كيف يحب الله ؟
من الذين حملوا الحب الأشرف والأسمى نتعلم ، فإلى سيد المحبين ، إلى سيدهم العظيم محمد صلى الله عليه وآله أول ما نذهب . وإذ لا نستطيع الإحاطة في هذه العجالة ولو بالقليل من مواقفه الفريدة ، لذلك نقتصر على موقف واحد ، نحاول من خلاله أن نعرف كيف كان يحب ربّه : موقفه في الطائف . حيث ذهب يدعو أهلها لله جلّ جلاله ولدينه الحنيف . فكذبوه، وطردوه ، وأغروا به الصبيان إذ يلعبون في ساح الطائف حيث هتف بهم أحد رجال القوم : إنَّ محمداً هذا هو مجنون ، فلحقوا به ورشقوه بالحجارة حتى سال الدم من عقبيه الشريفين ،وهو يرد عن رأسه الطاهر بكلتا يديه .وهو نبيّ الله ورسوله وسيد البرية ، نراه فور ذلك ، يجلس إلى شجرة معتدىً عليه ، جوعان عطشان ليس حوله من الناس نصير، يتمتم مناجياً ربّه سبحانه:”…إن لم يكن بك عليّ غضب فلست أبالي…!” هكذا انتزع نفسه من غمدها معافاة، مثلها مروءة السيف النقي ،ورفعها لله سبحانه غيرمبال بكل ما قدكان، ما كان كأنه لم يكن ،إن كان الله عزّ وجل ، ليس غاضباً ، إن كان الله سبحانه راضياً ، هذا هو المهم ، غاية الغايات ، محبة الحبيب الأعظم ، وسواء أجرح الجسد ، أو جـاع ، أو عطش ، أو تمزق ، أو قضى صاحبه على أي جنب من جنوبه ، وحسب النفس بعد ذلك ، أن يتغمدها بارئها برحمته .. وحبه .
وأكثر من ذلك ، فإن النبي الإنسان صلى الله عليه وآله وهو في هذه الحال من الإرهاق ، والألم ، والمرارة ، بقي حبه لربه هو الدافع الأساسي للدعوة إليه وإلى دينه سبحانه، فلم ينس تكليفه ، وما إن أطل عليه أول رجل أمكنه أن يحدثه بهدوء ، حتى أدى النبـيّ صلى الله عليه وآله إليه رسالة ربّه له الأسماء الحسنى . فقبلها الرجل محباً ربّه ورسـول ربّـه ، وإذ عظم في قلبه هذا الحب ، صغرت في عينيه الدنيا وطلابها ، ومن فرحتـه بالنور الذي ملأ قلبه ، كان يشتد بكاؤه كلما طلب إليه ، أن يتلو الدعـاء الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله آنذاك . فمضى مصعداً في الجهادين الأصغر والأكبر حتى آخر نسمة من حياته . وقد عرف التاريخ هذا الرجل باسم عدّاس .وكان في رأس مآثره، أنه نقل إلينا كامل دعاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، وكان هو الرجل الوحيد ، الذي سمعه منه في موقفه الصعب ذاك ، بعد أن طارده سفهاء الطائف وصبيانها وألجأوه إلى تلك الشجرة ، قرب جدار للأخوين الطاغيتين عتبة وشيبة بني ربيعة ، حتى إذا اطمأن صلى الله عليه وآله ، وقف في ظل الشجرة يناجي ربّـه الحبيب ، بهذه الكلمات التي ما زالت منقوشة وستبقى في قلوب معظم المؤمنين على مر الأجيال :
( اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ،
( يا أرحم الراحمين .
( أنت رب المستضعفين وأنت ربي .
( إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدوّ ملكته أمري ؟
( إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي .
( لك العتبى حتى ترضى .
( ولا حول ولا قوة إلاّ بك يا حبيباه يا الله يا رباه يا رب العالمين .
* * *
ثم نرى الإمام عليّاً عليه السلام ، أشجع الخليقة في تاريخها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، يخوض غمـار كل معركـة ، فيكون فيهـا علـى أعدائه الفزع الأكبر ، عبر ساعات طوال ينعقد فيها الغبـار سحباً سوداً ، ويظلم النهار فيها من شدة البأس . ونتبع علياً عليه السلام ، بعد كل معركة إلى حيث نعتقد ، أنه سيأوي إلى ركن يرتاح فيه بعد عظم المشقة ، فنجد عجباً : وقفات خاشعة ، ذليلة ، بين يدي الله سبحانه ، على نشيج بكاء ، وانهمار دموع، ثم نسمع ما أصبح قاعدة لعبادة الأحرار عبر العصور ، مناجاته لحبيبه الأعظم:
( ربي
( ما أعبدك خوفاً من نارك
( ولا طمعاً في جنتك
( وإنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك .
فأين تذهب المشقة في مثل هكذا مواقف ؟ وهل تجرؤ المشقة أن تدعي لنفسها شرف القرب من نفس هي من الله تعالى بهذه المنـزلة ؟
بلى هكذا أنفس ، يبرئها الله عز وجل ويعافيها من كل ما يشوش صفاءها ، الله سبحانه يتولاها بعنايته ورعايته ، وحبه ورحمته ، وينصرها نصراً مبيناً في الدنيا والآخرة .
ثم يُضرب أميرالمؤمنين عليه السلام، في صلاته ، تلك الضربة الباقي إرنانها الموجع ، مدوياً في أذن الدنيا ، فيقول التي ما تزال وستبقى تُحكى فتُدهش : ـ فُزت ورب الكعبة ـ عجباًّ ! أبالموت فوز ؟ وبسيف مسموم ؟ بلى ، هو العلم اللدني بأبعاد الفوز . أهل بيت النبوة هم ، الأعلمون بشرف المَصَارعِ .
أيضاً لنسمع الحسين ابنه ، عليهما السلام ، في موقـف من سنـخ(السّنخ : الأصل) هذا : الحسين يتصدى للباطل ، يتحداه ، يجره لمعركة المعارك ، للحكاية التي تُنسى الحكايا ولا تُنسى : ـ ألا وإني لا أرى الموت في سبيل الله إلاّ سعادة ، والعيش مع الظالمين إلاّ برماً ـ يقولها الحسين عليه السلام ثم يزرع في الأعين والأدمغة والقلوب عبر الأجيال ، درس البطولة المؤمنة الفريدة ، حبّاً لله ، وغضباً لله ، واستماتة في سبيل الله : درساً في السعادة الحقيقية ، نوعاً واستمرارية ، درساً تستطيع المشقة معه أن تقول : حاولت الحسين ، إلا أني ما استطعت إلى نفسه نفاذاً . لأنه كان مكلّفاً ، كلِفاً بربه ، مكلفاً بدين الله كلفاً . كان هو الدين مختصراً على ظهر جواد ، أما وطنه فبلا حدود ، وأما حبه فلربه ، وأما هدفه فأن تكون كلمة الله هي العليا ، فيا له من كلف وليس كلفة .
هذا ، ونكتفي من الأمثلة هنا بهذا القدر ، على أن سلسلة الذين حملوا الحب العظيم نورانية طويلة .