غرق الدولة العبرية في المحيط العربي ـ الإسلامي :
بعد استعراضنا لوعد الله تبارك وتعالى في آيات كريمة ، بخصوص السقوط الكبير بعد العلو الكبير لدولة بني إسرائيل . فقد بات حقاً علينا وواجباً أن نقرأ الآتي القريب على الأرض أو على الخارطة العالمية ثم الإقليمية .
فبعد أن قلنا إنه ، ولعله ليس شرفاً لنا أن نلحق بالحضارة الزنديقة وأن هذا الشرف بعدم اللحاق ، هو مـمّا اختصّ سبحانه به هذه الأمة ، التي هي عنده تعالى خير أمة أخرجت للناس ، لكي لا تغرق في الزندقة وبعد أن قلنا بوجوب التحوّل عن هذا المطلب الذي وكأن الله جعله علينا مستحيلاً لكي لا نكون وقوداً للنارين في الدنيا والآخرة ، فله الشكر سبحانه وله الحمد كما ينبغي لكرم وجهه ، وبعد أن قلنا بوجوب العمل بجد ضمن إمكاناتنا التي مكّننا منها سبحانه ، دون أن نستعطي أو نتوسل ، متوكلين غير متواكلين ، فهو الناصر سبحانه وهو الكافي ، وأن الأمر أمره والخطة خطته وعليه عاقبة الأمور ، وبعد أن قلنا إِنَّه بعد هدم وتمزيق دولة الإلحاد في الإتحاد السوفياتي وبقية الدول الشيوعيّة آتية القيامة الصغرى على إسرائيل وأميركا وأوروبا والصين وأحلافهم، حيث بين يأجوج وماجوج وحرائق عالمية ستسقط حضارة الغرب الزنديقة ، حضارة الجنس والفلتان ، وظلم الشعوب المستضعفة ، حضارة التعبّد للآلة والدولار والمظاهر الكرتونية . حضارة الكفر بالله والشرك بالله ومعصية الله عن سابق تصوّر وتصميم . وبسقوط هذه الحضارة طبعاً تسقط معها القوى العسكرية ، وتصبح الدول والمدن بين طعام للنيران وبين عرضة للطوفان الذي سيكتسح معظم شواطىء أوروبا وأميركا وبعض شطآن آسيا مغرقاً عواصم ومدنا ً ومعها حضاراتها الفولكلورية وكرنفالاتها العربيدة ، الموعودة بوعيد الله جلّ جلاله ، قوله تعالى :
{ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ. ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}P(1)P.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة غافـر ، الآيات ( 75 ـ 76 ) .
بعد هذه النهاية المرسومة قدراً وقضاءً من الله سبحانه لتساقط الدول العظمى والدول الأعظم والتابعين من المغرورين بمظاهر القوة من جميع الدول وجميـع الملل ، والذين سيكـونون مع أسيـادهم مصـاديق لقول الله عزّ شأنه :
{ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }P(1) P.
بلى إنه عزّت قدرته كان وما زال وسيبقى بالمرصاد لجميع الطغاة والمجرمين المفسدين في الأرض ، فإنه لا يحب المفسدين ولا يحب المعتدين ولا يحب الكافرين .
بعد هذه النهاية المقرّرة من ربّ العزّة والجبروت ، ماذا يبقى على صعيد القوى في الأرض ، بعد أن يذهب أهل الشمال بهيبتهم وغطرستهم وقواهم المادّية والعسكرية وإعلامهم المنافق ، وبعد أن يذهب ترفهم الذي يعتزّون به وما زالوا لغاية كتابة هذه السطور ، وهم يقولون إن هذا الترف من حقّهم وحق شعوبهم وإنهم لن يتخلوا عن شيء منه لأهل الجنوب ، ويقولون ولماذا لا يشدّ أهل الجنوب أحزمتهم ، ليستطيعوا تسديد الديون لأهل الشمال ، حيث أن هذه الديون تتراكم يوماً بعد يوم وتتضخم بفعل الربا المتزايد كذلك ، الربا الذي جعلوه أسلوباً مقدساً من أساليب هذه الحضارة الزنديقة ، رغم أن الله تعالى جعله من أعظم المحرمات .
وهؤلاء ، أي الدول الغنية ، هم أسْمَوا أنفسهم ، أهل الشمال وأسموا الدول الفقيرة أهل الجنوب ، إلاَّ أننا نحن نقول أصحاب الشمال وأصحاب اليمين ، لأن القرآن الكريم يسمّيهم كذلك، وليس في القرآن لفظة جنوب،
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفجر ، الآيات ( 11 ـ 14 ) .
علماً أنه ورد فيه شرق وغرب وشمال ، فما عنوه هم بأهل الجنوب رمز إليه القرآن الكريم بعبارة { أصحاب اليمين } .
ولماذا أسموا أنفسهم أهل الشمال ، هذا من العَجَب ، إذ أن التسمية هي رمزية كما أرادها الله سبحانه ، فهو تعالى قهرهم عليها وألزمهم بها ، والعجب فيها أنهم أخذوا يتداولونها رغم أنها لا تدل على وجودهم جميعاً شمال الكرة الأرضية ، كما لا تدل عبارة { أهل الجنوب } على وجود جميع الدول الفقيرة جنوب هذه الكرة . ولكنه هو السر الإلـهي الذي أراده الله تعالى تحقيقاً لوعده لأهل اليمين المؤمنين المستضعفين ، ووعيده للآخرين ، وذلك في عمرالبشرية ماضيـها وحاضرها ومستقبلها ـ مع حسبان الإستثناء من كل قبيل ـ قوله تعالى :
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ . فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ . وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ . وَمَاء مَّسْكُوبٍ . وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ . وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ. إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا . لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ . ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ }P(1) P.
وأما وعيدُهُ ، فقوله عزّ شأنه :
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ . فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ . لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ . إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ . وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ }P(2) P.
والحِنْثِ العظيم هو كل ذنبٍ عظيم ، وما أكثر ما يخالفون تعاليم الله ، وما أكثر ما يذنبون ، وما أكثر ما يجرمون ، وحسبنا أغداقهم العون والمساعدات وآلات الموت ضدنا على أفسد أهل الأرض في هذا الزمان ، دولة بني إسرائيل ، لتزيد طغياناً وغطرسة وتجبراً ، وهي في نفس الوقت تكفرهم وتزدريهم ، وتدوس قراراتهم وقرارات مجالسهم : الأمن والأمم المتحدة وغيرها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الواقعة ، الآيات ( 27 ـ 40 ) .
(2) سورة الواقعة ، الآيات ( 41 ـ 46 ) .
من المؤسسات العالميـة ، ومـع ذلك كلـه كأنمـا شملهـم العمـى ، وصدق الله العظيم:
{ .. فَإِنَّهَا لَا تَعْـمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } P(1) P.
إسرائيل هذه ، ستغرق في المحيط العربي ـ الإسلامي في السنة اللاحقة للحرب العالمية الثالثة . بعد أن تصبح القوّة الباقية والفاعلة على الأرض ، هي القوة العربية ـ الإسلامية .
أما كيف يتلاءم ذلك مع وعد الله تبارك وتعالى من حيث أن الفتح لن يتم إلاَّ بأيدي المؤمنين ذوي الصفات التي ذكرنا آنفاً ، والتي أبرزها أن يكونوا أنصاراً حقيقيين لله وحده دون شريك . وأن تكون شعاراتهم وهتافاتهم ، ونداءاتهم ودعاؤهم لله وحده ، واستغاثاتهم بالله وحده وأن لا يجعلوه مع أحد من خلقه على طاولة مستديرة واحدة ، ذلك بأنه لا يجوز أن يقاس بأحد من خلقه ، ولا قياس ، فسبحانه وتعالى عن جميع من خلق وما خلق .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }P(1) P.
أما كيف يتلاءم الفتح المرتقب مع حالة الأمة الراهنة ، حيث أنها بدولها العربية وغير العربية ، أكثرها علماني أو متوجه نحو العلمنة ، وأكثرها يتلبس بإسلام شكلي ، رؤساء ومرؤوسين ، فضلاً عن البؤر الواسعة التي تناضل فيها بعداوة مريرة ضد الإسلام ، إما لأنها منحرفة عن صراط الله العزيز الحميد ، وإما لأنها عاشت حالات رعب من ممارسات مدّعاة أنها إسلامية ، في سياق حماس موتور ، ما أنزل الله به من سلطان . وهذا النوع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحج ، الآية 46 .
(2) سورة لقمان ، الآية 30 .
الثاني ، هذه البؤر الخائفـة من الإسـلام ، معـذورة نسبيـاً ، وهي عنـدما تعيـش ممارسـات إسلامية حقيقية ، عادلـة ورحيمـة ، سرعـان ما سترفـع رايـة لا إلـه إلاَّ الله وتهلّـل وتكبّر وتملأ قلوبها بالحب الأقدس للأعـزّ الأجـلّ الأكـرم ، الرحمن الرحيـم.
ويبقى السؤال كيف التلاؤم بين الأكثرية الجاهلة للإسلام ، أو الأكثرية غير المؤمنة ، في الأمة الإسلامية المرتقبة للفتح المبين ؟
والجواب هو في الآية الكريمة :
{ .. كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ .. }P(1) P.
على تفاوت في الدرجات ، على أن الآية في آخرها ذكرت ما سيلحق أنصار الله الحقيقيين قوله تعالى :
{ .. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }P(2.
وهكذا يكون بقية أفراد الأمة الذين هم من غير الصفوة المجتباة ، مصاديق لقول الله تعالى :
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }P(3) P
وهكذا ستكون الأمة الإسلامية بجميع درجات أبنائها الإيمانية ، من قادة وعساكر ، جاهزة للإنقضاض على صفـوة الظلم البشري ، أعـداء الله المفسدين في الأرض ـ دولة بني إسرائيل . ولا ننسى أن الميزة الأساسية للأمة على أعدائها ستكـون آنذاك ، هي تأييـد الله ، ووعـده الحـق لأنصـاره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفتح ، الآية 29 .
(2) سورة الفتح ، الآية 29 .
(3) سورة الحجرات ، الآية 14 .
الموحدين ، بالفتح المبيـن ، يبشّرنا الله تعالى به ، على أنه حقيقة قائمة ، قوله تعالى عن بني إسرائيل :
{ .. وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }P(1) P.
وهذه الآية كما أشرنا من قبل ، مرفودة بآيات سورة الإسراء المتعلقة بهذا الأمر . وهذه الآية أيضاً ، يمتد خبرها ومصداقيتها من طريقة إخراجهم من المدينة المنورة ،وكل الجزيرة العربية ، إلى إخراجهم الوشيك إن شاء الله تعالى من فلسطين .
واستعمال الأفعال الماضية هنا كذلك يحمل الوجهين : الوجه الأول وهو الذي تحقق عهد الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله ، والوجه الثاني الذي هو على سبيل التحقيق في المستقبل القريب بإذن الله تعالى ، ومن أصدق من الله قيلاً ومن أصدق من الله حديثاً .
واستعمالات القرآن الكريم لصيغ الماضي عن أمور ستتحقق في المستقبل كثـيرة جـداً ، وهـي من باب قول أهل النار لـخازن النار على سبيل المثال :
{ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ }P(2) P.
وكذلك الآيات الخمس الأولى من سورة الروم ، والتي هي أنـزلت أيضاً تحمل وجهيـن ، مرحلتيـن ، خبرين مستقبليِّين ، أولهما وقع عهد رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وهو المعروف تفصيله في كتب التفسير التي لم تتعرض للوجه الآخر المستقبلي والذي هو قيد التَّحقُّق ، وللنظر في الآيات الكريمة قبل أن نعرض تأويلها ، قول الله عزّ وجلّ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحشر ، الآية 2 .
(2) سورة الزخرف ، الآية 77 .
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَـاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }P(1) P.
وفي الفعلين ( غُلبت ) و ( سيَغلبون ) قراءتان : الأولى هي المشهورة في المصحف الشريف بضم غين الأول وفتح ياء الثاني ، أما القراءة الثانية التي سنقرأها بناء على الخبر المستقبلي الذي نحن بصدده ، والتي تحقق بعضه في حرب الخليج . فسنقرأه هكذا :
{ غَلَبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْـدِ غَلَبِهـِمْ سَيُغْلَبُونَ … }.
أي بفتح غين الفعل الأول وبضم ياء الفعل الثاني .
فيصبح المعنى في القراءة الثانية أن الروم هم الذين تغلبوا على خصومهم في أدنى الأرض ، وذلك أمر وقع كما هو معلوم ، إبان فصل الشتاء من السنة 1411 هـ ـ 1991 م ، حيث اجتمعت الروم وتحالفت رغم خلافات بين كثير منها ، تحالفت في جميع أقطار الأرض لتنتصر في حرب خاطفة طاحنة على خصومها في أدنى الأرض ، وكلمـة أدنى الأرض ، من الشواهد البارزة على ذلك ، فمكان المعركة في العراق والكويت ونفس الحجاز، أدنى إلى مكان نزول القرآن الكريم على قلب محمّد صلى الله عليه وآله وأقرب من فلسطين ، ( حيث كانت فلسطين وبلاد الشام عامة هي المقصودة في الوجه الأول من الخبر القرآني ) وهكذا سيطر الغرب أو الروم بالمعنى التقليدي ، على جميع المنطقة في الشرقين الأدنى والأوسط ، وهو في صدد أن يسيطر على العالم كلّه بنفس إمبريالي يعدّ له الآن العدد والعدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الروم ، الآيات ( 1 ـ 5 ) .
أما الشاهد البارز الثاني على مصداقية الوجه المستقبلي للآيات الكريمة فهو قوله تعالى:
{ َيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ … الآية } .
وهكذا يظهر بوضوح أكثر مـمّا يظهر من الوجه الأول لزوم الفرحة للمؤمنين ، حيث أن فرحهم بالنسبة للخبر الذي مضت مصداقيته كان بانتصار الروم على الفرس ، والروم عهد ذاك نصارى والفرس وثنيون .
وصحيح أنه من الطبيعي أن يفرح المسلمون بانتصار مسيحيين على وثنيين حيث كان حرص مشركي العرب آنذاك انتصار الوثنيين لمشابهتهم لهم . إلاَّ أنه من الطبيعي أكثر أن يفرح المسلمون أكثر بأن يُغلب على أمرهم جميع الفرقاء الذين نصّبوا أنفسهم أعداءً للإسلام والأمة الإسلامية وأن يهزم بعضهم بعضاً وهم أهل الغرب عامةً ، أصحاب الحضارة الزنديقة، وتكون فرصة المسلمين في هكذا حال أعمّ وأعظم ، حيث تبقى الأمة الإسلامية هي الأسلم والأنقى والأقوى على الأرض ، لأنها كانت وستبقى بإذن الله ، هي الأعبدُ لله والأطوعُ لتعاليمه والأحرصُ على رضاه ، وبكلمة ، لأنه كان في خلاصتها الموحّدون الحقيقيون ، أنصار الله جلّت عظمته ، وتبارك وتعالى عمّا يشركون .
وبذلك يكون الفصل في الكلام ، أن الروم ، وهو الإسم التقليدي عندنا لأهل الغرب عامة ، النصارى منهم والملاحدة ، سَيُغْلَبُونَ ، سيغلب بعضهم بعضاً ، وذلك سيكون هو النصر الموعود في الآية الكريمة ، بزوال القوى المعادية لله تبارك وتعالى وبقاء الأمة الإسلامية التي كانت خير أمةٍ أُخرجت للنّاس بفضل الله ورحمته .
{ .. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ .. }P P.
بخصوص القوى الهائلة التي ستدمر في الحرب الموعودة ، ثم يؤيّد الله عزّ شأنه أنصاره وينصرهم نصراً عزيزاً على دولة المفسدين في الأرض ، دولة بني إسرائيل كما أشرنا بإسهاب ونحن بصدد الآيات الملحمية
الكريمة . ثم يبقى من يبقى من أهـل الأرض مصداقـاً لوعده تبـارك وتعالـى في قوله :
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }P(1) P.
وواضح أن الشرط الأساسي لهذا الإستخلاف في الأرض وهذه العطاءات المصيرية والعالمية ، التي هي أعلى وأرقى ، وأجمل وأبهى ما يطمح إليه المجتمع البشري في الحياة الدنيا ، أن الشرط الأساسي للحصول على كل ذلك هو التوحيد الصافي ، النقي ، وهو الدين المخلَص لله ، المخلَّص من كل شائبة ، والمخلّص من كل شريك ، صنماً كان أو وثناً ، نبياً كان أو إماماً أو ولياًP(2)P. ذلك قوله في الآية الكريمة :
{ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } .
أما العبارة الأخيرة من الآية قوله تعالى :
{ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } P.
فتنويه على أن الأرض لن تخلو من فسقة ، لأنها لن تكون الجنة الموعودة ولا بحال من الأحوال . ولعل من وجوه الحكمة ، والدار دار تكليف ، أن يبقى المؤمن يرى الأضداد لتبقى عنده الحوافز على تقوى الله عزّ شأنه . والضدّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ .
ثم إن التبادر في مجمـل الآيـة يوحي بأن الفسّاق الذين سيبقون فـي الأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النور ، الآية 55 .
(2) وهذا لا يتنافى مع مفهوم الولاية كما ظنَّ ويظن بعض الذين يتساهلون في الولاء لرسول الله وأهل بيته صلى الله عليه وآله . فآية الولاية تحسم الأمر حتى لا لبس فيه ، قوله تعالى :
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } . سورة المائدة ، الآية 55 .
سيكونون قلة لا تزاحِم ، ليس لهم حكم ولا قوة .
والحمد لله ربّ العالمين على ما أولانا وعلى ما أعطانا وعلى ما سيولينا وسيعطينا إن شـاء الله ، من جوده وفضله ، ورأفته ورحمته ، وهو العزيز الوهاب . عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير .