لماذا الآيات … ولماذا القرآن ؟ …
قبل أن نبدأ بشرح هذه الآيات الكريمة ،نتدارك رد فعل قد يحصل عند بعض القراء،ناتجاً عن اعتمادنا في حصحصة الركائز الإعتقادية والنفسية والإجتماعية،على آيات من القرآن الكريم،بما في ذلك تقريرات تحقق في السلوك الإنساني وتفصل بين ما هو واجب منه أو مستحب مستدع لرضى الله سبحانه وبين ما هو منكر ضارٌّ بالشخصية الإنسانية،وكل ما يضر بالإنسان ، لا يحبه الله ، فهو يستدعي غضبه ومقته وعقوبته سبحانه .
وردُّ الفعل هذا الذي نحتمله،ونتوقعه،قد حصل لنا في كثير من لقاءاتنا مع إخوان لنا،كانوا رغم تدينهم،يحتجون على أمور اعتقادية صرفة،بروايات وأحاديث وحكايات غير محققة،وكونها مكتوبة في بعض الكتب ومسندة زوراً إلى نبي أو إمام أو ولي من أولياء الله ، فهم يعتبرونها مقدسة ونهائية، فيتعبَّدون بها ، وتكوِّن عندهم بمرور الزمن عقيدة ثابتة،حتى إذا اكتشف أحد الناس زيفها وبطلانها،ونسبتها كذباً إلى أولياء الله،صعبت زحزحتها من نفوسهم،وشرعوا يجادلون بالمحال،وبحماس أعمى وأصم،تتراوح درجته بين الإقفال المطلسم وبين الإنفتاح التدريجي أو الفجائي عند الذين يريد الله بهم خيراً .
ولذلك كله،وبسبـب من انصرافٍ عريضٍ من الناس عن كتاب الله المجيد، انصرافاً جعلهم في أُمِّية حقيقية بالنسبة لآياته البينات،وثقافة واسعة فيما هبَّ ودبَّ من الروايات المكذوبة عند العلماء والمحققين ، يتلقفونها من كتب تجارية ، تستثير مشاعر البسطاء ،وتعلمهم عن طريق الإثارة العاطفية ،ديناً هجيناً مليئاً بالبدع والترهات.حتى إذا واجهت هؤلاء الناس بآية قرآنية مما قال الله سبحانه ، صدفوا ووجموا،ثم قالوا أو تهامسوا : ولكن كيف نفهم القرآن ؟ يقولونها وكأن القرآن كتاب طلاسم،لا يفك عقدها إلاَّ أهل الإختصاص.وهذا من أعجب الأعاجيب في الحقيقة،لأن القرآن وإن كان فيه بعض الأسرار والخصوصيات المرصودة للراسخين في العلم ،إلاَّ أنه في معظمه ،وضع للناس بجميع درجاتهم ،حتى الأُميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب ،إذا عزم متوكلاً على ربه ،ربِّ القرآن ، ورب العالمين ، يستطيع ببساطة أن يفهم القرآن ، وسع طاقته ، حيث { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا …}.[286 : البقرة ]كما يستطيع أن يحفظ القرآن بعضه أو كله .
ثم من الدواهي الدهياء ، الإنصراف عن القرآن ، والتعبُّد بغيره ، حيث أن الإلزام هو التعبُّد به كونه كتاب الله وكلام الله ، فضلاً عن أن الله سبحانه قد أمر بذلك في أكثر من نصٍ مفحم ملزم .قال عزَّ وجل:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } .[24:محمّد] ،وفي ذلك ذمٌّ وتحقير وغضب على الذين لا يقرأون القرآن ولا يهتمون بمعانيه وتفسيره والتعبُّد بآياته البينات،حتى بالدعاء بآيات القرآن،كما أسلفنا في موضوع عقدناه لهذه الغاية في هذا الكتاب،فراجع،وقال سبحانه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } . [ 31 : سبأ ]
وهذا يعني ،أن بعض المستكبرين ،كما في نص الآية الكريمة ،الذين هم في مواقع التأثير والتوجيه والإستقطاب ،يجعلون أتباعهم يبتعدون أو يزهدون بكتاب الله ، وبعضهم ، تحت تأثير وراثي ، أو عاطفي ، أو تعصبي ، يقـود الأتباع ، إلى التعبد بروايات وأحاديث مزعومة عن النبي والأئمة والأولياء ،ويا ليتها تكون حقيقة صادرة عن النبي والأئمة والأولياء . لأنها إذا كانت كذلك ، فستكون إما وحياً وإما إلهاماً ، وإما تفسيراً لآيات القرآن المجيد ، وبالتالي ستكون دعوة إلى الله ، وتعبداً بشريعته وأحكامه وتعاليمه . ولكنها بإجماع العلماء ، إن لم تكن محققة لا سيما بقبول القرآن الكريم لها ، فهي مدسوسة أو مختلقة وما أكثر ما دسَّ تاريخ الزندقة والإسرائيليات والعصبية العمياء ، في هذه الروايات ، مما يستحيل على المؤمنين العاديين أن يميزوا بين الصحيح منها وبين الكاذب .
وما دام الأمركذلك ، فلماذا هذا الإعراض العجيب ، عن القرآن الكريم وهو العين الصافية ، والينبوع العذب الزلال ، والإقبال على ما فيه الريب والمسؤولية أمام رب العالمين ، التي ربما تكون عاقبتها جهنم وبئس العاقبة ، وبئس المصير .
وإذا كان لا بد من الأخذ بروايات صحيحة لا بد منها،وهوكذلك، فليترك ذلك للعلماء وأهل استنباط الفتوى وأهل الفقه والرواية والدراية .أما أن يتصدى العامة ،هذا التصدي المرعب،إلى التعبد بالروايات بديلاً عن كتاب الله وكلام الله جلَّ وعلا،فهو مما يعرض الأمة بمجموعها للإنحراف وهو واقـع الآن بها،والمعاناة منه شديدة،تحتاج من كثير من العلماء إلى موقف حاسم وحازم وجريء،ربما يقتضي تضحيات في سبيل الله وسبيل الدفع عن دينه والدعوة إليه سبحانه وإلى كتابه المجيد،الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،قال تبارك وتعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.[39:الأحزاب] فمن لهذا الأمر إذن،إذا بقي العلماء الحقيقيون الأفاضل ساكتين،وبقيت المشكلة تتفاقم وتتعقَّد،وتستدعي غضب الله ونقمته على الجميع ؟
ولماذا الآيات ؟ ولماذا القرآن ؟
في مثل هذا الموضوع : ” الأخلاق توفيق من الله … والنصر ليس من النبي ” الذي اخترناه عنواناً لثلاث آيات ، في سياق آيات واقعة أُحُد . قلنا في مثل هذا الموضوع : ” الأخلاق … والنصر … ” يخوض الكتَّاب والمفكرون فيه خوضاً عجيباً ، حتى أن آخر مطاف أوصلوا الأخلاق إليه هو مطاف الجدلية الفلسفية ، وآخر محطة أوصلوا إليها النصر وأسبابه ، هي المحطة الحديدية ، أي الكثرة والقوة الظاهرية .
وبما أن الأمثلة الكثيرة على أرض الواقع ، ترد هذين المزعمين ، فتحمل الأخلاق من جهة على الأصالة والإختيار ، وتحمل النصر على النوايا والإعتقاد ثم تحمل الجميع على علم الله عزَّ وجل ومشيئته وتقديره وقضائه .
ويستحيل أن تُفْهَمَ أبعاد هذه القضايا ، من علم النفس أو علم الإجتماع ، أو بقية العلوم الإنسانية ، مجردةً عن حاكمية الله ، ورقابته ، ومشيئته وهندسته للأمور ، ثم حسمها بما يسمى حتمية القضاء ، قضاء الله تبارك وتعالى .