كيف يحب الله ؟
من الذين حملوا الحب الأشرف والأسمى نتعلم ، فإلى سيد المحبين ، إلى سيدهم العظيم محمد صلى الله عليه وآله أول ما نذهب . وإذ لا نستطيع الإحاطة في هذه العجالة ولو بالقليل من مواقفه الفريدة ، لذلك نقتصر على موقف واحد ، نحاول من خلاله أن نعرف كيف كان يحب ربّه : موقفه في الطائف . حيث ذهب يدعو أهلها لله جلّ جلاله ولدينه الحنيف . فكذبوه، وطردوه ، وأغروا به الصبيان إذ يلعبون في ساح الطائف حيث هتف بهم أحد رجال القوم : إنَّ محمداً هذا هو مجنون ، فلحقوا به ورشقوه بالحجارة حتى سال الدم من عقبيه الشريفين ،وهو يرد عن رأسه الطاهر بكلتا يديه .وهو نبيّ الله ورسوله وسيد البرية ، نراه فور ذلك ، يجلس إلى شجرة معتدىً عليه ، جوعان عطشان ليس حوله من الناس نصير، يتمتم مناجياً ربّه سبحانه:”…إن لم يكن بك عليّ غضب فلست أبالي…!” هكذا انتزع نفسه من غمدها معافاة، مثلها مروءة السيف النقي ،ورفعها لله سبحانه غيرمبال بكل ما قدكان، ما كان كأنه لم يكن ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)و (2) و(3) ، سورة البقرة : الآيات 195 ، 222 .
(4) و (5) و (6) ، سورة آل عمران : الآيات 76 ، 146 ، 159 .
(7) سورة المائدة : الآية 42 . (8) سورة الصف : الآية 4 .
إن كان الله عزّ وجل ، ليس غاضباً ، إن كان الله سبحانه راضياً ، هذا هو المهم ، غاية الغايات ، محبة الحبيب الأعظم ، وسواء أجرح الجسد ، أو جـاع ، أو عطش ، أو تمزق ، أو قضى صاحبه على أي جنب من جنوبه ، وحسب النفس بعد ذلك ، أن يتغمدها بارئها برحمته .. وحبه .
وأكثر من ذلك ، فإن النبي الإنسان صلى الله عليه وآله وهو في هذه الحال من الإرهاق ، والألم ، والمرارة ، بقي حبه لربه هو الدافع الأساسي للدعوة إليه وإلى دينه سبحانه، فلم ينس تكليفه ، وما إن أطل عليه أول رجل أمكنه أن يحدثه بهدوء ، حتى أدى النبـيّ صلى الله عليه وآله إليه رسالة ربّه له الأسماء الحسنى . فقبلها الرجل محباً ربّه ورسـول ربّـه ، وإذ عظم في قلبه هذا الحب ، صغرت في عينيه الدنيا وطلابها ، ومن فرحتـه بالنور الذي ملأ قلبه ، كان يشتد بكاؤه كلما طلب إليه ، أن يتلو الدعـاء الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله آنذاك . فمضى مصعداً في الجهادين الأصغر والأكبر حتى آخر نسمة من حياته . وقد عرف التاريخ هذا الرجل باسم عدّاس .وكان في رأس مآثره، أنه نقل إلينا كامل دعاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، وكان هو الرجل الوحيد ، الذي سمعه منه في موقفه الصعب ذاك ، بعد أن طارده سفهاء الطائف وصبيانها وألجأوه إلى تلك الشجرة ، قرب جدار للأخوين الطاغيتين عتبة وشيبة بني ربيعة ، حتى إذا اطمأن صلى الله عليه وآله ، وقف في ظل الشجرة يناجي ربّـه الحبيب ، بهذه الكلمات التي ما زالت منقوشة وستبقى في قلوب معظم المؤمنين على مر الأجيال :
( اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ،
( يا أرحم الراحمين .
( أنت رب المستضعفين وأنت ربي .
( إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدوّ ملكته أمري ؟
( إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي .
( لك العتبى حتى ترضى .
( ولا حول ولا قوة إلاّ بك يا حبيباه يا الله يا رباه يا رب العالمين .
* * *
ثم نرى الإمام عليّاً عليه السلام ، أشجع الخليقة في تاريخها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، يخوض غمـار كل معركـة ، فيكون فيهـا علـى أعدائه الفزع الأكبر ، عبر ساعات طوال ينعقد فيها الغبـار سحباً سوداً ، ويظلم النهار فيها من شدة البأس . ونتبع علياً عليه السلام ، بعد كل معركة إلى حيث نعتقد ، أنه سيأوي إلى ركن يرتاح فيه بعد عظم المشقة ، فنجد عجباً : وقفات خاشعة ، ذليلة ، بين يدي الله سبحانه ، على نشيج بكاء ، وانهمار دموع، ثم نسمع ما أصبح قاعدة لعبادة الأحرار عبر العصور ، مناجاته لحبيبه الأعظم:
( ربي
( ما أعبدك خوفاً من نارك
( ولا طمعاً في جنتك
( وإنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك .
فأين تذهب المشقة في مثل هكذا مواقف ؟ وهل تجرؤ المشقة أن تدعي لنفسها شرف القرب من نفس هي من الله تعالى بهذه المنـزلة ؟
بلى هكذا أنفس ، يبرئها الله عز وجل ويعافيها من كل ما يشوش صفاءها ، الله سبحانه يتولاها بعنايته ورعايته ، وحبه ورحمته ، وينصرها نصراً مبيناً في الدنيا والآخرة .
ثم يُضرب أميرالمؤمنين عليه السلام، في صلاته ، تلك الضربة الباقي إرنانها الموجع ، مدوياً في أذن الدنيا ، فيقول التي ما تزال وستبقى تُحكى فتُدهش : ـ فُزت ورب الكعبة ـ عجباًّ ! أبالموت فوز ؟ وبسيف مسموم ؟ بلى ، هو العلم اللدني بأبعاد الفوز . أهل بيت النبوة هم ، الأعلمون بشرف المَصَارعِ .
أيضاً لنسمع الحسين ابنه ، عليهما السلام ، في موقـف من سنـخP(1) P هذا : الحسين يتصدى للباطل ، يتحداه ، يجره لمعركة المعارك ، للحكاية التي تُنسى الحكايا ولا تُنسى : ـ ألا وإني لا أرى الموت في سبيل الله إلاّ سعادة ، والعيش مع الظالمين إلاّ برماً ـ يقولها الحسين عليه السلام ثم يزرع في الأعين والأدمغة والقلوب عبر الأجيال ، درس البطولة المؤمنة الفريدة ، حبّاً لله ، وغضباً لله ، واستماتة في سبيل الله : درساً في السعادة الحقيقية ، نوعاً واستمرارية ، درساً تستطيع المشقة معه أن تقول : حاولت الحسين ، إلا أني ما استطعت إلى نفسه نفاذاً . لأنه كان مكلّفاً ، كلِفاً بربه ، مكلفاً بدين الله كلفاً . كان هو الدين مختصراً على ظهر جواد ، أما وطنه فبلا حدود ، وأما حبه فلربه ، وأما هدفه فأن تكون كلمة الله هي العليا ، فيا له من كلف وليس كلفة .
هذا ، ونكتفي من الأمثلة هنا بهذا القدر ، على أن سلسلة الذين حملوا الحب العظيم نورانية طويلة .
ـــــــــــــــــــــــ
(1) السّنخ : الأصل .