قانون الهلاك والإهلاك :
من المعلوم في العرف الديني القرآني ، أن الأعمار مؤجلة بآجال ، أو موقوتة بمواقيت، وذلك اعتماداً على آيات أشهرها قوله تعالى :
{ .. فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }(سورة الأعراف ، الآية 34).
والفهم الظاهري عند الناس عامة ، أن الإنسان لا يموت قبل أن يستكمل عمره المكتوب له ، لا يزيد عن ذلك ولا ينقص منه .
والحقيقة هي غير ذلك . الحقيقة أن هناك عمراً مكتوباً أصلاً وهذا صحيح ، ولكن قد يطرأ على هذا المكتوب ، ما يكتب عليه أو يكتب دونه ، وهذا معنى الآية الكريمة :
{ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (سورة الحديد ، الآية 22) .
وفي قوله تبارك وتعالى :
{.. وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (سورة فاطر الآية ، 11).
تنبيه واضح إلى حقيقة أن عمر الإنسان المكتوب له أصلاً ، قد ينقص منه . طبعاً لأسبـاب تتعلق باعتقاد الإنسان وسلوكه تبعاً لهذا الاعتقاد أو خلافاً له . ويتضح الأمر أكثر فأكثر في قوله تعالى :
{ .. بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ }(سورة الأحقاف ، الآية 35).
وقوله سبحانه :
{ .. هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ }(سورة الأنعام ، الآية 47) .
ونحن نرى أن جميع الخلق يهلكون ، البـَرُّ منهم والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فلماذا خصّص سبحانه بالإهلاك في الآية الأولى القوم الفاسقين وفي الثانية الظالمين ؟ ثم نقرأ في “غافر : آية 34 ” ، قوله تبارك وتعالى عن يوسف عليه السلام :
{ .. حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا .. } ( سورة غافر ، الآية 34) .
وبالمقارنة ، ندرك أن الهلاك غير الإهلاك ، ونفهم من لغة القرآن أن الهلاك هو استكمال العمر المكتوب أصلاً تماماً وكمالاً ، وأن الإهلاك هو قطع العمر قبل أن يستكمل، بسبب من كفر أو شرك أو إصرار على اعتقاد فاسد ، أو تكذيب الرسل ، أو تكذيب لما أنزل الله ، أو ظلم أو فسوق ، أو إصرار على كبيرة ، أو فساد أو إفساد في الأرض ، إلى آخر ما هنالك من مستَدعِيات الإضرار بالأنفس أو الأبدان ومعها سخط الله جلّت عظمته .
على أن هناك استثناءاتٍ قد تندرج في مصاديق هذه الآية الكريمة قوله تعالى :
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا }( سورة مريم ، الآية 75 ) .
فالذي نفهمه من الآية الكريمة هذه، نراه جليّاً على الأرض: فمن أهل استحقاق العذاب، من يعذب في الدنيا قبل الآخرة، ومنهم من يمدّ له بالعطاء والعافية ، ويوم تقوم الساعة يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ونحن لم نحشد هذه الأدلة ، إلاَّ لنقرر ، بفضل منه سبحانه ، فائدةً مهمةً جداً في جملة الفوائد ، وهي أنه من يخرّب جسمه أو نفسه ، كلاً أو بعضاً ، بمحرم من المحرمات ، إنما يقرّب أجله بيده ، ويستعجل الموت قبل استكمال عمره ، مستدعياً نقمة ربه سبحانه ، ومتعرضاً لغضبه وعذابه .
ولأجل هذا ـ من وجه من الوجوه ـ كان من فضل الله سبحانه ، تحليل الحلال وتحريم الحرام : تحليل الحلال من الطيب ، المندوب والمباح ، وتحريم الحرام مـمّا يدخل الجـوف أو الأنـف أو الرئتيـن ، أو مـمّا يغرّر بالنفـس أو يخبّلـها أو يلامـس ظاهر البدن ، من رجس أو نجس أو خبث مخبّث ، أو حتى بفرح ومرح بغيـر حـق . وكل ذلك مـن عناصـر الإهلاك الدفعي أو التدريجي .
وأفضل الدواء أو العلاج لذلك كله ، سلامة القلب من الشرك ، والترقي في فهم التوحيد ، وحسن التوجّـه إلى الله تبـارك وتعـالى ، وحسن التوكل عليه له الحمد .
هذا لمن تتشكل عنده قناعـة يقينية بهذا الأمر ، علماً أنه عن طـريق العلاج ، قد يأذن سبحـانه ويتكرم بإصلاح ما فسد ، أو بترميم عضو مصاب بتأثير محرم من المحرمات ، مثل بعض الأشربة أو الأطعمة ، أو المشبوهات كالتدخين ، أو تعاطي أي منكر من المنكرات، ممارسة أو نظراً أو سماعاً . أو الإفراط زيادة عن الحـاجة ، أو التفريط إخلالاً بتـوازن النفس والجسـم وإتزانهما . فإن الإنسان المصاب كليّاً أو جزئياً بشيء من ذلك كله ، يشفى ويرمّم بالتوبة النصوح ، والإيمان الواعي لمعاني التوحيد وعمل الصالحات :
{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }(سورة يَس ، الآية 79) .
{ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }(سورة الفرقان ، الآية 70) .
وبالجملة ، فإن الله سبحانه وتعالى محيط بالجسوم والأنفس وبكل ذرة من الجسـوم ومن الأنفـس ، وبكـل جزيء من الذرة في الجسـوم والأنفس ، وكل شيء اشتمل عليه هذا الكون الذي لا يعلم أبعاده إلاَّ الله جلّت قدرته وعزّ شأنه :
{ .. أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ }(سورة فصلت ، الآية 54) .
{ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }(سورة سبأ ، الآية 3).
{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }(سورة الزمر ، الآية 62).
{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ،وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }(سورة الشعراء ، الآية 78 ـ 82)