بسم الله الرحمن الرحيم
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ( حم ، عسق ) عندنا اليوم تفسير سورة الشورى وتسمى كذلك سورة ( حم ، عسق ) فقوله تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم ( حم ، عسق ، كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( حم ، عسق ) تُكتب أحياناً كلمة واحدة ولابأس في ذلك وتُكتب في كلمتين ( حم ) وتعتبر آية و( عسق ) وتعتبر آية ومن لا يعتبرها كذلك ويعتبر هذه إسم وهذه إسم، ولو كنّا تكلّمنا كثيراً في موضوع مفاتيح السّور مثل ( الم ) (كهيعص ) ( حم ) فلا بدّ أن نوجز قليلاً عن ( حم ، عسق ) مذكرين بخلاصة ما نقوله عن هذه المفاتيح أو الأحرف النورانيّة كما تُسمى غالباً ف( حم ، عسق ) من سور الحواميم والحواميم هي كلّ سورة تبدأ ب( حم ) وميزة هذه أنّ عليها زيادة (عسق ) عن بقية السور التي تبدأ ب( حم ) هذا أولاً وفي الجوهر أن هذه المفاتيح أو الأحرف النورانية توصّلنا بفضل من الله تبارك وتعالى أنّها هي المثاني وفيها ثلاث معانٍ، المعنى الأول أن فيها ثناءً على الله تبارك وتعالى في مضامينها وفي أسرارها، المعنى الآخر أنّ أوائلها في عالم الملكوت ومثانيها هنا على الأرض في هذا القرآن المجيد، وقد ذكرنا هذا مفصّلاً في كتاب ” الحكمة الإسلامية بُحوث من مقتضيات العصر “، والأمر الثالث أنّها أزمّة للشياطين واحدتها مثنى، في الأمر الأول مثاني من الثناء على الله وواحدتها مثنى من الثناء على الله، والثانية أنّ أوائلها في عالم الملكوت ومثانيها في الأرض في هذا القرآن وواحدتها مثنى، وثالثتها أنّها أزمّة للشياطين، وواحدتها مثنى والمثنى هو الزّمام، وذكرنا أن فيها خيراً عظيماً أولاً لقارئها ولو لم يكن يعرف مضامينها ومعانيها وفي أكثر من هذا نفعٌ لعامة المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها وفيها أسرارٌ أُخر تتجلى للقارئ أو لا تتجلى وإنّما تكون فاعلة لدى قراءتها فإذاً هذا كافٍ ومن شاء فليُراجع تفصيل عن هذه المفاتيح المباركة فيما كتبناه بفضل من الله تبارك وتعالى فإذاً بسم الله الرحمن الرحيم ( حم ، عسق ، كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) قُرأت كذلك يوحَى ولكن هذه القراءة هي الأكثر عقلانية، كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك يا رسول الله يا محمد وكذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك يا أي وليّ من أولياء الله تبارك وتعالى، يُوحي إليك الله كما يوحي إلى الذين من قبلك ( اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) العزيز أي المتفرّد بعزته وبقدرته وبحاكميته، والحكيم قلنا فيها معنيان من الحكمة وهو سبحانه معلّم الحكمة لخلقه والمعنى الآخر من الإحكام يعني الضبط والدّقة في الخلق ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) العليّ المستعلي على كلّ ما “خلق” وعلى كلّ من خلق المستعلي بفردانيّته وبوحدانيّته وبأسمائه الحسنى والعظيم الذي لا يشاركه في عظمته شيء و( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ) النون نون التأنيث هنا لاحقة لما ولمن معلوم أن كلّ سماء تحتها أرض وبالعكس كلّ أرض فوقها سماء وقوله تبارك وتعالى ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ) من فوق الأراضين والأراضين جمع أرض ولماذا ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ) لتسبيح الملائكة كثرة التسبيح وضجيج الملائكة بالتسبّيح ( بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) وباستغفارهم لمن في الأرض من البشر، من البشر الخطأة، من البشر العصاة، وهذا لطفٌ من الله غرسه الله تبارك وتعالى في الملائكة ليستغفروا لأهل الأرض، وإلا كما هو معلوم، لولا ذلك لكان غضب الله وقع، كلّ يوم يقع على أهل الأرض ويدمر في أماكن المعصية، في أماكن الكفر، في أماكن الشرك، يدمر الناس تدميراً، ولكن الله عزّ وجلّ يمهل الناس لموعدٍ هم لاقونه لا محالة فإذاً ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) هذا تقرير من الله تبارك وتعالى ويجوز أن يكون يجري على لسان الملائكة ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) يا محمد يا رسول الله ( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) يا أيها المبلّغ ما كُلّفت به ( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) يا أيها الداعي إلى الله ( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) يا أيها المؤمن الموقن الحريص على طاعة الله، وعلى أن يكون الناس جميعاً كذلك حريصين على طاعة الله، فما أنت بوكيل على هؤلاء الناس ولا أنت مسؤولٌ عن هدايتهم فلا تحمل نفسك عنتاً وإذاً ( اللَّهُ حَفِيظٌ ) على هؤلاء الناس يحفظ أعمالهم ويحافظ على وجودهم بالشكل الذي هو يراه مناسباً بحكمته أما أنت فشأنك التبليغ وشأنك أن تكون نذيراً وبشيراً ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) وهذه الآية السابعة من سورة الشورى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) فيها معنيان، المعنى الأول الذي هو من صميم اللغة عربياً واضحاً جليّاً، نقول في يوم الصحو في أيّام الشتاء يوم تكون السماء فيه صافية هذا يومٌ عربيّ وهذا كلام صحيح لغةً، والمعنى الآخر أن هذا القرآن أُنزل على العرب الذين لم يكونوا أمّة فيما قبل ،كانوا مقطعين قبائل وعشائر وإنّما وحّدهم بفضل من الله دين الإسلام الذي أنزله الله على محمد (ص) ووحّدهم هذا القرآن المجيد فأصبحوا أمّة وأمّة عظيمة ذات كيان تركت آثاراً تكاد تكون خالدة في التاريخ يذكرنا هذا بقول أحد الشعراء المنصفين المسيحيين وهو رشيد سلامة الخوري الشاعر القروي ” يا للتمدن عمّ الكون من بدوي ” أي من محمد (ص) فإذاً (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى ) مكة المكرمة ( وَمَنْ حَوْلَهَا ) القرى التي حولها وصولاً إلى آخر قرية على الكرة الأرضية كلّ هذه القرى تقع حول مكة التي كرّمها الله ( وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ) ( يَوْمَ الْجَمْعِ ) يوم الحشر حشر الخلائق يوم الفصل الذي سيتمّ فيه الفصل بين الناس كفريقين اثنين ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) أي في نار جهنم ونعوذ بالله من نار جهنم وفي الآية الثامنة ( وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ( وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) مؤمنة وأدخلهم الجنّة وإنّما يكون هذا الأمر أمراً قهرياً، يكون أمراً جبرياً، يعني يسقط فيه التكليف، وإنّما المعوّل بين الناس على التكليف على الإختيار على الحرّية الرائعة التي أعطاها الله تبارك وتعالى للإنسان وشرح له المهمات التي سيواجهها بالتكليف وشرح له الأمانة التي سيحمّلها للإنسان برضا الإنسان وبإختيار الإنسان وبطلب من الإنسان قول الله عزّ وجلّ ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا سورة الأحزاب الآية 72 ) ( كان ظَلُومًا جَهُولا ) الإنسان الذي لم يحسن حمل الأمانة، لم يؤدّها كما يجب، أما الإنسان الذي كان في طاعة الله وكان مؤمناً وكان تقياً وكان ورعاً فقلنا أنه يرفع الله درجته حتى يجعل درجته أفضل من درجة الملائكة وهذا أمر إختياري عند الناس، وهل يستطيع كلّ إنسان أن يكون كذلك؟ نعم كلّ إنسان يستطيع أن يكون كذلك من حيث المنزلة عند الله ومن حيث القرب وما عليه إلا أن يكون في طاعة الله عزّ وجلّ، لا يًشرك ولا يكفر ويدعوا إلى الله مُوحداً عابداً تقياً نقياً إلى آخر الصفات التي هي لأهل اليقين والمؤمنين فإذاً ( وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ ) والمشيئة هنا ذكرنا أنّها مشيئة الله تسبق مشيئة العبد ولكنّها تترّتب على مشيئة العبد أصلاً، إنّما لكبرياء الله عزّ وجلّ لم يدعْ للإنسان حرّية أن يشاء سواءً إذا شاء كفراً أو شاء إيماناً لكبرياء الله تبارك وتعالى وهو يعلم مقدّمات كفر الإنسان الذي صمّم على الكفر الذين ( زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ سورة الصف الآية 5 ) ويعرف مقدّمات الإيمان عندما يريد الإنسان الإيمان فيسبقه بمشيئته تبارك وتعالى إلى الإيمان ( والذين اهتدوا زدناهم هدى ) صدق الله العليّ العظيم ( وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ( مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ ) يتولاّهم في أمورهم ويتولاّهم في علمهم وتوجيههم لأنهم رفضوا هذه الولاية ورفضوا هذا التوجيه وتولّوا غير الله ( مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ولا من ينصرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، قد ينصرهم في الدنيا على الباطل وإنما النصرة بالحقّ لا تكون إلا من الله تبارك وتعالى ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ) ( أَمِ ) هنا بمعنى بل فغالباً ما تأتي أم في القرآن بمعنى بل ( اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ) من دون الله تبارك وتعالى اتّخذوا أولياء تارةً من الحجر وتارةً من الأصنام والأوثان، وتارةً من البشر، وكثيراً ما يتّخذون أولياء من البشر أولياء من دون الله، الله عزّ وجلّ يقول في سورة العنكبوت ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) فما تنفعهم هذه الولاية؟ أية ولاية إذا كانت ولاية من دون الله تبارك وتعالى ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) الله اكبر والعزّة لله ولله الحمد. فالله هو الوليُّ الحقُّ، وهو الحاكم الحقُّ، وهو الرازقُ الحقُّ، هو الناصر الحقّ، هو الحافظ الحقّ، إلى آخر ما هنالك من الأسماء الحسنى التي هي لله تبارك وتعالى ( وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى ) وهو المُتفرّد في هذا الشأن وفي كثير من شؤونٍ أخرى غير إحياء الموتى ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) في المطلق وبدون أي استثناء وهذه الآية التي تتكرر كثيراً في القرآن الكريم يجب على كلّ قارئ للقرآن أن يتوقف عندها مليّاً ويتأمّل فيها كثيراً، ليرى ويدرك ويتحسّس مدى قدرة الله عزّ وجلّ التي لا تُحاول ولا تُطاول ولا يقف لها شيء في الوجود قدرة الله تبارك وتعالى. نتابع في الآية العاشرة ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ ) أيّها الناس فالحكم الحقيقي فيه والعدل الحقيقي فيه في الدنيا والآخرة هو لله عزّ وجلّ فإذا رجعتم في خلافاتكم في الدنيا إلى حكم الله إلى ما أنزل الله من أحكام وشرائع فأنتم من الفائزين وأنتم على صراط الله المستقيم وكذلك إذا رجعتم إلى حكمه في الآخرة فمن رجع إلى حكم الله وعمل بحكمه فكما قدّم الله عز وجل في آية هو من أهل الجنّة وإذا لم يفعل فهو من أهل السعير ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي ) الله الذي له القدرة المطلقة والذي هو الوليّ والذي يحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) وما ينقصني إذا توكّلت على هذا الربّ المجيد، على هذا الرب العظيم؟ ماذا ينقصني في الدنيا؟! ويا فوزي ونجاتي في الآخرة! ما دمت أتوكّل على الوليّ وعلى العليّ الأعلى تبارك وتعالى الذي هو قدير كما قال في الآية السابقة الذي ( هُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فإذاً عليه توكّلت وإليه أُنيب إليه أتوجّه وإليه أتوب عن أخطائي وهو حسبي أي أنّه هو الكافي وحده لا شريك له. ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) من عظائمه التي يستحيل أن يشاركه فيها أحد، أنّه ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي خالقهنّ ( جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) الله أكبر والعزّة لله ولله الحمد ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) خالق السماوات والأرض ( جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) ذكوراً وإناثاً من الناس ومن الأنعام أزواجاً ذكوراً وإناثاً، تتنامى الأنعام، وتتوالد لمصالحكم ومنافعكم كما ترون سابقاً في التاريخ، ولاحقاً في عصرنا وفي المستقبل ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) الذرء هو الخلق وإظهار الخلق، تبقى ( فِيهِ ) الهاء راجعة لمن؟ هنا فرضيات، أنها راجعة للجعل، جعل هذا كلّه وذرأكم في هذا الجعل، أو أنها راجعة للوجود، خلق الوجود وذرأكم في هذا الوجود لكن في الحقيقة ولقد تفضّل الله تبارك وتعالى علينا وعليكم بتدقيق أكثر في هذا الموضوع وأذِن لنا ودائماً بفضل من الله وكرم ورحمة منه أن نتصدى لهذا الأمر وأن نردّ على بعض الفرضيات الخاطئة، وأن نتحدث بشيء من التفصيل المسند إلى النصوص القرآنية وإلى العقل بحيث لا يتعارض العقل مع النص ولا النص مع العقل وذكرنا أنّ أفضل آية في القرآن الكريم تشرح هذه الآية هي الآية الثالثة من سورة الحديد قوله تبارك وتعالى ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) إلى أن يقول في الآيات التي بعدها ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ ـ الله معكم ـ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أعتقد هذا كافٍ الآن حتى لا نطيل ومن شاء فليراجع كلامنا بشيء من التفصيل في كتاب مفتاح المعرفة وفيه شطحات أهل العرفان فإذاً ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) في تصّورك عن الله تبارك وتعالى في محاولة أن تستشعر صورة لله أن تتوهّم صورة لله شكلاً لله كل ما تتوهّمه وكل ما تتصّوره وكل ما تحاول أن ترسمه في ذهنك وفي خيالك وفي وهمك مردودٌ عليك لأنك إنما تتصوّر بالأدوات التي عندك مما ترى في هذا الوجود وبالمعاني التي عندك، والتي اكتسبتها من الكون ومن الطبيعة ممّا حولك من مفردات ومعاني اللغة وكلّها هذه لا تخدمك في توهّم صورة أو شكل أو شبه لله لأنه ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وصدق الله العليّ العظيم وفوق هذا كلّه ( هُوَ السَّمِيعُ ) السامع لكل ما في الوجود وبكل ما يُسمع ( البَصِيرُ ) المبصر كذلك لكلّ ما في الوجود وبشكل دفعيّ قوله تبارك وتعالى ( … لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ سورة سبأ الآية 3 ) ننتقل إلى الآية الثانية عشرة ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي مفاتيح والمقاليد جمع مقلاد والمقلاد هو المفتاح ( لَهُ ) لله تبارك وتعالى مفاتيح السماوات والأرض علماً لمن شاء أن يتعلم ومعرفةً لمن شاء أن يعرف ورزقاً لمن شاء أن يسترزق وقوّة لمن شاء أن يستقوي، وقدرة لمن شاء أن يقدر، وإلى آخر ما يمكن أن يتطلّبه الإنسان أو المخلوق من الله تبارك وتعالى فــلله مقاليد السماوات والأرض، كيف يحصل عليها الإنسان؟ بالدّعاء وفي الدّعاء يجد بعض هذه المقاليد أمّا المقاليد الحقيقيّة المرسومة فهي في هذا القرآن المجيد، عرفها قارئ القرآن أم لم يعرفها فبمجرّد أن يقرأ القرآن وهو موقن أنّ هذا كلام الله فهو سيمرّ على هذه المقاليد قصد أم لم يقصد وسيستفيد منها في شتى مجالات المطالب علماً ومعرفةً ورزقاً وصحةً وعافيةً ورشاداً وسداداً وفلاحاً في الدنيا والآخرة ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ) وليس الرزق هنا هو حصراً بالمال ولا حصراً بالطعام والشراب صحيح هذا وارد وهذا من الرّزق وإنّما الرّزق من الله هو أعمّ وأعظم وأوسع من هذه المحدودات في جملة الرّزق أن يرزق الله الإنسان وعبده الصالح علماً وفقهاً ودراية ومعرفة والمعرفة هي رأس كل العلوم ولا سيما معرفة الله تبارك وتعالى ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ) يبسط لمن يشاء أي يوسّع على من يشاء ويقدر ويضيّق على من يشاء ولله حكمته وهو أدرى بمصالح وحاجات العباد وبالثواب وبالعقاب للعباد ( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وهذه كما قلنا عن آية عن لزوم التوّقف عند قول الله عزّ وجلّ ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) كذلك ينبغي أن نتوقف عند هذه الآية ( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وأن نتأمل فيها لندرك عظائم علم الله الذي قلنا عنه يوماً عندما تحدثنا عن موسى وصاحبه الذي يسمونه الخضر غالباً ولم يسمّه القرآن، أنّ أول درس أعطاه صاحب موسى لموسى(ع) عندما كانا على ظهر السفينة، وأول ما جلسا على ظهر السفينة أنّ طائراً نزل من الجوّ فأخذ من البحر شيئاً من الماء مُجاجةً من الماء فألفت معلّم موسى موسى لهذا الأمر ” أرأيت كم أخذ الطّائر من هذا البحر المحيط؟ قال مُجاجة قليلة فقال صاحب موسى علم البشرية كلّها بمقدار ما أخذ هذا الطائر بالنسبة إلى هذا البحر المحيط، فإذاً ( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ننتقل إلى الآية الثالثة عشرة ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يا رسول الله يا محمد وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) ( شَرَعَ لَكُم ) شرع من الشريعة والشريعة في الأصل هي النهر وهي المشرعة، في اللغة المشرعة والشريعة هي خطّة في الأرض يتخذها النهر في مجراه، استُعيرت لتشريع ولإنزال هذا الدّين وتكليف البشرية إذاً ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يا رسول الله يا محمد وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى عليهم السلام أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) فإذاً من هنا نعلم أنّ الدّين في الأصل هو واحد والدّين عند الله الإسلام منذ آدم وكما نصّ هنا الله عزّ وجلّ منذ نوح وبقية التفصيل في الآية الكريمة فإذاً الدّين واحد وإنما اختلفت الشرائع بين نبيّ ونبيّ تبعاً لظروف كلّ نبيّ من حيث الزمان ومن حيث ثقافة البشر سواء كان أيام نوح كانت ثقافة مختلفة عن الثقافة التي تلتها عند موسى ومختلفة عند عيسى المسيح (ع) وأرقاها كانت عند محمد (ص). الثقافة التي توصّلت إليها البشرية والمستوى الفكري الذي توصّل إليه البشر، لذلك كان القرآن تبعاً لهذا التميّز بين العصور وتبعاً لتقدم الفكر البشري نسبياً في مجال المعاني وفي مجال المعرفة الكتب السماوية كان أفضلها ما أنزل على محمد (ص) إلى قيام الساعة ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) المطلب في الأساس والمقصد والغاية ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) أيها الرسل ويا أتباع الرسل ( وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) والذي حصل أنّ الناس تفرّقوا فيه ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) يا محمد ويا أي موحد في تاريخ البشرية ويا أي موحد بعد محمد، يكبر على المشركين ما تدعوهم إليه من التوحيد، يعظُم عليهم ينكرونك يعادونك يكذبونك ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) من يشاء ما دام أنّ الناس وما دام أنّ أهل الشرك مصرّين على الشرك فهذا شأنهم ولكن الله يهدي إليه ( ويَجْتَبِي ) ويصطفي ( مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) من يتوجّه إلى الله بقلبه وعقله وكل طاقاته وإمكاناته (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) عدواناً منهم وطغياناً منهم وضلالة منهم ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي أقام عليهم الحدود في الدنيا وجعل لهم يوماً فصلاً يُدخل فيه الكفار والمشركين والمنافقين والفجّار نار السعير كما مرّ معنا ويدخل أولياءه الأتقياء المؤمنين والموقنين دار النعيم ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ) هنا نلتفت لهذه الآية فلنتأمل بقوله تبارك وتعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ) لفي شكٍّ من الكتاب مريب هذا ينسحب على اليهود بعد نزول التوراة، كانوا وما زالوا معظمهم في شكٍّ من كتابهم مريب يرتابون بصحة الكتاب وبصّحة كونه منزل من لدن الله تبارك وتعالى ثمّ أتى بعدهم الإنجيل الذي أنزل على عيسى (ع) ففرّقوا الأناجيل وجعلوها أربعة وكذلك هناك إنجيل خامس مرفوض عندهم ومقبول عند المسلمين وهو إنجيل برنابا كذلك هؤلاء كانوا في شكّ مما أنزل إليهم مريب في شكّ من الكتاب ولو لم يكونوا كذلك لما اختلفت الأناجيل، ولأنهم أشركوا بالله وجعلوا له ولداً فمعنى هذا أنهم كانوا في شكّ مريب من كتابهم لأنه يستحيل أن يكون في هذا الكتاب إلا دين التوحيد الذي أنزل على موسى (ع) والذي أنزل على عيسى (ع) والذي أنزل من قبل على نوح (ع) وهو الدين الحنيف دين التوحيد الذي أنزل على محمد (ص) فإذاً ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ ) كذلك في المسلمين كثيرون هم مرتابون بكتاب الله منهم من يقول هذا جهاراً من يُصرّح بهذا ولا يستحي وقد انتهجوا مناهج عدّة فيها الإلحاد وفيها التشكيك بكتاب الله وهذه المذاهب معروفة في الدنيا اليوم وحتى في ساحاتنا وفي كلّ قرية تجد أناس من الذين اتبعوا مناهج الشرك هذه ومناهج الكفر ومناهج الإلحاد ومناهج عدم التصديق بكتاب الله والإرتياب فيه وهم مُصرّح لهم في الدّول لهم أحزابهم ولهم تنظيماتهم ولهم وقاحاتهم ولهم منابرهم التي يتكلمون منها ويعبرّون عن هذا اللّون من الكفر والإلحاد فإذاً ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ ) هم هؤلاء المسلمون هم ورثة الكتاب هم ورثة القرآن وإنّما تخلوا عن القرآن وشكّوا بالقرآن وارتابوا فيه واتبعوا أهواءهم مما صنّف لهم أمثال كارل ماركس ولينين وفريدريك انكليز وفيلسوف القوى عند الجرمان نيتشيه الذي دعا إلى ألوهة العقل وجون بول سارتر الذي دعا إلى الوجودية صاحبته سيمون دي فووار هؤلاء المشاهير في عصرنا هذا وما قبل عصرنا وما بعد عصرنا إذا بقي هناك عصرٌ قبل قيام الساعة على أنّنا نقول أنّ أيام الدنيا قليلة وأنّ التفكير بعصور لاحقة مما تدفعه أشراط السّاعة التي تحدثنا عنها والتي كشفها لنا الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ ) فلئن في المجتمع في المجتمعات البشرية كفرٌ كثير وإلحاد كثير وتشكيك في كتاب الله وإرتياب في كتاب الله وإلحادٌ بالله لكل هذه الأسباب ولكثرة الناس هؤلاء والذين يعدون بالملايين وبالمليارات ( لِذَلِكَ فَادْعُ ) أيها الداعي إلى الله ( وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) فادعُ إلى الله وادعُ إلى كتاب الله وادعُ إلى آيات الله وادعُ إلى توحيد الله ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ) أهواء هؤلاء وأمثالهم ( وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ) قلها بيقين ( وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ) شئتم أم أبيتم ( لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ) هؤلاء الذين خاصموك في الدين خاصموك في التوحيد خاصموك في كتاب الله شكّكوا بكتاب الله وارتابوا فيه هؤلاء خصوم هؤلاء هم أعداء الله ليس لك حجّة عليهم لأن حجّتك لم يقبلوها فعليك أن لا تقبل حجّتهم ( لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) وبينكم في يوم القيامة يوم الحساب يوم الحشر يوم الفصل ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) له الحمد وله الشكر ننتقل إلى الآية السادسة عشرة قوله تبارك وتعالى ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ ) الذين يجادلون المُحاجّة المجادلة ( يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ ) في هذه الآية تبادر هو الأولى وهي أن الحجاج أو المجادلة أو المخاصمة هي عن الله تبارك وتعالى عن وجود الله، هذا وارد يُحَاجُّونَ يجادلون في وجود الله، عن وحدانية الله وفردانيته، هذا وارد عن التوحيد وعن قدرات الله تبارك وتعالى عن أسمائه الحسنى هذه مُحاجّة في الله، الله عزّ وجلّ يقول ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ ) في هذا ويجادلون في هذا ( مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ـ لله ـ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ ) مردودة، خاسرة، ليس فقط مردودة وإنّما مردودة خاسرة وكيف اُستجيب لله تبارك وتعالى؟ في الحقيقة منذ بزوغ فجر البشرية والله يُعبد منذ آدم يُعبد عبادة نبيّ ثمّ تأتي العصور والقرون والله يبقى يُعبد إنّما في حالات مختلفة، تارة في تحويل العبادة إلى وثنية مع عبادة الله صنميّة مع عبادة الله، يعبدون الأصنام والأوثان زلفة قربة إلى الله تعالى وتضيق المعارف، كلّما تقدّمت العصور كلّما ضاقت المعارف عن الله حتى يرسل نبيّاً أو رسولاً ينقذ الناس من الجهالة ومن الشرك ويدعوا الناس إلى التوحيد فإذاً ( مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لله ) الذين يجادلون في الله ( حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ ) في عصرنا الحديث نعلم أن كثيراً من الناس ولا سيما في الإتحاد السوفياتي أُجبروا أكثرهم على الإلحاد وأُجبروا تحت وطأة القتل وهدم البيوت على رؤوسهم بأيدي الفريق الذي ألحد مُتتبعاً فلسفة فريدريك أنكليز الرجل الإنكليزي الذي هو أول من قال في الشيوعية ثمّ كارل ماركس ثم لينين الذي قال ( الدّين أفيون الشعوب ) وهؤلاء مع الجمهوريات التي ضمّوها قسراً إلى الإتحاد السوفياتي إلى روسيا وسميت بعدها جمهوريات الإتحاد السوفياتي، هذه الجمهوريات بشكلٍ أو بآخر حُوّلت إلى الإلحاد أي إلى الكفر بالله لدرجة أنّه كان إذا أحد الكُتاب أو المفكرين كتب كلمة الله في كتاباته اعتُقل وحُوكم أو أُعدم وهناك أسماء كثيرة مرّت في هذه التجربة الساخنة فإذا في هذه الآية إجابة على هذا الحال ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) ونحن نرى أن لهم عذابٌ شديد في الدنيا والآخرة، فهم أنكروا الله وتنكّروا لله وبقية الأمم ظلّت على إيمانها بالله، وعلى ولائها لله بنسبة أو بأخرى فهذا وجه، الوجه التبادري من الآية بحسبان الظّهور اللغوي أُعيد الآية ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) وجه آخر للآية هو (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ) في إتّباع كتبه المُنزلة التوراة والإنجيل ثمّ القرآن، استجيب لله لوحدانية الله ووجود الله ولقدرته ولحاكميته ولخالقية الله إلى آخر ما هنالك من معاني وفي الكتب السماوية وعد القرآن للقرآن شأن آخر فاستجيب لله ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ) أنزلت هذه الكتب بخلاف ما في هذه الكتب ( حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) ثمّ الوجه الثالث بعدما أنزل القرآن الكريم على محمد (ص) فكان قد كفر اليهود بما لديهم وتشوّشت التوراة وكذلك تعددت الأناجيل عند المسيحيين وأنزل القرآن وكان القرآن يدعوا إلى دين الإسلام الدّين الحنيف ويذكّر أن هذا الدّين أول ما أنزل على آدم ثمّ بقية الأنبياء نبيّاً فنبيّ ورسولاً فرسول، فإذاً ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ ) في دّين الله ( مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ) ولكتابه الكريم ولرسوله (ص) الذين يحاجون ( حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ ) مردودة خاسرة كذلك ( عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) فالآية تحتمل كل هذه الأوجه.
إذاً الآية السابعة عشر التي بعدها قوله تبارك وتعالى ( اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) ففي الآية السابقة ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ ) التعريف عن الله العظيم قوله تبارك وتعالى ( اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) الكتاب كناية عن كلّ الكتب السماوية التي أنزلت تفصيلاً وحصراً هذا الكتاب المهيمن على ما أنزل من قبله. فإذاً الله هو الذي أنزل الكتب وأنزل هذا الكتاب المهيمن على ما سبقه من الكتب أنزله بالحقّ بالتعليم الحقّ وبالشريعة الحقّ والميزان مفعول به معطوف على المفعول الأول الذي هو الكتاب والميزان يعني العدل فأنزل الكتاب وأنزل مفهوم العدل أنزل سُنة العدل لدرجة أن بعض المفسّرين يقولون في تجسيم الميزان أنه أنزل على الناس هذه النعمة الكبرى التي هي الميزان الذي يزينون به أشياءهم وأغراضهم وسلعهم وحبوبهم وتجاراتهم فأنزله للناس وعلّمهم استعماله، لابأس بالقضية ولكن أن تكون القضية أعمّ من هذا، لأن هذا ميزان العدل الذي يزن الناس به أشياءهم والميزان الذي ويزينون به أفكارهم وإعتقاداتهم هو ميزان العقل من باب أولى أن يكون هذا أهم وأعمّ وهذا كذلك أنزله الله تبارك وتعالى على عباده وعلّمهم كيف يستعملونه. وكيف يفرّقون به بين الحقّ والباطل وبين الخير والشرّ وبين السلب والإيجاب إلى آخر ما هنالك من المتناقضات فإذاً ( اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) لماذا هنا أدخلت السّاعة في هذه الآية لأنها لها علاقة وثيقة بالعدل لأن قيام الساعة سيقوم على عدالة الله تبارك وتعالى ثمّ إلفات الناس وتحذيرهم إلى وجوب أن يكونوا دائماً مستعدين لقيام الساعة لأنهم لا يدرون متى ميعادها، ولا يدرون متى ميقاتها، ولا سيما الناس المعاصرين في هذا القرن الخامس عشر الهجري، الواحد والعشرين الميلادي فالناس في هذه الأيام هم أعظم مسؤولية أمام الله من جميع العصورالسّالفة أعظم مسؤولية بالإهتمام بالساعة وبقيام الساعة لأنهم يعيشون أشراطها كما قدّمنا أكثر من مرة وفي الآيات التي تتصل بأشراط الساعة.
فإذاً ( لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) لعلها ستقع قريباً ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا ) الآية الثامنة عشرة ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) يستعجل بالسّاعة الذين لا يؤمنون بالسّاعة الذين يجهلون أهوالها الذين يجهلون أنها يوم تقوم يشيب لها الأطفال، يعني في هذه الأيام مهما جرى من الأحداث الكبرى والحروب والقصف والخسف والزلازل نرى الأطفال لا يشيب شعرهم يعني الأطفال في سنّ السنتين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة أو أقل أو أكثر لا تشيب شعورهم ورؤوسهم الذي شعره أسود يبقى أسود والأشقر يبقى أشقر وهكذا، ولكن عند قيام السّاعة تشيب رؤوس الأطفال لشدة ما فيها من الهول ومن الفزع ومن المفارقات العجيبة ومن الأصوات الأعجب، الذين لا يؤمنون بالسّاعة لا يتحسّبون لهذه الأهوال فيقولون لتقم السّاعة ويهدّدوننا بالسّاعة ويذكرون قيام السّاعة عن المؤمنين، الله عز وجل في القرآن السّاعة السّاعة فلتقمْ السّاعة فهذا أمرٌ لا يهمنا كثيراً فهذا إستعجال بالسّاعة وهذا من مستدعيات غضب الله على هؤلاء الناس، بينما الذين يؤمنون بالسّاعة ويعرفون أبعادها النسبيّة وأهوالها ومخاوفها وأبعادها النسبيّة يخافون منها ويتحسّبون لها ويخشونها ويستعدّون لها بالتقرب إلى الله وبالقيام بالفرائض وبما أوجب الله عليهم من عبادات وتعاليم فتراهم مشفقون منها والإشفاق هو الخوف والتحسّب ( وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ) في مقابل أهل الباطل الذين يكذّبون بوقوعها أو يشكّكون فيها ( أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) المُماراة يعني التشكيك والتردد في حسم الأمور، الذين يمارون في الساعة، الذين يشكّكون في السّاعة لفي ضلالٍ بعيد والضلال يؤدي إلى غضب الله وإلى الخلود في عذاب الله.
( اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ ) هذه رحمة من رحمات الله عبر هذه الآيات الكريمات إلفاتة إلى قراء القرآن، إلفاتة إلى المؤمنين أن الله لطيف والأمر لله متعلّق بالرزق في الآية ( لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء ) أما عن اللطف ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ سورة لقمان الآية 16) هذه دلالة على ما هو لطف الله أن تكون حبّة من خردل وحبّة الخردل دقيقة جداً جداً وأن تكون هذه الحبّة في صخرة من صخور جبال الدنيا أو تكون هذه الحبّة في السماوات في نجمة في كوكب في شمس في قمر في مجرة من المجرات، أو في الأرض في بحرها في برّها في أجوائها أينما تكون هذه الحبّة الصغيرة جداً والدقيقة جداً من الخردل ( يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ) في الليل أو في النهار هذا اللطف هذا دليل على لطف الله ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) هنا الله لطيف بعباده في ما يرزقهم من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون كيفية الرزق، مقادير الرزق المتوافق مع حاجاتهم، المتوافق مع أسئلتهم وأدعيتهم، كيف يسألون الله، كيف يتعاملون مع الله، كيف ينفقون ما يؤتيهم من زيادة من الرزق، كيف إذا أنقص عليهم، الله عزّ وجلّ عليهم ابتلاهم بالقلة كيف يتصرّفون (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ) يبتليهم يعطيهم يزيدهم وينقص عليهم ولكن هو دائماً يرحمهم ويعمل ما يصلحهم في الدنيا وفي الآخرة ( يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ ) اللطيف لا عن ضعف وإنّما اللطف عند الإنسان فيه شيء من الرقة صح، اللطف فيه شيء من الرقة ولطف الله كذلك وإنما في نفس الوقت الله هو القوي العزيز الذي إذا لَطُف لا تزول قوّته وجبروته وإذا تجبّر لا ينقص لطفه مع الناس، وهو الله في كلّ مكان له الأسماء الحسنى وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم الآية العشرون ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) نعوذ بالله ونستغفر الله ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ) هنا الإرادة متوقفة حتماً على النيّة وكل العبادات والمندوبات العبادات التي أمرنا الله بها الفرائض ومعها السّنن، كلّها قائمة على النوايا، إذا لم يكن هناك نيّة من الإنسان يفهم معها من يعبد وماذا يعبد وماذا يريد فإذا لم تكن هذه النيّة متوفرة فالعبادة باطلة مهما كان شأن هذه العبادة، في العبادات في الفرائض في الصلاة في الصوم في الحجّ في أداء الحقوق في المندوبات في المستحبات يجب أن تتوفّر النيّة، هنا ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ ) من توفّرت نيّته على إرادة أن يريد الله أن يعبد الله أن يحب الله فهو زاهدٌ في الدنيا بنسبة أو بأخرى هو همّه الآخرة لأن الله عزّ وجلّ وعد بخلودٍ في الآخرة لا إنقطاع فيه على تجربة في الدنيا وتكليف فيه إنقطاع في الدنيا على حياةٍ فيها موت متوسط العمر في هذه الأيام مثلاً وعند المسلمين بشكل عام ثمانون سنة يعني قد يعيش أقل أو يعيش أكثر قليلاً يعني هذا العمر هو عمر منقطع يعني حتى لو عاش 100 أو150 سنة في الحدّ الأقصى بالنتيجة الموت بالمرصاد ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ سورة الزمر الآية 30 ) فإذاً هي حياةٌ منقطعة وبالنسبة للخلود هي حياة قصيرة جداً جداً لا تكاد تقاس بحياة الآخرة التي لا موت فيها ولا إنقطاع، فالله عزّ وجلّ رصد هذه الحياة الآخرة المُنعّمة التي لا موت فيها ولا انقطاع جزاءً وثواباً للذين يحسنون السمع ويحسنون العمل في الحياة الدنيا التي واضحٌ الإنقطاع فيها وسرعان ما ينقطع الإنسان فيها. فإذاً ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ ) فهو يريد الله ويكون في طاعة الله ويكون مشتاقاً إلى الله وإلى رضاه وورضوانه في نعيم الآخرة، من كان كذلك الله يضاعف له في الآخرة ويؤتيه في الدنيا معزّزاً مكرماً في الدنيا لا يخيبه الله في الدنيا، الآخرة مضمونة له ما دام مستقيماً عاملاً بطاعة الله تبارك وتعالى، كذلك في الدنيا الله لا يخذله الله لا يخيّبه ولا يخزيه فإذاً ضَمنَ الإنسان الذي يريد حرث الآخرة، ضَمنَ الدنيا والآخرة، ويزيد الله له في الحرث والحرث في الأساس الرّزق، الحرث كلمة تشير إلى الرّزق بشكل عام فالله عزّ وجلّ يزيد له في حرثه في الدنيا وفي الآخرة يعني في الدنيا يزيد له أي أن يكون الإنسان مكتفياً ويعتقد أن الله يزيد له يعطيه أموالاً جبالاً من الذهب وجبالاً من الفضة ويعطيه ليبني البنايات والعقارات والقصور فلا هذه مشغلة هذه مشغلة بدون طائل ومردودها سلبيّ، يعني إذا كنت أنت مكفيّاً في مالك وفي رزقك يعني عندك كفاية ما عندك زيادة وأتاك الله مالاً كثيراً أشغلك في ليلك ونهارك وجعلك تقتني سيارة إذا لم يكن عندك سيارة ثمّ تكثر من السيارات لأن كثر المال وهذا شيء طبيعي أن تفتح نفسك على السيارات الأحلى والأجمل والأكبر والشبحيّات ثمّ كثُر مالك فتريد أن توسع بيتك وإذا كثر مالك لا يعود يعجبك البيت فتريد أن تبني لنفسك فيلا ثم بعد الفيلا قصراً ثم بعد القصر قصوراً كما نرى عند الذين ابتلاهم الله بالمال الكثير، فبهذا الحال متى تُصلي صلاة الليل وتدعوا الدعاء المعروف الذي عندك فستكون مُتعباً عند المساء لأنك تدير القصور وتدير الفِلل وتدير العقارات وتدير المزارع فستكون مُتعباً وقد تؤدي صلاتك الفريضة وربما تؤديها وأنت نائماً غافلاً عنها ساهياً وبذلك لا ترفع الصلاة ولا تقبل وتكون خسرت إذا بقيت لك الآخرة تكون خسرت منها الدرجات العلى وحشرت بين الجنّة والنار قريباً من الدرجات الدنيا. فلا ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ ) يعمل لها ويكون أقرب إلى الزهد منه إلى الطمع بالدنيا وأقرب إلى الرضا بالكفاف ويسأل الله الكفاية والكفاية غنى وأعظم الغنى أن تصل إلى درجة تحسُّ فيها أن الله في قلبك وحده لا شريك له
هذا الغنى ماذا الدنى وتبرُها والجوهر فكيف كيف نشكر
فإذاً ( وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا ) ناسياً الآخرة لن تخطر على باله، لن يشغله طلب الآخرة لا بعبادة ولا بإهتمام ولا بدعاء ولا بخوف ولا بخشية ولا بمعرفة لله ولا بتقرّب إلى الله فهو يريد الدنيا من كان كذلك معرضاً عن الآخرة مُقبلاً على الدنيا الله عزّ وجلّ يؤتيه من الدنيا ليس كما يريد الإنسان ولكن كما يشاء الله لأن هذا لله فيه مشيئة وليس للإنسان، وقد يعطيه القليل وقد يعطيه أقل من القليل وقد يعطيه الكثير الكثير كما قلنا وما يشغله عن الآخرة فيكون من الخاسرين (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) فيموت عن الدنيا بعد حياة قصيرة ولو كانت فوق المائة سنة ولو كان مُرفهاً متخماً فيها فيُقبل على الويلات الباقيات المخلّدات السرمديّات، لأن كما في الجنّة خلود كذلك في العذاب خلود.
الآية الواحدة والعشرون ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ) بل أَمْ هنا بمعنى “بل” بل ( لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ) المقصود هنا أهل الشرك، ألهم شركاء؟ أهل الشرك أيجدون لهم شركاء بين ظهرانيهم في مجتمعهم وفي مجتمعات أخرى يساندوهم على شركهم ( وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ) بماذا أذن الله من الدّين؟ نحن نعلم أن الخلاصات الصافية لهذا الدّين هي في هذا القرآن المجيد وأن الخلاصات الصافية لهذا الدّين، الدين المخلص لله هي في سنّة محمد (ص) وفي سُنن آل بيت محمد، نعلمه عن هذا الدّين وأنتم تعلمونه وما نقرأه وأنتم تقرأونه إضافة إلى ما في سُنة رسول الله (ص) إضافة إلى ما في سنن أولياء الله آل بيت النبوة الأطهار، ما نعلمه ليس فيه بدعاً وليس فيه زيادات عن الأصل يعني ما جاء به النبيّ موجوداً في القرآن الكريم والسُنن التي علمه الله إياها أورثها لأولياءه وأصفياءه وآل بيته الأطهار فمن أين أتت هذه البدع عند الناس وفي جماعاتنا البشرية التي نعلم وتعلمون ونرى وترون، كثرت البدع وكثرت الزيادات مما لم ينزل به الله سلطانا، نحن نعلم ويجب على كل إنسان أن يعلم أن يُحصحِصَ هذا الدّين وأن يمحص هذا الدّين وأن يعرف ما هو أصل هذا الدّين كيف كان الدّين في زمن محمد (ص)؟ وكيف تعبّد؟ وبماذا تعبّد علي بن أبي طالب (ع)؟ بماذا تعبّد الحسن؟ وبماذا تعبّد الحسين؟ وبماذا تعبّد التسعة المعصومين (ع) من بعدهم؟ وهل كان في دينهم بدع وزيادة عمّا في القرآن وعمّا في السُنة؟ أبداً لا، من أين أتت البدع؟ ومن أين أتت الزيادات؟ التي يمهرجون لها بشكلٍ أو بآخر فيجب التمحيص ويجب التّدقيق، أما ما يقال أنّه في الرواية كذا وفي الرواية كذا، فيجب التدقيق في كل رواية حتى لا تكون إسرائيلية وحتى لا تكون عن طريق الزّنادقة وحتى لا تكون من الجاحدين ومن أعداء الدّين وما أكثرهم في كلّ عصر ذكرت لكم مثلاً مرة قول الإمام الصادق (ع) وما أصدق قوله قال: ” لعن الله إبن المُغيرة فقد أدخل في حديثنا خمسة آلاف حديثٍ ونيّف ” خمسة آلاف حديث على زمن الإمام الصادق ومن رجل واحد اسمه إبن المُغيرة أدخل في حديث رسول الله وفي أحاديث الأئمة الأطهار فكيف نعتمد الرواية ونترك الآية وكيف نتعبّد بالرواية ونعرض عن الآية التي هي كلام الله في كتاب الله من هنا تأتي البدع ومن هنا تأتي الإشكالات ومن هنا وجوب التدقيق في صفاء هذا الدّين لجلاء هذا الدّين حتى لا يكون أي إنسان منّا مدعاة لغضب الله وفريسة لجهنم ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء ) بل ( لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ) وأعيد هذه الآية على وضوح بل ( لَهُمْ شُرَكَاء ) يشاركون بعضهم بعضاً بل( لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ ) بنوا لهم من الدّين أقاموا لهم من الدّين أبدعوا لهم من الدّين ( مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ) وبماذا أذن الله ؟ قلنا موجود في كتاب الله وفي سنن رسول الله (ص) وآل بيته الأطهار فإذاً ( وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الظالمين الذين ابتدعوا البدع التي ليست من أصل الدّين وابتدعوا الزيادات التي فيها مشغلة عن الله وعن ذكر الله ووعن كتاب الله هؤلاء هم الظالمون ولهم عند الله عذابٌ أليم ( تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ) لاحظوا هذه الآية في الحقيقة يعني هذا الكتاب القرآن الكريم مليءٌ بالعجائب ومليءٌ بالمدهشات وهذه من المدهشات (تَرَى الظَّالِمِينَ ) هؤلاء الناس الذين تحدثنا عنهم في الآية السابقة تكلمهم في هذا، فهم تداخلهم الحقيقة وتهزهم الحقيقة من الداخل، ولكن يغلّبون الكبر ويغلّبون العناد ويغلّبون التعصب ويغلّبون الحقد فيكونوا من الخاسرين ( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ سورة النحل الآية 33 ) هؤلاء تراهم ( تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ ) خائفين ( مِمَّا كَسَبُوا ) من البدع، مما كسبوا من الشرك وهو واقعٌ بهم أي العذاب والعقاب والحساب واقعٌ بهم لا مُحالة ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) في المقابل ووحدوا الله وتعبّدوا له بهذا الدّين الحنيف الصافي النظيف ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ) جمع روضة وهي الحديقة ( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ) لهم ما يريدون وما يطلبون عند ربهم ( ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ ) من الله العزيز الكريم أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ولا قياس بينه وبين المخلوقين ( ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ ) يعني الفضل الكبير الذي هو فضل الله هو ( الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل يا رسول الله يا محمد لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) في هذه الآية الكريمة من قوله تبارك وتعالى ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ورد في كتاب مجمع البيان في تفسير القرآن لمؤلفه الشيخ الطّبرسي، قال الشيخ الطّبرسي إختلف في معنى هذه الآية على أقوال أحدها (لا أَسْأَلُكُمْ ) على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة ( أَجْرًا إِلا ) التّوادّ والتّحاب فيما يقرّب إلى الله تعالى من العمل يعني إلا التّوادّ بينكم والتّحاب بينكم وقوله: (إنّ المؤمنين إخوة ) فهذه قرابة فإذاً إلا التّوادّ والتّحاب فيما يقرّب إلى الله تعالى من العمل الصالح هذا عن الحسن والجبائي وأبي مسلم، قالوا هو التقرّب إلى الله تعالى والتودّد إليه بالطاعة هذا معنى الآية، أما المعنى الثاني للآية أن معناها إلا أن تودّوني يعني ( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) أن معناها إلا أن تودّوني في قرابتي منكم وتحفظوني لها هذا عن إبن عباس “وقتادة” ومجاهد وجماعة، قالوا “وكل” قريش كان بينها وبين الرسول (ص) قرابة وهذا لقريش خاصة والمعنى إن لم تُودّوني لأجل النبوة فوُدّوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم هذا في المعنى الثاني، والمعنى الثالث هو إلا أن تودّوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم عن علي إبن الحسين(ع) وسعيد بن جُبير وعمر بن شعيب وجماعة، فهذه المعاني الثلاثة كما وردت في مجمع البيان في تفسير القرآن ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ) في هذا المجال في هذه المعاني الثلاثة أو في أحد هذه المعاني كما يعلم الله من يفعل حسنة ويقترف حسنة يزد عملاً صالحاً ( نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) ليتقرّب زيادة إلى الله يزد الله تقريبه ويرفع له درجته ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ما أعظمه وما أكرمه ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) بل (يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فمعنى ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) كذب على الله جدّف على الله إخترع أقوالاً إدّعى أنها عن الله تبارك وتعالى ( فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) يربط على قلبك بالصبر على أذاهم “إعادة…” حتى لا يشقّ عليك قولهم إنّه مُفترٍ وساحر عن النبي هذا عن مجاهد ومقاتل ( وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ) بقدرته ( وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه ) أي الآيات المنزلات في هذا القرآن المجيد ( وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ).
( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) الله أكبر والعزّة لله ( وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) وهو حصراً بالله قبول التوبة ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وهو الذي يَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) ولماذا هذا الحصر بهذا المعنى؟ لأن الله بكرمه ورأفته وعفوه هو الذي يعفو ويغفر وهو الذي يرحم إلى أنه بالمقابل الناس قلّما يغفرون لبعضهم البعض وقلما يقبلون توبة العاصي إذا تاب ويظنون به الظنون ولأن الله أكرم ولأن الله أرحم وهو خير الغافرين ( فهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) ولو لم يقبلها الناس وهو الذي (يَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) يمحوها ( وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) إذا تبتم وإذا بكيتم بين يدي الله وإذا جأرتم إلى الله بالدعاء وإذا خشعت قلوبكم وإذا استقمتم وإذا نويتم الخير وأحسنتم النيّة الله يعلم هذا ولا يعلمه الناس، قد يعلم الناس منه القليل ولكن الله يعلمه كلّه فإذاً ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ).
( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الله أكبر والعزّة لله ولله الحمد ( وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ) وأكثر من هذا وأعظم من هذا أنه ( يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ) الذين يدعونه والذين يسألونه والذين يتوبون إليه ويطلبون منه يستجيب لهم طبعاً إذا كانوا من المؤمنين ( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) وليس فقط يستجيب لهم بما يسألون وبما يطلبون بل ويزيدهم من فضله وفضل الله عظيم وواسع وكبير وليس له حدود الذي لا تنفذ خزائنه ولا تزيده كثرة العطاء إلا كرماً وجوداً، إذاً (وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ ) الذين هم أهل الشرك والعصيان وأهل الجحود وأهل الإلحاد (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ).
( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ )
فقوله: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء هنا المقصود بالرزق، الرزق العام على عامة الناس في الأرض أن يصبحوا جميعهم أثرياء وأغنياء هذه واحدة والثانية فيها تخصيص لكل فرد بشخصه والقرينة بالنسبة للإحتمال الأول أو للتفسير الأول ( وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء ) ينزل المطر وينزل الغيث على كلّ أهل الأرض والوجه الاخر هو لكل فرد بشخصه ومعلوم أن كثرة المال كما نرى حولنا وكما يرى أهل التتبّع والتأمل أن كثيراً من الناس ممن زاده الله من فضله غنىً ومالاً نراهم هم الأكثر بغياً في الأرض وطغياناً ولو أردنا أن نأخذ أمثلة عامة نجد هذه الأمثلة في الملوك ورؤساء الدول وأهل السلطان بشكلٍ عام نجدهم إما أنهم أثرياء حصلوا على السلطان بثرواتهم وما عدلوا والأمثلة التي نراها على مستوى “الكرة” الأرضية اليوم في العالم وفي الدول وأما أنهم وصلوا إلى السلطان بشكل أو بآخر زحفاً أو تسلقاً فنراهم أصبحوا أثرياء بعد وصولهم فكذلك طغوا وبغوا كما نرى ونسمع كلّ يوم ولو أردنا أن نذكر أسماء نكاد لا نستثني احداً هذا في أهل السلطان وأهل السياسة أما في المجتمع بشكل عام فنرى بالتتبع ونرى بالتأمل وبالتحقيق أن كثرة المال تُطغي وإذا وجدنا بعض الأخيار الأبرار ممن ينفقون المال في وجوه البرّ، ينفقون المال في وجوهه الحقّة، نرى المال أنّه شاغلهم عن كثير من أنواع العبادة وعن كثير من التأمل في خلق الله وفي ملكه وملكوته، التأمل الذي ندب إليه الله عزّ وجلّ وأمر به في قوله ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ سورة آل عمران الآية 91 ) يعني توصلوا بعد تسبيحهم وذكرهم لله وتفكّرهم في خلق السماوات والأرض إلى أن استنتجوا فقالوا (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) توصلوا إلى معرفة أن حقاً هناك جنّة وحقّاً هناك نار وحقّاً أن هناك قيام ساعة وحساب فقالوا ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) التي توصلوا إليها بتأمّلهم وبتفكيرهم بينما لو كان عند أمثال هؤلاء مالٌ كثير فلا بد أنه شاغلهم بتثميره وبضبطه وبإدارته كما نرى عند عامة الأغنياء فما هو المطلوب بالنسبة للإنسان حتى يكون في حالة إعتدال بالنسبة للتعامل مع ربّه والتعامل مع دنياه مع ماله، يبدو أن الشائع والمتعارف أن المطلوب الكفاية والكفاية طبعاً لها درجات نحن نذكر الدرجات القصوى التي هي معروفة في بلادنا اليوم، المتعارفة بالنسبة لمعدل المعيشة الوسطي، أن يكون هذا الإنسان عنده قوت أسبوع على الأقل أو ربما يطمح لأن يكون عنده قوت شهر وعنده تحصيل لتغطية نفقات العائلة والأسرة أو النفقات الشخصيّة أقول هذا في الحدّ الأقصى، وأن لا يفيض المال عن هذا المستوى عن حاجة الأسرة وعن حاجة الأفراد وفي حالات يتعبّد بها عباد الله وأولياء الله سواءً كان في الماضي أو الحاضر وعليها يجب أن يقيس بقية عباد الله ولا أقول بقية الناس لأن كما نعلم أن هناك فرق بين عامة الناس وبين المؤمنين من أهل اليقين إذاً الحالة التي يجب أن يتمثل بها المؤمنون عامة حديث مشهور وقوله (ص) : ” من كان آمناً في سربه معافاً في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ” من كان آمناً في سربه في حالة أمن الصحة والأمان نعمتان مجهولتان وإذا كان في حالة أمن في نفسه وفي مُحيطه آمناً في سربه في محيطه مع أهله وأصحابه، معافاً في بدنه، الصّحة تاج على رؤوس الأصحاء، وعنده قوت يومه، مثلاً اليوم السّبت عنده قوت يوم السبت وما عنده قوت يوم الأحد ولا الإثنين ولا بعده، فقوت يوم السبت الذي يعيش فيه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، يعني نهار السبت سينتهي وهذا الإنسان غير محتاج فماذا يفعل يوم الأحد؟ وليس عنده قوت يوم الأحد لا لنفسه ولا لعياله فما العمل؟ هنا الناس غالباً ما يتأزمون وبناءً على التأزم تقع مشاكل ولا نريد أن نعطي أمثلة على هذا لأنه تحصيل حاصل بينما الواجب في السلوك عند أهل الإيمان وأهل اليقين وأهل الثقة بالله أن هذا ليس عليهم ” من شقّ فمي لا يميتني جوعاً ” ومن الأمثلة أن الله تبارك وتعالى يؤتي كلّ طائر رزقه ولكن لا يضعه له في العش، فرزق الطيور والعصافير والبهائم التي في البرية فهي على الله ( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ سورة العنكبوت الآية 60 ) فإذاً الرزق على الله فإذا صحّت النيّة عند الإنسان على هذا الأساس وكان واثقاً بربه وبانه القادر، بأنّه هو السميع وهو البصير وبأنّه السميع القريب وبأنّه السميع المجيب فليسأل الله تبارك وتعالى، فمحمد(ص) جاءه رسول الله جبرائيل(ع) فقال له يا رسول الله يا محمد هذه البغلة الشهباء عليها مفاتيح كنوز الأرض ما هي هذه المفاتيح ليس بالضرورة أن تكون مفاتيح للأبواب إنما هي طلاسم هي رموز هي كلمات هي آيات ولا تنقصك يا محمد من حظك عند الله شيئاً، ما لك عند الله هو لك من درجات النعيم ومن درجات القرب ومن درجات المحبة عند الله عزّ وجلّ ما لك هو لك فهذه مفاتيح كنوز الأرض ولا تنقصك من حظك عند الله شيئاً، قال: لا يا اخي يا جبرائيل فإنما أجوع أسأل الله وعندما أشبع أحمده، يتلاءم جداً هذا الكلام مع الحديث ” من كان آمناً في سربه معافاً في بدنه وعنده قوت يومه ” هلق الرجال ممكن يقتنعوا في هذا بس منّا يقتنعوا النسوان ” فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها يعني من الآن من أهل الأرض يظنّ فيه أن الدنيا حيزت له بحذافيرها يعني عنده المال الكثير وعنده السيارات وعنده الطائرات وعنده الملك والسلطان كثيرون هؤلاء فهؤلاء ليسوا أكثر سعادة من إنسان لا يملك إلا قوت يومه، فهذا إذا كان موقناً بالله فهو من أسعد السعداء إذا كان موقناً بالله وبأن الله معه وبأنه يراه ويعلم حاجته وبأن الله على كل شيء قدير فهو من أسعد السعداء ومثل هذا يقول ” لو عرف الملوك سعادتنا لقاتلونا عليها بالسيوف ” أما الملوك الذين وردوا في هذا القول أو الرؤساء أو أصحاب الأموال فهم لا يعرفون هذه السعادة ولن يعرفوا مثلها لأن حتى يعرف الإنسان السعادة يجب أن يعرف ربّه ويجب أن يعرف أن ربّه معه أن الله معه وأن الله حافظه وأن الله راعيه وأن الله حارسه وأن الله رازقه وأن الله معطيه وأن الله لا يخيّبه وأن الله لا يخذله هؤلاء أهل اليقين، أما أهل السلطان وأهل الدنيا لأنهم لا يعرفون هذه المعرفة فالله لا يحرسهم ولا يحفظهم والله لا يرعاهم ولا يرحمهم وهم في لعنة الله إذا لم يكونوا من أهل الله ومن أنصار الله ( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ ) أصبح المعنى واضحاً بفضل من الله ولا قوة إلا بالله ( وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء ) حتى لا يبغي الناس بعضهم على بعض ( إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) يعلم حاجاتهم ويعلم كيف يكون سلوكهم إذا رزقهم زيادة وكيف سيكون سلوكهم إذا أنقص عليهم قدَر عليهم أرزاقهم ولهذا حسابات عند الله من الإختلاف الشديد في ردود فعل الناس فكل إنسان غالباً ما يعطيه الله عزّ وجلّ حسب حكمته ما يعدّل في سلوكه وسلوك المؤمنين عامة والذين يعرفهم أن إذا أعطاهم سيطغون ويتجاوزون حدودهم على أنفسهم وليس على الغير وقد يكون تجاوز على الغير والله “ضابط” دقائق هذه الأمور كونه حاكم للكون وحاكماً للبشر فيوّزع الرزق بشكل لا يطغي الناس بعضهم على بعض ولو طغوا فبنسبة والله الرقيب والله الحسيب في الدنيا والآخرة.
الآية الثامنة العشرون ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) الله عزّ وجلّ يذكر الأدلة التي يجب أن يتّبعها الإنسان لتوقير الله ولتعظيم الله ولحصر تفكير الإنسان بعزّة الله وبقدرته حتى لا يضيع ولا يتشتت ذهنه ومن ينزل الغيث من الأنبياء ومن ينزله من الأولياء على الناس، في الماضي من بداية الخليقة وفي الحاضر وما بين الماضي والحاضر ومن ينزل الغيث على الناس لا سيما بعد ما ” قنطوا ” بعد ما يئِسوا قالوا لن ينزل الغيث جفّت الأرض احترقت البلاد يبست المواسم، سوف لن ينزل المطر، كلّ سنة تقريباً كثير من الناس يتعرضون لهذه الأفكار وهذه الإعتقادات كلما ربنا الكريم ابتلاهم بحبس المطر مدّة من الزمن والله تبارك وتعالى قد يعاقب أحياناً بحبس المطر ونرى اليوم كثيراً من أقطار الأرض يجري فيها ما يسميه الإعلام عامّة التصحّر، بقاع من الأرض كانت خصبة تعطي الزّرع والثّمر وتلبي حاجات الناس لَحِقها الجفاف وحبس الله عنها الماء ونسمع بين حين وآخر، جفّت المواسم في البلد الفلاني كسدت مواسم الرّز مثلاً أو بقية الأنواع من الأرزاق يعتمدها الناس في معايشهم وطبعاً حكم الله في هذا والناس لا يحسبون على هذا الأساس، لماذا تتصحّر الأرض؟ في بعض البقاع، لماذا تحبس السماء مطرها؟ من هو الذي يحبس مطر السماء؟ ومن هو الذي يطلق مطر السماء؟ اليوم في الصين بعض أهل القرى على خلاف بعض الصينيين توصّلوا إلى أن يفجّروا بشكل أو بآخر بأنواع من القذائف أن يفجّروا الغيوم فبنظرية علميّة تنزل هذه الغيوم مطراً على القرى التي تفجّر فوقها هذه القذائف فهذه الغيوم التي تمطر على هذه القرى تنزل الماء دفعة واحدة وتحرم بقية القرى من المطر وهذا لعب الإنسان وبغيه وطغيانه وهذه حقيقة كتبتها الصحف فإذاً ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ) إذا كان الناس يستأهلون نزول الغيث ونشر رحمة الله ( وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) وليّ أمر الناس أنزل عليهم الغيث أم لم ينزل أعطاهم أم حرمهم أخصبهم أم صحّرهم، هو وليّ أمرهم وهو الحميد االمحمود في السماوات والأرض فإذا لم يحمده البشر تنكراً وكفراً تحمده الملائكة ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا سورة الفتح الآية 7 ) وحتى هو غنيّ عن حمد الناس وعن حمد الملائكة فيحمد ذاته بذاته ويبارك ذاته بذاته أنت تقول تبارك الله ربّ العالمين وتقول بوركت يا فلان وبارك الله فيك يا هذا الشعب ولا تقول بارك الله بالله تقول تبارك الله ولا تقول تباركت الشجرة ولا تباركت الأرض ولا تبارك الإنسان لأن معنى تبارك هو أن يبارك ذاته بذاته وفي هذا المعنى الحميد هو الذي يحمد ذاته بذاته الحمد لله له الحمد وله الشكر كما حمد نفسه وكما شكر نفسه وكما ينبغي لكرم وجهه ولله الحمد وله الشكر كما يشكر نفسه وكما يحمد نفسه وكما ينبغي لكرم وجهه فإذاً هو غنيٌّ عن العالمين إذا حمدوه وشكروه فهو يرضى بهذا وإذا لم يحمدوه ولا يشكروه فهو غنيٌّ عنهم ولهم اللعنة في الدنيا والآخرة ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ) أريد أن أرجع قليلاً إلى قوله تبارك وتعالى حصراً (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) إلى كلمة الوليّ، الوليّ من يتولى الكون بإدارته وليس أحد غير الله يتولى إدارة الكون، الوليّ الذي يتولّى رزق الناس من فضله وليس أحد غير الله يتولّى رزق الناس من فضله، الوليّ بشكل دائم هو الذي لا يموت وكل الخلق الذين هم من دون الله يموتون، فكيف يستطيع من يموت أن يتولّى جانباً من حاجات الخلق جانباً ولو بسيطاً من هذه الحاجات، فإذا كان نبياً أو إماماً أو وليّاً كيف يستطيع أن يتولّى جانباً من حاجات الخلق إذا كان يموت حتى إذا كان حيّاً، هل يستطيع أن يتولّى جانباً واحداً من حاجات الخلق؟ الإنس والجنّ والملائكة والحيوان والطير، إذاً الولاية في الأصالة التي بها عناية الله وفيها حاكميّة الله وفيها رازقيّة الله وفيها العناية بتفاصيل الكون من بشر عقلاء وعقلاء من غير البشر ومن بقية المخلوقات غيرالعاقلة، الله هو الوليّ أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وبشكل دائم لا ينقطع لا في ليل ولا في نهار طبعاً ولا في موت لأنّه هو الحيّ القيوم القائم على كلّ نفس فهل تستطيع أن تقول عن مخلوق من الخلق عن نبيّ أو إمام أو وليّ من أولياء الله أو ملكٍ من الملائكة أو جنّ من الجنّ أنّه قائم على كل نفس ليلاً ونهاراً وبشكل دائم لا يكون هذا إلا لله الحيّ القيوم الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ننتقل إلى الآية التي ذكرنا ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ ) الآيات كثيرة ولا نكاد نحصيها يذكر الله تبارك وتعالى هنا بعضها ( وَمِنْ آيَاتِهِ) من بعض آياته ( خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ) هذه وكأنها تفسير لقوله تبارك وتعالى ( وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) كيف هي ولايته؟ ذكرنا منها بعض الأشياء ومن وجوه هذه الولاية أنّه هو خلق السماوات والأرض ولا أحد غيره يستطيع أن يفعل هذا الفعل وهو بثّ في السماوات والأرض من كلّ دابة من البشر والحيوان والسّباع التي أقاموا لها موسوعات في هذه الأيام موسوعات كبيرة ومؤلفات ضخمة ومصوّرة ويحرّكونها على التلفاز بشرائط وبالكمبيوترات هذه الدّواب التي هي أشكال وأجناس وأنواع في بقاع الأرض من خلقها غير الله ومن يستطيع أن يبثّها ويخلقها كما بثّها الله وخلقها في أقطار الأرض ( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ ) على جمع الخلائق جملة وتفصيلاً ( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ ) وسيكون هذا يوم الحشر يوم البعث يوم قيام السّاعة ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) هذه الآية لا بدّ أن نقف عندها متأملين ولنبدأ بالأفراد ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) المصيبة قد تكون إبتداءً من عثرة يعثر بها الإنسان وهو يمشي فيكاد ينقلب على وجهه أو على جنبه أو يعطب عضواً من أعضائه أو أي حادث في سيارة مصيبة هذه وقد يكون شوكة تلحقه في ناحية من بدنه وهذه الأمور الصغيرة وصولاً إلى المصائب الكبيرة على مستوى الإنسان من إبتلاءات وبين الإبتلاء والعقوبة قضايا نسبيّة من المصائب وصولاً إلى المصائب الكارثيّة التي تصيب المجتمعات والأمم كما هو حال أمتنا الإسلاميّة التي يحبون أن يقولون عنها العربيّة في هذا العصر وفي هذه الأيام فالله يختصر هذا الأمر إختصاراً شديداً وقاهراً بقوله هذا ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) أعثرت؟ أنظرْ ماذا كنت فاعل حاسب نفسك، شوكة، مرض، فشل، ثمّ صعّد في أنواع المصائب ( فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) أنت السبب وأنتم السبب أيها الناس والله تبارك وتعالى لا يحاسبكم بجميع سلبياتكم وبجميع مخالفاتكم، يحاسب وإنما بنفس الوقت ( وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) بقية الآية ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) وسنرى في مجمع البيان مناقشة لهذا الأمر وكلام قرأناه ونريد أن نجيب عليه، فعن هذه الآية يقول في تفسير الآية ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) يقول ( وَمَا أَصَابَكُم يا معشر الخلق مِّن مُّصِيبَةٍ ) من بلوى في نفسٍ أو مالٍ ( فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) من المعاصي صح (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) منها فلا يعاقب بها وقال قتادة هي عامة لكل الناس وقال أهل التحقيق إنّ ذلك خاص وإن خرج مخرج العموم لما يلحق من مصائب الأطفال هذا ليس له معنى عنده عند القائل عند أهل التحقيق هو لم يسمِّ من هم أهل التحقيق وإنما نسبها بشكل عام لأهل التحقيق للعلماء أنها خاص لأنه لا نستطيع أن نقول ذلك عن مصائب الأطفال أنه بما كسبت أيدي الأطفال والمجانين ولا نستطيع أن نقول ذلك عن المجانين إنه بما كسبت أيدي المجانين ومن لا ذنب له من المؤمنين ولا نستطيع أن نقول عمّن لا ذنب له من المؤمنين تصيبهم مصيبة وهو لا ذنب له ولأن الأنبياء والأئمة يمتحنون بالمصائب وإن كانوا معصومين من الذنوب لما يحصل لهم على الصبر عليها من الثواب إنتهى القول الذي نسبه العلامة الطبرسي( رض) إلى المحققين ولم يسّمهم ونحن نرد كلّ هذه الأقوال ونقول لا قوة إلا بالله وبإذن الله تعالى نقول أنه ما يلحق من مصائب للأطفال يقصد بها غيرهم ولا تترك فيهم مصائبهم أثراً سلبياً، الأطفال دون البلوغ إذا أصابتهم المصائب فهي يقصد بها غيرهم مّمن حولهم ولا سّيما من أهلهم ولا تترك فيهم مصائبهم أثراً سلبياً إلا إذا كان بعض الأطفال كتب عليهم من الأزل من النشأة الأولى أن يكون فلاناً منهم معاقاً أو أن يصاب فلان حتى يكبر ويتجاوز سن البلوغ بمرض من الأمراض الموجعة فهذا ممّا ترتّب عليه من النشأة الأولى فإن كان من المبلسين بقي فيه وهنا ينطبق عليه الحديث الشريف ” السعيد سعيد في بطن أمه والشقيّ شقيّ في بطن أمه ” وإن لم يكن من المبلسين وتجاوز سنّ البلوغ فعنده فرصة كبيرة جداً أن يرمم ما فات وأن يدخل في رحمة الله ورضاه ورضوانه أي أن يحصل بالتوبة وبالعبادة، فبالنسبة للأطفال ذكرنا في بعض ما قلنا من شعر في ديواننا ” النهر ” عن الطفولة كلاماً يرد على هذا الزعم الذي زعمه الذين سماهم المحقّقين، نقول:
طفولة طفلة الكلام عن طفلة
طفولة(1) إن ضحكت كفُلّة وإن بكت ليس بدون علة
أو دندنت تستقطب السمّارا ونختشي إن أطلقت إنذارا
إما لجوع أو ملال أو ظما(2) أو مطلب أعجزها أن تفهما(3)
أو لعقاب نازل بالأسره لقلة الشكر وأخذ العبره
أو بوليّي أمرها كليهما(4) إن علما بالسر أم لم يعلما
بنسبة الخطاء كل يبتلى ويؤجر الآخر ما تجمّلا
وشأن كل واحد محسوب تحكمه الطاعات والذنوب
(1) طفولة: طفلة الكلام عن طفلة
(2) ظما: عطش
(3) الطفلة كان عمرها 3 سنوات
(4) الأم والأب
فنتابع قول المحققين عن المجانين هو أخرج المجانين على أنهم مجانين لا ذنب لهم فلماذا تصيبهم المصائب، مصيبة الجنون؟ نقول يصيبهم الجنون بذنوبهم وننتقل إلى قوله القول الذي نسبه إلى المحققين “ومن لا ذنب له من المؤمنين” نقول: من كان لا ذنب له من المؤمنين يحفظه الله في أي حال وفي أي ظرف وننتقل إلى قوله ولأنّ الأنبياء يعني هم تصيبهم المصائب وهم أبرياء ولأنّ الأنبياء والأئمة يمتحنون بالمصائب وإن كانوا معصومين يعني ما بيستاهلوها وإن كانوا معصومين من الذنوب لما يحصل لهم على الصبر عليها من الثواب أولاً أين نذهب بكلام الله تبارك وتعالى لمحمد سيد الأنبياء والمرسلين (ص) ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا سورة الفتح الآيتان 2،1 ) يتمم الهداية لأنّه في قوله عزّ وجلّ ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى سورة الضحى الآيتان 6،7 ) فإذاً تكملة الآية السابقة ( وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) هذه في أول سورة الفتح ثمّ نقول بالنسبة للأنبياء والأئمة (ع) أنّه تشملهم القاعدة التي قالها الله تبارك وتعالى لرسوله محمد (ص) ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يا محمد فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا سورة النساء الآية 79 ) صدق الله العلي العظيم نتابع ما كنا بصدده من الآية الكريمة ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) أنّه بفضل منه تبارك وتعالى وبرحمته وليس بعدله لو هو عامل الناس بعدله جميع الناس على جميع طبقاتهم ما ترك عليها من دابّة كما قال ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة سورة فاطر الآية 45 ). فإذاً (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) بفضلٍ منه ومنّةٍ على الناس ورحمة ننتقل إلى قوله تبارك وتعالى ( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) أيها الناس على جميع أصنافكم أنتم لستم مخلّدون في الأرض ولا تستطيعوا أن تعجزوا الله هرباً منه يعني أنه إذا هربتم تستطيعوا أن تختفوا أن تنجوا منه أو من عقوبته أو من طلبه، أيها الناس سواء كنتم في الأرض أو في السماء أو في أي مكان في الكون ( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ) وأنكم أنتم تنقطع حياتكم الدنيويّة كما هو معلوم بالموت ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ سورة الزمر الآية 30 ) يا رسول الله حتى الرسل والأنبياء فأنتم لستم مخلدين ( وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) إذا كان الله وليّ الذين آمنوا فالذين كفروا من وليّهم؟ “هم” يتولّون غير الله ويلجأون لغير الله ويستغيثون بغير الله من أحياء من البشر ومن أموات، يستغيثون حتى ببشرٍ توفاهم الله ويعتقدون أن هؤلاء إنما يكفونهم في طلباتهم ويجيبونهم في دعائهم ويعطونهم ويُؤمّنون لهم ما يريدون من حاجاتهم سواء كانت فرديّة أو كانت عامة كالنصر على الأعداء أو كإنعاش الحالة الإقتصاديّة في البلاد إلى آخر ما هنالك فهذا الإعتقاد إعتقادٌ فاسد تماماً لأن ليس لله من وليّ ولا نصير حيٌّ قيوم لا يموت أبد الأبدين إلا الله عزّ شأنه وجلّت عظمته ومن يدعي غير هذا فقد سقط عند الله وحتى عند العقلاء من عباده نتابع ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ) يعددّ بعض آياته تبارك وتعالى وما أكثرها ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ) الجوار السفن جمع جارية وأخذ المعنى مشترك بين الجارية المرأة أو الفتاة التي تجري على الأرض تمشي وهي خُصصت للفتاة، للمرأة الصبيّة لأنها سريعة المشي وقيلت للسفن لأنها تجري في البحر كالأعلام، الأعلام أي الجبال واحدها علم والأعلام هي هذه الرموز التي تستعملها الدول أو تستعملها فرق الجيوش فننتقل ( إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ) السفن الجوارِ إذا شاء الله يسكن الريح السفن التي تمشي بالأشرعة بواسطة دفع الريح إذا شاء تبارك وتعالى يسكن الريح فيظللن رواكد ثابتات على ظهر البحر ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) صبار على مشقات السفر في البحر وعلى مواجهة البلاءات أثناء السفر في السفن وفي البحار والشكور هو الذي يشكر الله على نعمه فإذا كان صبّاراً كثير الصبر والصبّار على وزن فعّال من صيغة المبالغة يعني كثير الصبر فله أجر عظيم وكذلك إذا قرن الصبر بالشكر فله أجر أعظم.
فإذاً ننتقل إلى الآية الرابعة والثلاثين ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ) رُبّ قائلٍ يقول أننا في هذه الأيام الناس لا تسيّر السفن بالريح ولا بالأشرعة وإنما تسيّره بالطاقة والطاقات وبالطاقة الذرية على ظهر البحر وفي أعماق البحر كما نعلم فالله عزّ وجلّ لا يفوته شيء في هذا الكتاب المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فذكر هذا. إذا لم يسكن الريح الله إذا كانت السفن شراعية فهو يُهلك السفينة ومن فيها بأن يقسمها نصفين كما حصل للسفينة المشهورة ” التايتانيك ” وسفن كثيرة غيرها تصدم بجبال الجليد وغواصات، إذا إنقسمت السفينة وإصطدمت السفينة وهلك أهلها وهلك بعضهم ونجا بعضهم وإذا انقطعت في أعماق البحار أو في عرض البحار أو جرت لها مصيبة فهي بإذن الله وهي من الله، الناس لا يحسبون هذه الحسابات قالوا كلاماً كثيراً عن هذه السفينة “التايتانيك ” أنها لا تحرق ولا تغرق هذا كتب عليها باللغة الإنكليزية الناس لا يحسبون هذا الحساب أن الله هو الحاكم بإسم الله مجريها ومرسيها إركبوا فيها يا نوح ويا أهل نوح ويا قوم نوح بإسم الله مجريها ومرسيها ويا كلّ من يركب سفينة أو سيارة إركبوا فيها بإسم الله مجريها أو مرسيها فهذه أمور تفوت الناس بشكل عام فيخسرون خسارة عظيمة من عطاءات الله ومن توفيق الله ومن رعاية الله في السيارة وفي الطيّارة وعلى السفينة وعلى الدّابة وفي كلّ وسيلة من وسائل النقل حتى ولو كانوا مشاةً على الأقدام، الله هو الحافظ وهو الوليّ والله هو النصير، إذاً ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ) أي يهلكهنّ بما كسبوا من معاصي لأننا ما زلنا في القاعدة التي هي ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) فما زلنا في شرح هذه الآية ( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ) فالله ليس دائماً يعاملهم بعدله وإنما برحمته فيُهلك من يهلك ويعفُ عن كثير من الذين معاصيهم تكون صغيرة أو قليلة ( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ) ما قلناه في تفسير هذه الآيات وما قاله الله تبارك وتعالى في النص في المتن أن هناك أناساً سيجادلون في هذه الآيات ولا سيما في الآيات التي تستدعي عند بعض الناس النقاش والجدل مثل هذه الآية، الأطفال لماذا تصيبهم مصيبة؟ الأبرياء على ظن بعض الناس أن فلان بريء لماذا تصيبه المصيبة على ظن بعض الناس أن تلك البوسطة بريئة لماذا إنقلبت أن تلك السيارة أهلها يا حرام فيهن كبار وفيهن أطفال شو ذنب الأطفال؟ وأنّه وأنّه… جدل كثير الناس يجادلون وسييجادل الناس كذلك في حصرنا الكلام في ولاية الله كما حصره هو سبحانه في قوله (وهو الولي الحميد) وكما حصره تبارك وتعالى في قوله ( وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) طبعاً الولاية في الرعاية في الحياة وفي شؤون الحياة هناك ولاية فقهية وليس هنا مجالها الآن وتحدثنا فيها كثيراً وإنما نتكلم في ولاية الله على الناس من حيث حاكميته ومن حيث رعايته لشؤونهم العامة في حيواتهم بشكلٍ عام (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا ) الله يعلمهم والذين سيجادلون يقول ما لهم من مهرب وما لهم من ملجأ بالنتيجة غير الله تبارك وتعالى لا ملجأ ولا منجى يا ربّنا لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك يا ربّ العالمين، إذاً محيص مهرب مَـحْيَد.
الآية السادسة والثلاثين ( فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) فما أوتيتم من شيءٍ أيها الناس من مال إن لم يفنَ المال فأنتم ستفنون ستموتون عن هذا المال وتتركونه ربما لمن يستأهل أو لا يستأهل المهم أنكم لن تستفيدوا من هذا المال إلا إذا كان وقفاً للمؤمنين أو في حاجاتهم أو فعلتم به ما أمر الله أن يفعل من أداء الحقوق وما شابه ( فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وما عندكم من سيّارات وعقارات وفيلات وقصور ومقتنيات كلّ هذا سينقطع إما ينقطع عنكم في الحياة الدنيا والأولى أنكم ستنقطعون عنه بالموت أو بآفات الدنيا مصائبها ولكن الموت هو أقوى قاطع عن هذه الأمور فإذاً ما الذي يبقى للإنسان؟ ما يبقى للإنسان ليس في الدنيا، في الدنيا لا يبقى له شيء إطلاقاً لا أهل ولا مال ولا شيء من متعلّقاته، ما يبقى هو الذي يبقى في الآخرة عند الله في رضاه ورضوانه هو خير بغير قياس، خير منفتح لأن الخير في هذه الدنيا منقطع وأبقى كذلك بغير قياس لأنه الخلود والبقاء. هنا من آفاته الواضحة كما قلنا الإنقطاع فما عند الله خيرٌ أفضل بما لا يقاس وأبقى بما لا يقاس لأنّه الخلود. لمن هذا الخلود؟ هذا الخير الدائم والقاء الدائم؟ هو ( لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) على ربهم وحده وليس على غير الله اللهم إني عليك توكلت حصراً وإليك أنبت حصراً وإليك المصير لأن صيرورتي في النتيجة نهايتي أن تكون بين يديك أنت تحاسبني وليس أحد غيرك ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا سورة المدثر الآية 11 ) يقول الله عزّ وجلّ، في يوم الحساب الله عزّ وجل يقول ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ) ويقول يوم (يأتينا فرداً سورة مريم الآية 80 ) عن الإنسان إلى آياتٍ كثيرات في هذا المعنى الآية السابعة والثلاثين ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ) هذا ثناء على هذه الأنواع من الناس الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش مثل السرقة الزنا، الشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم إن الله لا يغفر أن يشرك به، الكذب، اليمين الفاجر الغموس، يحلف وهو يعلم أنّه كاذب فهذا يسمى اليمين الفاجر الغموس وهي من الكبائر، الحلف بالله على الكذب، مجرد الحلف بالله على الكذب هي من الكبائر، والكبائر معروفة بشكل عام لا مبرّر لتعدادها عند العقلاء، فإذاً الذين يجتنبون هذه الكبائر والفواحش القبائح من السلوك، الأمور الشديدة القبح، تريدون ان تأخذوا فكرة عن الفواحش بالصورة ؟ شاهدوا محطات التلفزيون، ليس الملغّمة فقط بالفحشاء وبالجنس، مثل محطات المستقبل وال أل بي سي وستار أكاديمي والكاميرات التي تدخل إلى بيوت النساء وفي عُرْيِهنّ وفي نومهنّ وفي قبائحهنّ، هذه الأمور صارت في كلّ بيت اليوم تريدون أن تروا الفواحش في كلّ بيت؟ أدخلوا وشاهدوا التلفزيونات في كلّ بيت الفواحش، نحن بحمد من الله تبارك إنقطعنا عن التلفزيون نسمع الأخبار ونقرأ الصحف، الصحف التي فيها نوع من الحشمة وإذا وجدنا صورة في الصحيفة غير محتشمة نمزّقها فهذا تلافياً عيناك ستحاسبان وأذناك ستحاسبان أنت تسمع، أقول هذا لمن يسمع في التلفزيون ترى ستار أكاديمي تشاهد فيها الرقص والعريّ والتهتّك بين الرجال والنساء الفاسدين والفاسدات، الفاحشين والفاحشات وتسمعهم، تسمع عربدتهم وتسمع موسيقاهم وتسمع غناهم، كلّ هذا تحاسب عليه، يحاسب البصر ويحاسب السمع، ويحاسب حتى تحرّكك أمام هذه الصور حتى سعيك إلى مشاهدتها يوم يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ سورة فصلت الآية 21 ) فهذه الفواحش، الذين يجتنبونها ويجتنبون أمثالها وإذا ما غضبوا هم يغفرون وهذه ينبغي لها وقفة، كلّ الناس عندهم إستعداد للغضب وكلّ الناس يغضبون بين غضب خفيف وغضب شديد والغضب الشديد هو حالة من الحالات المبغضة عند الله والتي يعاقب عليها الله تبارك وتعالى حالات الغضب الشديد التي يخرج فيها الإنسان عن طوره وعن عقله وعن سلوكه المعتدل وعن إستقامته، هذا الغضب من الآثام الغليظة، فالله عزّ وجلّ حتى للذين يغضبون غضباً عادياً يمدحهم إذا كانوا غفروا لمن يغضبون عليه ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ سورة آل عمران الآية 134 ) مدحهم الله عزّ وجلّ والله يحب المحسنين فأولاً المطلوب أن نخفّف كل واحدٍ منا من غضبه إذا غضب وأن يغفر لمن أساء إليه وأثار غضبه واصبر ( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ سورة الحجر الآية 85 ).
فإذاً ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ لتوحيده الذين يشركون بالله لا يكونوا قد إستجابوا لربّهم الذين يجعلون لله شريك، الله يرزق وهذا يرزق، هؤلاء غير مستجيبين لربّهم والذين يستغيثون بغير الله من الأموات أو الأحياء هؤلاء غير مستجيبين لله لأن الله هو الحيّ القيّوم، بعض الناس قويّ وبعض القيادّيين الله أتاه العنفوان وأتاه السلطان وأتاه القوّة فأنا أستغيث به؟! لا الله أقوى منه وهذا الذي تستغيث به من البشر ليس معك أينما كنت الله أقوى بغير قياس والله معك أينما كنت وهو أقرب إليك من حبل الوريد، حتى لو كان معك هذا الإنسان القويّ فالله أقوى منه بغير قياس وأقرب إليك من حبل الوريد، وهذا الإنسان لن يكون أقرب إليك من حبل الوريد، فالإستغاثة بالله، الله يسمعنا ويرانا ويسمع كلّ إنسان ويرى كلّ إنسان في كلّ مكان وإذا إستغاث أحد بغير الله دخل في الشّرك وفي غضب الله والله يقول ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ سورة النساء الآية 48 _116 ) يغفر الكثير لكن أعظم الذنوب عند الله التي لا تُغتفر هي الشرك بالله تبارك وتعالى فإذاً (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) أقاموا الصلاة واضحة ومن لم يصلِّ يكاد يحرم التطلّع في وجهه يعني من لا يصلي لله تبارك وتعالى يعني هذا لا يشكر الله، يعني الله خلقه ويعطيه ولا يشكره، وجعله مستقيماً ليس حيواناً يمشي على أربع، جعله يمشي على رجلين ولا يشكر الله وأعطاه الصحة والعافية ولا يشكر الله، أعطاه الرزق ولا يشكر الله، خطب له بنت الجيران ولا يشكر الله مثلاً إذا كان خطب، زوّجه ولا يشكر الله، أعطاه الأولاد ولا يشكر الله، أعطاه وأعطاه وأعطاه ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا سورة إبراهيم الآية 34 ) لو جلس هذا الرجل جلسة تأمل لِيُعدّد نعم الله عليه الظاهرة والباطنة لا يستطيع أن يحصي النعم الظاهرة، ولا أن يحصي النعم الباطنة ولا يشكر الله ( قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ سورة عبس الآية 17 ) فهذا من العجب الذين لا يقيمون الصلاة، فالذين يقيمون الصلاة والذين إستجابوا لربّهم بالتوحيد وبالمعرفة كما ذكر الله تبارك وتعالى عن نفسه في كلامه وكلامه محصورٌ حصراً في هذا القرآن المجيد، فمن أراد أن يعرف الله فليعرفه في هذا القرآن المجيد ولن يستطيع أحد أن يعرف الله كما ينبغي لله إذا حاول أن يعرفه في غير هذا القرآن المجيد فإذاً (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) وجوباً شاكرين لله ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) يتشاورون في أمورهم يتباحثون في قضاياهم الشخصيّة وقضاياهم الإجتماعيّة وقضاياهم العالميّة ويفسرونها بما يرضي الله، لا يدخلون في الخوض ولا في اللغو قال (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ سورة المدثر الآيات 42_45 ) ولو تنقلتم في البيوت على مستوى العالم وفي المجالس وعلى مستوى العالم فترون أن أغلبيتها الساحقة لا تعرف إلا الخوض واللغو وما هو الخوض واللغو؟ كلّ ما ليس فيه ذكر لله هو خوض ولغو قال لإبنه لقمان وهو يعظه قال يا بُنيّ إذا دخلت على قومٍ يذكرون الله فاقعد معهم فعسى الله أن يعمّهم بنعمةٍ أو برحمة فيعُمّك معهم وإذا دخلت على قوم لا يذكرون الله فلا تقعد معهم فعسى الله أن يَعُمّهم بنقمةٍ فيعُمّك معهم نعوذ بالله ونستجير بالله وحده ، إذاً ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) فالشورى مطلوبة والشورى فيها ثناء من الله وكان رسول الله (ص) يُشاور أصحابه ويشاور بعض أصحابه ويتخذ القرار، (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله) اتخذ قرارك إذا عزمت ولكن الشورى للمؤانسة ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) ينفقون من المال الذي رزقهم إياه الله ومن الطاقات التي أعطاهم إياها الله عزّ وجلّ ينفقون يؤدون الحقوق التي أمر بها الله عزّ وجلّ ولا يستأثرون بالمال ولا يردّون أمر الله بوجوب أداء الحقوق ومن لا يؤدي الحقوق كما أمر الله تعالى فهو في حال عصيان وفي حال ردّ على الله وفي حال عدم مبالاة بما أمر الله تبارك وتعالى فإذاً ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) في مجالات الخير والمجالات التي أمر الله بها تبارك وتعالى ( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ) إذا اعتدي عليهم إذا ظُلموا فهم ينتصرون من الظالم ومن المعتدي الباغي ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) هذا يذكرنا بقول الله تبارك وتعالى ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ سورة البقرة الآية 194 ) ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) في حالات الخلاف من إعتدى عليك فاعتدِ عليه بمثل ما إعتدى عليك فإذا عفوت فهو أفضل عند الله تبارك وتعالى لأن ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) لا يحبُّ الظالم الذي إعتدى ولا يحبُّ الظالم إذا أراد أن يحصّل حقّه من المعتدي فتجاوز حدّه ( وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ) مثلاً إذا أحد غدر بك فعاقبته بغدره، وإذا خانك فعاقبته بخيانته، إذا أساء إليك فعاقبته بقدر إساءته فأنت ما عليك من سبيل نحن نعلم في العلاقات الإجتماعيّة الذين يغدرون موجودون والذين ينكثون العهود موجودون والذين يخونون موجودون فإذاً ( وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ) (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ) يجب أن يُعاقبوا (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يجب أن يُحاربوا، يجب أن يُقاتلوا ويجب أن يُردّ بغيُهم يجب أن يردّ عدوانهم ( أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ) طبعاً هذا على المستوى الإجتماعي الخاص، أنت لك حقّ أن تعاقب من أساء إليك أن تعاقب من غدرك أن تعاقب من خانك أنت تعاقب من سفاّك وأنت بريء إلى آخر ما هنالك من العدوان والإعتداءات، هذا على المستوى الإجتماعي وعلى المستوى العام وعلى المستوى الإقليمي وعلى المستوى العالمي أنت مطلوبٌ منك أن تتّخذ سبيلاً طريقاً على الذين يظلمون الناس ونحن في صدد ظلم عالمي اليوم تقوده أمريكا والصهيونية العالميّة، هؤلاء الذين يظلمون الشعوب والدول ويسحقونها بقوتهم العسكريّة وبطغيانهم وبظلمهم وفي مقدمتهم الأمريكان واليهود والصهاينة والإنكليز وغيرهم وغيرهم ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ) عند الله إذا لم نستطع نحن أن نلحق بهم شيئاً من هذا العذاب فعذابهم عند الله ونسأل الله عزّ وجلّ أن يُؤتِينا أن نلحق بهم العذاب بأيدينا في الدنيا وهو يعذبهم في الدنيا والآخرة.
فإذاً نتابع في سورة الشورى وصولاً إلى الآية 43 إلى قوله تبارك وتعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ، وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ الآية 45 ، وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ) فإذاً الآية الثالثة والأربعون وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ اللاّم هنا لام القسم وَلَمَن قسماً بأنه من صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور، فإن ذلك لمن عزم الأمور جواب القسم ولها فذلكة لغويّة أخرى أن تكون مبتدأ وخبر، ولكن هذا الأليق أن نقوله من حيث اللغة فإذاً بعد أن يتعرض الإنسان لبعض الأحداث والخلافات مع الغير هنا نرى أنه إذا كان الخلاف مع أحد المسلمين أو أحد المؤمنين أو بين فريقين من المسلمين أو المؤمنين تنطبق هذه الآية ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) من عزم الأمور من الأمور الثابتة عند الله عزّ وجلّ التي لا تُمحى ولا تُبدّل ثوابت الأمور، وفي قول آخر من عزم الأمور من أعلاها ومن أفضلها، فإذاً من أعلى الأمور وأفضلها هو الصبر والغفران الصبر على من تختلف معه من المسلمين أو المؤمنين وأن تغفر له وهذا لا نستطيع أن نقوله بالنسبة لأعداء الله الذين يقاتلوننا والذين يطمعون بأرضنا ويؤذوننا بأعراضنا إلى آخر ما هنالك ما تكلمنا به في الآيات السابقات عن الأعداء الموجودين في الأرض على مستوى الدول وعلى مستوى الأمم، فإذاً ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) إذا كان الخلاف مع المسلمين ومع المؤمنين ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ ) إذا أضلّ الله إنساناً فليس له نصير ولا حافظ من دون الله وإذا غضب الله على إنسان فمن يستطيع أن يرفع غضب الله عن هذا الإنسان؟ إذا الله تخلى عن إنسان عن عونه عن مساعدته عن إغاثته من يستطيع غوثه ومن يستطيع مساعدته ( وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) في النتيجة القصوى في يوم القيامة يوم العرض يوم الحساب ( وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) عذاب النار وتفاصيلها (يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ) هل يمكن رجوعنا إلى الحياة الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل ونطيع الله عزّ وجلّ ونكون من المؤمنين ومن الصالحين طبعاً هذا تمني مستحيل ( وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ الآية 45 ) تراهم يعرضون على النار طبعاً ( عَلَيْهَا ) الهاء راجعة إلى النار إستنتاجاً ( خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ) في الحقيقة هذا التصوير من أدق التصوير لحالة الذّلة والمسكنة والخوف بعد أن يكون قد حكم على الإنسان بحكمٍ لا يستطيع التفلت منه لنتأمل في بعض الوقائع أنه إذا الإنسان تعرّض لموقف وجد نفسه أنه غير مستطيع أن يتخلص منه وأنه واقع في خطيئة واقع في جريمة نرى بعض هؤلاء من اللصوص على التلفزيون تعرضهم الشرطة أو أهل الأمن عصابة سرقة سيارات عصابة سرقة كذا عصابة عدوانيّة نراهم يقفون بين أيدي المحققين أو الشرطة وهم حانيي الرؤوس ينظرون بأطراف أعينهم ينظرون خلسة يسترقون النظر، فالأمر أعظم إذا كان يوم القيامة وإذا كان الإبلاس من رضا الله ومن رحمته، اليأس، اليأس الكلي من رحمة الله فكيف ينظرون إلى النار، هذه الصورة الرائعة ( وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ خاضعين مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ) يسترقون النظر أو يختلسونه إختلاساً (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا ) في هذا الموقف ( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) إن الخاسرين الذين يخسرون يوم القيامة أهلهم وأولادهم وعيالهم بشكل عام وأقاربهم كيف؟ إذا كان إنسان من أهل العذاب مقضيٌّ عليه بالعذاب وبالخلود في العذاب فلا ينتفع بأهله سواءً كان أهله من أهل النعيم أو من أهل الجحيم فهو لا يستطيع أن ينتفع بشكل ولا بآخر. فهو قد خسر أهله فإذا كانوا في الجنّة فهو لا يستطيع الوصول إليهم وإذا كانوا في النار كذلك الأمر فيكون مشغولاً بنفسه ( أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ) وهذا طبعاً تقرير من الله تبارك وتعالى يسمعه الناس وتسمعه الخلائق ويستنتجونه مما يرون من أهوال يوم القيامة ( عَذَابٍ مُّقِيمٍ ) عذاب دائم غير منقطع خالدين فيه.
ننتقل إلى الآية 46 ( وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ ) يوم القيامة في الدنيا قد يكون لهم إذا فسح الله لهم المجال يعني بعض الفاسقين لهم أولياء من جنسهم يعتمدون عليهم أو من غير جنسهم وأقوامٌ يتولى بعضهم البعض ينصر بعضهم البعض، يلجأ بعضهم إلى بعض يستغيث بعضهم ببعض ففريق يغيث فريقاً ويُنجد فريقاً وقد يكونون من أهل الضلالة الله يفسح لهم في هذا طبعاً وتكتب عليهم العقوبات والله أسرع الحاسبين، أما يوم القيامة فيستحيل أن ينتفع إنسان محكوم عليه بالعذاب وبالتخليد في العذاب يستحيل أن يستفيد من تدخل إنسان آخر مهما كان هذا الإنسان مهماً ومهما كان شأنه ربما يخطر في بال البعض أنها الشفاعة، قد يشفع أحد الشافعين، حتى الشّافع ممنوع أن يشفع بدون إذن الله فالشفاعة تستوجب الإذن فإذا لم يكن الإذن يكون القضاء المبرم فلا تنفع ولاية الأولياء ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ ) فما له من مخرج وما له من متنفس لأنه وقع في غضب الله في قضاء الله في تخليده في العذاب الآية 47 ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ) فإذاً أيها الناس ما دام الأمر كذلك وما دام أهل العذاب في مواجهة العذاب كذلك ( خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ) وما داموا يخسرون ( أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) وما داموا ليس لهم ( مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) فهي من أعظم الكوارث المؤبدة والمصائب الدائمة الأبديّة التي هي الخلود في العذاب فإذاً يا أيها الناس ما لكم لا تحاولون التخلّص من هذا المصير الأسود الأبديّ السواد والقضيّة ليست صعبة ولا فيها شيء من الإستحالة والقضيّة بسيطة إستجيبوا لربكم إستجيبوا لأمر الله وأين نجد أمر الله؟ نجده في كتابه وفي آياته وعلى ألسُن رسله وهذه أمور معروفة وهذه الأمور بين أيديكم يعني ساعة تطلبونها تجدونها، تجدون تعاليم الله وتعاليم رسله فاستجيبوا لأمر الله ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ) ومن يستطيع ردّ هذا اليوم؟! ومن يستطيع أن يؤخره ساعة أو يقدمه ساعة؟ فإذاً ( مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ ) يوم القيامة ( وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ) وما لكم أن تنكروا شيئاً من هذا اليوم وليس بيدكم أن تنكروا الآية 48 ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ) فيا رسول الله يا محمد إن أعرض الناس عن وعظك أيها الواعظ وإن أعرضوا عن تبليغك يا أيّ وليّ من أولياء الله في تاريخ البشريّة إلى قيام الساعة فما أرسلك الله عليهم حفيظاً، حفيظاً أي بأن تحفظهم من الضلال بأن تحفظهم من مخالفة أوامر الله بأن تحفظهم من معاصيهم لأنك أنت مهمتك أن تكون نذيراً وبشيراً أن تُبلّغ ما يكلّفك الله تبارك وتعالى به ( إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ ) إن هنا تسمى النافية في اللغة أي ليس عليك إلا البلاغ ما عليك إلا أن توصل إليهم المعاني والأفكار والتعاليم التي أنزلها الله أو التي كلّف بها رسله ما عليك إلا البلاغ يقول الله تبارك وتعالى ( وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ) هنا يجب أن نلاحظ بدقة الفارق بين هذا القول وبين قوله تبارك وتعالى في الآية 30 من هذه السورة المباركة سورة الشورى قوله تبارك وتعالى ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) فأولاً نفرق بين المصيبة التي في الآية 30 وبين السيئة في هذه الآية، فيجب أن ندرك أن المصيبة شيء أعظم من السيئة مما يصيب الإنسان وإلا إذا كان تكراراً وهناك بعض المفارقات في المعاني ( وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ) فما هو المطلوب، رحمة نعمة إذا أذاق الله الإنسان نعمة تراه الإنسان في العادة في اللغة القرآنية غير المؤمن وغير الموقن وإذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها يعني بطر وكان في موقف قد يتجبّر فيه وقد يطغي إذا كانت هذه النعمة من نوع المال أو ما شابه ( وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ) ما هو المطلوب عندما يؤتي الله الإنسان نعمة من نعمه؟ البطر لا يجوز، كما قال الإمام علي (ع) الدهر يومان يومٌ لك ويومٌ عليك فإن كان لك فلا تبطر ولا تعتزّ ولا تطغي وإن كان عليك فاصبر هذا توازن ونراهم هؤلاء الناس الذين يبطرون بالنعمة إذا أصابتهم سيئة بما قدّمت أيديهم فإن الإنسان كفور هنا لا يجب أن نرجع كثيراً في ماضي الإنسان يعني أريد أن نتأمل هنا كذلك بدقة في سلوكنا ما دمنا فرّقنا بين السيئة والمصيبة قلنا المصيبة هي شيء أعظم من السيئة فإذاً السيئة هي شيء غالباً يكون عرضيّ ويكون بسببٍ مما يفعله الإنسان من سلبيّات في حياته، دعنا نعطي أمثلة: قد يصيب الإنسان حالة من الصداع في العادة الناس لا يفكرون بشيء إلا الصداع فعلبة الPANADOL موجودة في الصيدلية الصغيرة المعلقة في الحائط فيأخذون الPANADOL أو ما أشبه من المسكنات ويصيب الناس حالة من وجع البطن فيقولون لهم هذا بسبب البرد هذا بسبب الطعام هذا بسبب كذا، فيلجأون للمسكنات ولأنواع العلاجات، وجع في الخاصرة وجع في الكتف وجع في اليد وجع في الساق كل هذه عندنا تنبيهات وتحذيرات من أنك أصابك صداع فانتبه حاسب نفسك ماذا فعلت فإذا توصلت إلى خطأ ما وجدت أنك فعلته إنحلّت المشكلة عندك إذا استغفرت الله ذهب الوجع هكذا بكل بساطة وكل الأنواع التي عددتها مما يصيب في المعدة مما يصيب في أعضاء الإنسان مما يصيب الإنسان من أمور عرضيّة بسبب ما قدّمت يداه وهذه أمور يقينيّة ولا تجربوا الله في أنفسكم بل خذوها بيقين أنه ما يصيبك من سيئة إلا بسبب إساءة منك عصيت بها الله، طبعاً معصية استدعت هذه الإساءة أو أخطأت خطيئة مع أحد الناس استدعت هذه الإساءة أو بأي سلوك من السلوك الإجتماعي بشكلٍ أو بآخر استدعت هذه السيئة إذاً راقب نفسك وحاسب نفسك ولاحظ وتيقّن أنه بمجرد أن تعرف السبب الذي أوقعك في هذه السيئة وفي هذه الأنواع من الإبتلاءات، وإذا أخذت الPANADOL لوجع الرأس والمسكنات لوجع المعدة وللخاصرة وللكتف ولليد إلخ… هنا الفارق أنك في الحالة الأولى إذا لجأت إلى الله واستغفرت الله وأذهب عنك هذا البلاء أنت مأجور، وفي الحالة الثانية ما دمت لجأت لغير الله وما استغفرت الله فلا تكون قد خسرت الأجر فقط وإنما قد تكون آثماً إذا وقعت في الشرك الخفي يعني جعلت لله شريكاً في شفائك وجعلت لله شريكاً في إنقاذك مما أنت فيه وهذه مشكلة خطيرة لا سيما أن الله يقول ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ سورة النساء الآية 48 _ 116) بعض الناس قد يستعملون العلاج متوكّلين على الله فإذا قلنا نحن وكتبنا في هذا المجال أنه أمر لا بأس به المهم التوكّل على الله وحسن التوكل على الله فهذا في مجال السيئات وليس في مجال المصائب، الكلام عن المصائب تكلمنا عنه في الآية 30 كما ذكرنا فإذاً أعيد الآية لتتركزّ في الذهن وهي قوله تبارك وتعالى الآية من الأول ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ ) اللهم إني قد بلّغت ( وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ) المطلوب التوازن وليس البطر والمطلوب الشكر لله على النعمة لأن البطر ليس فيه شكر لله في حال أن أنعم الله على إنسان ينبغي الشكر ( وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ ) واين كفر الإنسان عندما تصبه السيئة بما قدّمت يداه هذه الوصلة الأخيرة من الآية، كفره بنسيان الله وكفره بأن الله يعلّمه أن هذا بما قدمت يداك فعدْ إلى الله واستغفر الله تبارك وتعالى فلا يعود ولا يستغفر فيكون قد كفر هذا من جانب ومن جانب آخر إذا أتاه الله رحمة نعمة فبطر بها وما شكر والله يقول ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ سورة إبراهيم الآية 7 ) هو الكفر بالنعمة هو الكفر بالنعم وليس بالضرورة أن يكون كفراً بالله تبارك وتعالى ننتقل إلى الآية 49 ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) آيتان 49 و50 فإذاً ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) واضح لا يملك أحدٌ مع الله الملك الحقيقيّ كما قلنا هو المالك لما ملّكهم وهو القادر على ما أقدرهم عليه ( يَخْلُقُ مَا يَشَاء ) في السماوات والأرض من عناصر موجودة في هذا الكون في هذا الوجود ومن أحداث ( يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا ) طبعاً هي مقدمة لهذه المعاني ( يَهَبُ ) الله تبارك وتعالى ( لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ) فإما أن يرزق الإنسان إناثاً فقط وإما أن يرزقهم ذكوراً فقط أو يزوّجهم ذكراناً وإناثاً في أحد وجهي المعنى وللمعنى وجهان أو يجعلهم توائم في الأرحام زوج زوج، ذكران أو أنثيان أو ذكر أو أنثى أو عدة توائم دفعة واحدة فيهم ذكور وفيهم إناث أو يكونوا كلّهم ذكراناً أو كلّهم إناثاً كل هذا من مصاديق قوله تبارك وتعالى ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) هذا في الوجه الأول فإذاً الله هو القادر على هذا والله العالم بهذا والله الفاعل لهذا فالمعنى الآخر ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ) من الزواج يعني الرجل يتزوج المرأة لينجب ولي إلى آخر ما هنالك من مصالح في الزواج هذا الوجه الآخر فإذاً هنا يجب أن نستفيد من الآية أن كل زواج هو بعلم من الله ولله فيه أثر مباشر بشكل أو بآخر ولا يكون الخيار للإنسان أبداً ولن يكون الإنسان مستقلاً في هذه الأمور وهذه معلومة هي بفضل من الله يجب أن نتوقف عندها لأنها تحلّ مشاكل كثيرة عند المتزوجين مشاكل نفسية ومشاكل إجتماعيّة ومشاكل في العلاقات يا ليتني تزوجت فلانة ولم أتزوج هذه التي عندي يا ليتني كذا ويا ليت كذا ومقارنات أحياناً سلبية وأحياناً إيجابية فيما يحصل للرجل في بيته وفي علاقته مع أهله فَلَيعلمنّ أن الله شاء له هذا وقَدّر له هذا وقضى له هذا فليكن في جميع الحالات من الشاكرين ولِيُهندس وضعه في بيته وفي علاقته مع أهله على هذا الأساس ودائماً المرجو في هكذا حال والمأمول هو الصبر بالله في الحالات التي تستدعي الصبر والشكر لله ودائماً وغالباً الحالات تستدعي الشكر لله تبارك وتعالى فإذاً ( وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا ) لا يلد لا ينجب الرجل ولا المرأة لا ينجبان ( إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) ننتقل إلى الآية 51 ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً نحن تحدثنا مفصلاً عن الوحي في كتاب ” دعوة إلى الله ” ونذكر هنا أنه في جملة أنواع الوحي أن الله يُملي على الموحي إليه ما يكتب، يُملي عليه ما يكتب فهذا من أنواع الوحي وفي جملة أنواع الوحي، بطبيعة الحال الإشارة والعبارة، وهذه أمور فصّلناها في مكانها أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ يكون الوحي يعني يكلّم الله بشراً دون أن يرى هذا البشر الله عزّ وجلّ قال موسى ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ سورة الأعراف الآية 144 ) فإذاً ممنوعة رؤية الله في الحياة الدنيا، ولماذا حدّدت في الحياة الدنيا؟ فهل رؤيته تبارك وتعالى ممكنة في الحياة الآخرة؟ نعم هذا كلام عليه إجابات مع تأكيد قوله تبارك وتعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الله أكبر ومع تأكيد قوله تبارك وتعالى ( بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيط سورة فصلت الآية 54 ) أنه محيط بالوجود بالأكوان، فكيف تكون رؤيته على دعوة أنه يمكن أن يُرى في الآخرة، نقول باختصار شديد هو نوع من التجليات النورانية تحبُّباً بعباده بأولياءه، وبمن يحبهم من خلقه وتقريباً لهم أعتقد هذا يكفي وقد ذكرنا كذلك في كتابنا الأخير ” مفتاح المعرفة وفيه شطحات أهل العرفان ” ذكرنا عن هذا أعتقد ما يكفي إن شاء الله، إذاً ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) ستار ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ) رسولاً من ملائكته (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء ) ما يشاء الله عزّ وجلّ ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) عليّ ليس فوقه شيء هو العليّ الأعلى، الله تبارك وتعالى وقد تسير مليارات السنين وتسير أبد الأبدين في أي إتجاه من إتجاهات هذا الكون وحيث تصل بعد مليارات السنين ترى نفسك أنك عليك أن تقول ” الله أكبر ” ثم تتابع مليارات السنين وترى نفسك أنه واجبٌ عليك أن تقول حيث تصل ” الله أكبر ” فإذاً عليٌّ حكيم، حكيم فيها معنيان حكيم من الحكمة وهو الذي يعلّم الحكمة لعباده، وحكيم أنه أحكم الأمور في ما خلق في أبعادها وأطوالها واعراضها وهندستها وتفاصيلها الدقيقة في ظاهرها وباطنها هذا من المعنى الأول من الحكمة والمعنى الثاني من الإحكام ننتقل إلى الآية 52 ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا يا رسول الله يا محمد مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) نعود إلى الآية 52 ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) قلنا يا محمد يا رسول الله ونقول ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) يا أي وليّ من أولياء الله إذا كنت ممن تفضل الله عليهم بوحيٍ من عنده كما قال سبحانه في نفس هذه الآية حيث قال ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) فإذاً لم يهدِ محمداً فقط بهذا النور وإنما يقول تبارك وتعالى ( نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) وليس من شِئنا في الماضي من عبادنا تلاحظون اللغة ( نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) في الماضي والحاضر والمستقبل وإلى قيام الساعة يبقى أن نقول أن هذا الذي يحدثنا عنه الله تبارك وتعالى ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا ) ليس هو جبرائيل لأن جبرائيل له إسم وله أسماء وجبرائيل لم يكن نوراً فقط وإنما جبرائيل كان يتمثل باشكال فهنا بالضرورة ونحن على بينة من ربنا تبارك وتعالى في هذا الأمر (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) قلنا يا رسول الله يا محمد ما كنت تدري ما الكتاب القرآن المجيد هذا الذي بين أيدينا وربما الكتب التي قبله لأنه كذلك تندرج تحت إسم الكتاب كما نعلم وتعلمون مثل التوراة والإنجيل وما سبق مما أنزل الله تبارك وتعالى ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) الآن أي إنسان عادي في المجتمع قد تجده في الطريق يقول أنا مؤمن وتقول له أنت مؤمن ليس هذا الإيمان المقصود المقصود هنا الإيمان الحقيقي والإيمان اليقيني الإيمان المعرفي الذي فيه معرفة الله كما يشاء الله وكما يريد الله فإذا كان الخطاب لرسول الله (ص) وهو كذلك من باب أولى في البداية فمحمد لم يكن يعرف ما الكتاب وهذا أمر طبيعي ( وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى سورة الضحى الآية 7 ) ولم يكن يعرف ما الإيمان بالله ولم يكن يعرف ما علّمه الله عن ذاته تبارك وتعالى كما هي المعارف التيفي القرآن الكريم عن الله عزّ وجلّ وكذلك يا وليّ الله ويا أي وليّ من أولياء الله قبل أن يوحي الله إليك وقبل أن يؤيدّك الله تبارك وتعالى بهذا الروح الذي جعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده فإذا كان قد أيّدك بشيء من هذا فقبل أن يؤيدك الله لم تكن تعرف ما الكتاب ولا أسرار الكتاب ولا ما في بواطن الآيات طبعاً هذا بالضرورة يجب أن يعرفه من يؤيده الله بهذا الروح فلم تكن تعرف شيئاً يا وليّ الله ولكن الله بعد أن أوحى إليك هذا الروح من أمره والذي جعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده، بعد أن جعل الأمر كذلك يقول لك ويُمكنك ويُؤيّدك ويعطيك البيّنة بقوله (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) يبشرك بذلك ويجعلك على بيّنة وعلى يقين من أمرك ليرتاح به ضميرك ويرتاح به وجدانك وتستطيع مع هذا أن تقول أنا على بيّنة من ربي وهذا من أعظم ومن أفضل ما يؤتي الله عزّ وجلّ إلى أحد من عباده وهو ذو الفضل العظيم نتابع الآية الأخيرة ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) صراط الله الذي نذكره كلّ يوم مرات عديدة في صلواتنا الواجبة والمندوبة في قولنا ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ سورة الفاتحة الآيتان 6-7 ) من هم الذين أنعم عليهم؟ الذين أنعمت عليهم من الأنبياء والمرسلين ومن خاصّة عبادك ومن أحبائك يا ربّ العالمين، فإذاً هذا الصراط المقصود هنا في هذه الآية ( صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) وما فيهنّ وما بينهنّ وهو ربّ العرش المجيد ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) ألا للتحضيض وللتبشير، بشرى للمؤمنين بشرى لأهل اليقين
بشرى لأنصار الله، يا أنصار الله ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، ونذير لغير المؤمنين كما قال لهم في آيةٍ سابقة ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ سورة الشورى الآية 47 ) وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، سبحانك لك الحمد لا إله إلا أنت إغفر لنا وتُب علينا.