ، وكان عليه برد نجراني غليظ ، حتى أثرت حاشية الرداء في صفحة عنقه ، وقال له ، مُرْ لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه فضحك ، ثم أمر له بعطاء(2) .
قال ابن إسحـاق : ثم خرج رسول الله (ص) من الجعرانة معتمراً ، فلما فرغ ، انصرف راجعاً إلى المدينة ، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد .