علم الفلك في القرآن يفتح العقل على مصراعيه :
إنّ علم الفلك في القرآن ـ فضلاً عن بقية العلوم فيه ـ يشهد أولاً أنَّ لا إلـه إلاَّ الله ، ويشهد ثانياً أن محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله ويشهد ثالثاً أن القرآن الكريم هو من لدن الله جلّت عظمته . وعلم الفلك ، وحده ، في القرآن ، يكفي لأن يجعل العقل الإسلامي عقل عالم ، فكيف ببقية وجوه الشهادة ، ووجوه الإثبات ، ووجوه الإعجاز ، التي إذا اجتمعت لإنسان أسلم لربّ العالمين إسلاماً حقيقياً كاملاً ، جعلته أعلم العلماء على مستوى البشر ، وفي شتى المجالات ، شرطه أن يأتمر بما أمر الله به محمّداً صلى الله عليه وآله وكل مسلمٍ لله تبارك وتعالى إسلاماً صادقاً :
{.. َقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }(سورة طـه ، الآية 114 ).
قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }(سورة الأنعام ، الآية ( 162 ـ 163 )) .
ففي عصر محمّد صلى الله عليه وآله لو كنت أنت وسألت أعلم أهل الأرض في أرقى الحضارات آنذاك من اليونان إلى الفرس إلى الرومان : ماذا في السماء ؟ فسيكون الجواب : نجوم ثابتة ، أو بتعبير آخر ( علمي ) عندهم آنذاك: مسامير ضوئية .
وإذا سألت كم سماء فوق هذه ؟ فسيكون هذا السؤال من العجب . أيوجد أكثر من سماء ؟ هكذا كان حال أعلم العلماء في بقاع الأرض قاطبة أيام رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله . فما بالك إذا سألت الأعراب والبدو الذين كانوا حول محمّد صلى الله عليه وآله وليس عندهم أي لـون من ألـوان الحضارة .
وهم لولا الإسلام العظيم لكانوا ظلّوا إلى يومنا هذا عيّنةً من عيّنات القرون الوسطى، إلاَّ أنّهم بالإسلام فيما بعد، سادوا حضارات الماضي ، ووضعوا الأسس الإيجابية لحضارات اليوم. وهم إذا رجعوا إلى الله متمسكين بكتابه الكريم وبسنّة محمّد وآل بيت محمّد صلى الله عليه وآله ، فسيبنون حضارة المستقبل ، بدون سلبيات . فيسعدون سعادة الدارين ويسعدون معهم البشرية .
ثم من أين لرسول الله صلى الله عليه وآله ، أن يعلم آنذاك ، مفاد الآيات التي في القرآن ، والتي تكشّف منها جانب بعد تطوير التلسكوب الذي استعمل أول مرة في القرن السابع عشر ، أي بعد ( 1200) سنة حوالي إثني عشر قرناً من نزول القرآن العظيم .
من أين لرسول الله محمّد صلى الله عليه وآله أن يعلم ، لولا القرآن أولاً، ولولا المعراج ثانياً ، إلى السماء السابعة :
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }(سورة النجم ، الآيات ( 8 ـ 9 ) )
والقاب ، هو المعروف في الهندسةRayon بشعاع الدائرة . فإذن انطلق محمّد صلى الله عليه وآله من مركز دائرة السماء الدنيا ، خارجاً من أحد أقواسها ( وذاك هو القاب الأول ) ثم ارتفع مسافة القاب الثاني ، مقارباً قوس الدائرة الثانية “وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلّى ” فكان أدنى قليلاً من قاب قوسين ، غير مرتكز على شيء مادي ، حتى ولا على نظام الجاذبية . كذلك ممـّا يجب أن يستفيده علم الفلك الحديث ، أن جميع الفتوحات العلمية الباهرة في عالم الكواكب والنجوم والمجّرات والأبعاد الهائلة التي تقاس بملايين السنين الضوئية ، كل ذلك ، إنّما يقع تحت السماء الدنيا ، التي فوقها ستّ سموات ، فوقهنّ العرش العظيم .
ثم إنّ رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله كان همّه الأول والأكبر ، أن يقنع بدعوته العرب أولاً وبشكل خاص ، لأنهم على عنفوانهم ، ونزعتهم المتميزة إلى الحرية والفردية ، سيكونون كما أراد لهم وعلّمهم الله سبحانه ، قاعدة الدعوة ، وأساسها،وركيزتها .
إذ أن القرآن هو لبّ الدعوة وعقلها ، وهو عربي ، ولا يمكن أن يستسيغه ، ولا حتى أن يقبله ، بالبداهة ، والتفاعل السريع ، غير العرب .
ومعلوم تاريخياً ، أنّ العرب آنذاك ، زمن محمّد صلى الله عليه وآله لم يكونوا أهل حضارة وعلوم ، بل كان أبرز شأنهم ، التجارة في العواصم ، والرعي والبداوة ، على امتداد شبه الجزيرة العربية ، إضافةً إلى اللغة الصافية التي كانت الطابع المميّز ، لهؤلاء وهؤلاء ، من أهل حضر وأهل وبرّ .
فلو كان الفكر هو فكر محمّد صلى الله عليه وآله ، والتخطيط لنجاح الدعوة هو تخطيطه ، فأول ما كان يجب أن يتعامل مع هؤلاء القوم ، بما يفهمونه،ويستجيبون له . فلماذا جاءهم ومن أين ، بهذه الآيات العلمية ، التي كانت ربمـا ، متعبة لهؤلاء القوم ، وهو لا يريد أن يتعب أفكارهم . هو يريد أن يقنعهم . وواضح أن هذه الآيات العلمية ، لم تساهم أيّة مساهمة في إقناعهم . فلماذا الآيات العلمية الكثيرة والمعقدة ؟
إذن لا شك البتة ، في أن محمّداً صلى الله عليه وآله لم يكن المخطط ، وأن محمداً صلى الله عليه وآله لم يكن المفكّر بما ينفع ، وبما لا ينفع من الآيات ، وإنما كان محمّد صلى الله عليه وآله السامع ، المتلقي ، ثم المبلّغ حرفياً لما يتنـزل عليه من ربّه ربّ العالمين .
ولولا أن القرآن الكريم هو وحي من الله سبحانه ما كان محمّد صلى الله عليه وآله يستطيع أن يتحف مستقبل البشرية بهذه الآيات الباهرة ، في مجال الفلك والنفس والإنسان والطبيعة والكون كلّه ، ثم لم يكن منها فائدة ما دام لا يفهمها أحد من الناس إلاَّ من رحم ربّك . فمن أين أتى محمّد صلى الله عليه وآله بهذه الأسرار ؟ وهي لم تفده ولم ترفده في دعوته آنذاك لا من قريب ولا من بعيد . وإنما ظلّت مئات السنين أسراراً ورموزاً ، حتى قيّض الله سبحانه كشف مصاديقها للعلماء . فمن أين لرسول الله محمّد صلى الله عليه وآله كل ذلك ،
إذا لم يكن نبياً مرسلاً من لدن الله تبارك وتعالى ، والقرآن وحياً يوحى :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }(سورة النجم ، الآيات ( 3 ـ 5 ) ) .
وهل كان لأي إنسان آنذاك ، مهما علا شأنه ، أن يلمّ بهذه العلوم العالية ، بدون مقدمات علمية ، وأدوات فكرية ومادية ، تساعده على معرفة هذه الأسرار . هذا مستحيل . فإذن وحده خالق هذا الكون ، هو الذي أخبر عنها في القرآن الكريم ، وهو الذي علّم رسوله محمّداً صلى الله عليه وآله وعلّم بعده أولياءه ، ثمّ البشرية . لأنه وحده تبارك وتعالى يحيط بأسرار السموات والأرض وما بينهما ، وهو بكل خلق عليم .
من هنا يتّضح بشكل قطعي ، أن القرآن لا يمكن أن يكون من عند غير الله سبحانه :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا . وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا }(سورة الفرقان ، الآيات ( 4 ـ 6 )) .
{ ..وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا }(سورة الفرقان ، الآية 8) .
بقي علينا أن ندرك ، أنه ما دامت آيات كثيرة ، فيها مثل هذه الكنوز العلمية ، ولم يكن عند الماضين ، تمكين لسبر أغوارها وفكّ رموزها ، بل كانوا يمرّون بها مكتفين بما يحمله ظاهرها المريح لإفهامهم على قدر أفهامهم ، فكذلك ما زال الكثير أيضاً من الآيات في عصرنا هذا ، هو بالنسبة للمفسرين من المُغْلَقَـات المغلّفـات بالجمـال والإقنـاع علـى قـدر الحاجـة . ولكنهـا يقيناً ستحمل فتوحـات ما بعـد الكشف عن مضامينها ، أو عن مصاديقها في كتاب الكون.