لماذا قراءة القرآن 

لماذا قراءة القرآن  :

 

        إذا كان أعظم وأعز مطلب  في عمر الإنسان ووجوده ، هو اليقين  بوحدانية الله عز وجل ، وبالتالي فهم  التوحيد : ( لا إلـه إلا الله )  ، والتوحيد الأعظم  ( الله أكبر )  ، فكل ذلك يحتاج إلى وسائل ،  أظهرها  وأكبرها ، وأفصحها وأخصرها ، القرآن الكريم .

        والقرآن  أنزله رب العالمين  لجميع الناس بجميع طبقاتهم ودرجاتهم ، واتاح لكل منهم  أن يفهم  من القرآن ما يكفيه للإطمئنان النفسي ، والخلاص من الحرج والضلالة  ودوخة الشكاكين ، وما يعينه على التدرج في معراج اليقين إلى رحمة رب العالمين  ورضاه ورضوانه ، وإلى خير الدارين وسعادة الدارين ، مخترقاً  بنور  من الله يهدي قلبه ، كل ظلام يعترضه في الأرض أو في السماء .

        وذكر الله عز وجل فريضة ، وعبادة مستحبة مؤكدة ، ومنجاة من تلاطم  أمواج العمر  ، وسعادة تتنامى وتزيد مع  حسن الذكر وزيادته .

        وأحسن الذكر ، أحسن الحديث  :

       { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتـَاباً مُتَشـَابهاً مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلوُدُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلوُدُهُمْ وَقُلوُبُهُمْ إلىا ذِكْرِ اللهِ ذَالِكَ هُدَى اللهَِ يهدِى بهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ هَادٍ  . سورة  الزمر الآية 23}.

        وأحسن ما في الأحسن ، هذه المثاني التي في الأحرف النورانية . والأحرف  النورانية ، ليست التي فقط  في مفاتيح السور، وإنما هي مبثوثة  في جميع سور القرآن بشكل عام ، وفي السور  ذات المفاتيح بشكل خاص .

        إذن ، أفضل الذكر لله تعالى ، هو في القرآن المجيد :

       { أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلـَاـمِ فَهُوَ عَلَىا نُور ٍ مِنْ رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَـَاـسِيَةِ  قُلُوبُهُمْ  مِّنْ ذِكْر ِ اللهِ  أولَـَائِكَ فِي ضَلـَال ٍ مُبين ٍ . سورة الزمر  الآية 22 } .

        والقرآن نعم القائد إلى الجنة لمن جعله أمامه  ،  ومن جعله خلفه ساقه إلى النار .

        والقرآن هو الحديث الفريد الذي يجوز  أن نتحادث  به مع الله وقلوبنا مطمئنة  لعدم الخطأ فيه أو الزيادة  أو النقصان عما لا يليق بساحة  قدس الله وعظمة الله وجلاله .

        يقول سبحانه :

{ تِلْكَ ءَآيـَاـتُ اللهِ نَتْلُوُهَا عَلَيْكَ بالْحَقِّ فَبأىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وءَآيَـاـتِهِ يُؤْمِنُونَ . سورة الجاثية الآية 6 } .

        ثم نلاحظ  أنه سبحانه جعل أصنافاً من العذاب لمن لا يستجيب  لآياته ولا يتعهدها  ولا يتدبرها ، ولا يبني على معانيها حاضره  ومستقبله ، دنياه وآخرته .

        فالويل ، والعذاب الأليم ، والعذاب المهين ، وعذاب عظيم، وعذاب من رجز أليم . هذه الأنواع المفزعة المحطمة من العذاب، هي لمن  يعرض عن آيات الله ،  عن أحسن الحديث الذي هو القرآن الكريم ، ويقتصر على غيره من أحاديث بقية الكتب وأحاديث المخلوقين .

        فننظر ـ مستعيذين به سبحانه ـ إلى مواضع هذه الأصناف من العذاب في أطراف هذه الآيات من 6  ـ 11 في سورة الجاثية :

{ تِلْكَ آيـَاــتُ اللهِ نَتْلوُهَا عَلَيْكَ باْلحَقِّ  فَبأىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَءَآيـَاــتِهِ يُؤْمِنُونَ  (6)  وَيْلٌ لِكُلّ ِ أفَّاك ٍ أثِيم ٍ  (7)  يَسْمَعُ  ءَآيـَاتِ اللهِ  تُتْلَىا عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبراً  كَأنْ لَمْ يَسْمَعْهَا  فَبَشِّرْهُ  بعَذّاب ٍ أليمٍ  (8)  وَإذَا عَلِمَ مِنْ آيـَاـتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أولَـَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)  مِنْ وَرَآئِهمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى  عَنْهُمْ مَّا كَسِبُواْ شَيْئاً  وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  (10) هَـاَذَا هُدىً والَّذِينَ  كَفَرُواْ  بآيـَاـتِ رَبِّهمْ لَهُمْ  عَذّابٌ مِنْ رجْز ٍ  أليم ٍ (11) .

 

إن الله لا يغفر أن يشرك به (1) :

 

      في مجال فهم التوحيد ، إلى من يلجأ الإنسان ، ولمن يتعبد، وبمن يربط مصيره ، وعلى من يعقد آماله ، ومن يدعو ، وبمن يستغيث ، وبمن  يعلق كل ثانية من ثواني عمره ، وكل نَفَس ٍ من أنفاسه ؟

        إذا ظن امرؤ أنه يجوز له أن يعتمد في شيء من هذا على الله وعلى أحد من عباد الله  ، فقد ضل وهلك . اسمعه تبارك وتعالى يحدثنا إما مؤانسة  أو تنبيهاً أو تقريعاً ، لكل حسب أحاسيسه وحسب اختلاف الأحايين . يقول عز شأنه :

{ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلـَامٌ عَلَىا عِبَادِهِ  الَّذِينَ اصْطَفَىا ءَأللهُ خَيْرٌ أمّا يُشْركُونْ . سورة النمل الآية 59 } .

        فيحس القارىء  المفكر المتدبر ، أن الله عز وجل ، إنما يجيبه على سؤال ملحّ طالما  ضيع كثيراً من الناس وأوقعهم فيما لا غفران معه : في الشرك  الظاهر أو الشرك الخفي  ، وذلك في جميع الملل ، وهو كيف أتعامل  مع النبي الفلاني أو الإمام الفلاني  أو الولي  الفلاني أو مجموعهم  ؟  والسائل  عادة  يضمر إعظاماً وإجلالاً وحباً لهؤلاء  المخلوقين ،  يتجاوز  تعظيم الله وإجلاله وحبه ، قال تعالى :

{ … وَالَّذِينَ ءَآمَنُواْ أشَدُّ حُباً لِلّهِ … سورة البقرة الآية 165 }

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)       سورة النساء الآيات  48 , 116 .

وقد وصل بهم الأمر إلى تأليه بعضهم كما حصل  لعيسى 

عليه السلام  .  وما زال  يصـل إلى  تأليه  آخرين ، وحتى  في

المذاهب الإسلامية  ، ولا سيما السنة والشيعة . وكم وقف الناس أمام  هؤلاء المخلوقين  ،  ناسين الله عز وجل ، منشغلين عنه بعبيده  وبفقراء خلقه  من الأنبياء والأئمة والأولياء ،  وجميع خلقه إليه فقراء . فهم تارة  يدعونهم وينادونهم بأسمائهم ، وتارة  يستجيرون بهم ويستغيثون .  ويذكرونهم  أكثر مما يذكرون الله جلّت عظمته ، في مجالسهم وفي مناسباتهم  ،  وفي أفراحهم  وفي أحزانهم ،  ومجموع هذه العلاقة  هو عبادة لهم . ويقرأون في كتاب الله العزيز ولا يفهمون ، قوله تعالى :

{ وَمَنْ أضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجيبُ لَهُ إلَىا يَوْم ِ القِيـَاـمَةِ  وَهُمْ عَن  دُعَآئِهمْ  غـَاـفِلُونَ . وَإذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ  أعْدَاءً وَكَانُواْ بعِبَادَتِهمْ كـَاـفِرينَ . سورة الأحقاف الآيات 5 ـ 6 } .

يقرأون هذا ولا يفهمون ، { أفَأنْتَ تٌسْمِعُ الصُمَّ أوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِي ضَلـَاـلٍ مُبين ٍ . سورة الزخرف الآية 40 } .

       ويدّعون على الله  وعلى قرآنه المجيد  أنهم فيما يفعلون على حق . وأنه سبحانه يرضى بأن يمجدوا عباده من دونه وأن يتعبدوا لغيره  تقرباً إليه . { أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَآهُ حَسَناً فَإنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ  عَلَيْهمْ حَسَرَات ٍ إنَّ اللهَ عَليمٌ بمَا يَصْنَعُونَ . سورة فاطر الآية  8 } .

        كذلك الوثنيون كانوا يفعلون . كان النزاريون  مثلا ، يحجون بيت الله ويلبّون هكذا : لبيك اللهّم لبيك ، لبيك  لا شريك لك  إلاّ شريك هو لك ، ملَّكته وما ملك .

        وهؤلاء المتعبدون للأنبياء والأئمة والأولياء ، أو لبعض القادة والنافذين والزعماء ، من رجال دين  أو زمنيين ، قال فيهم سبحانه :

{ وَإذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلوُبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وإذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذَا هُم يَسْتَبْشِرُونَ . سورة الزمر الآية 45 } .

        وقد رأينا فريقاً  من هؤلاء الناس بأم أعيننا ، ولاحظنا إنكارهم واستنكارهم  لذكر الله  وحده  في عيونهم وعلى  وجوههم وفي فلتات ألسنتهم . ووثنيو  اليوم كوثني الأمس ، على أن مسؤولية إنسان اليوم  ، أكبر وأعظم ، لكثرة الدروس التاريخية  وكثرة العبر ، ومستوى  الثقافة والعلوم  ، الذي تيسر له أكثر مما تيسر للسابقين في عمر البشرية .

        فلننظر في ردّ الله عز وجل على السؤال المطروح بشكل خاص ، وهو كيفية التعامل  مع الأنبياء  والأئمة والصالحين ، ثم تقريره إلـَاـهيته سبحانه  ، ووحدانيته  وهيمنته على الوجود بكل دقائقه وتفاصيله ، وعلى الإنسان ورعايته وإجابة دعائه واستخلافه في الأرض ، وغير ذلك من المعاني الرائعة ، في بضع آيات  من سورة النمل  ، تهز  النفس  من أعماقها هزاً عنيفاً  :

       { قُلِ  الْحَمْدُ للهِ وَسَلـَامٌ عَلَىا عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىا ءَأللهُ خَيْرٌ أمَّا  يُشْركُونَ (59 ) أمَّنْ  خَلَقَ السَّمَـَاوَات ِ والأرْضَ وأنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأنْبَتْنَا بهِ  حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ  مَّا كَانَ لَكُمْ  أن تُنْبتُواْ شَجرَهَا ءَإلـَاـهٌ مَّعَ اللهِ  بَلْ هُمْ  قَوْمٌ  يَعْدِلُونَ (60) أمَّن جَعَلَ الأرْضَ  قَرَاراً  وَجَعَلَ خِلـَاـلَهَا أنْهـَاـراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزاً ءَإلـَاـهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (61) أمَّن يُجيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَـَفَآءَ الأرْض ِ ءَإلـَاـهٌ مَّعَ اللهِ قَليلاً مَّا تَذَكَّرُون (62) أمّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمـَاـتِ البَرِّ والبَحْر ِ وَمَن يُرْسِل ِ  اْلرّيَـَاـحَ بُشْرا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ  ءَإلـَاـهٌ مَّعَ اللهِ تَعَـَاـَلىَ اللهُ عَمَّا يُشْركُونَ (63) أمَّن يَبْدؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقَكُم  مِّنَ السّمَآءِ والأرض ِ ءَإلـَاـهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـَانَكُمْ  إن كُنْتُمْ صَـاـدِقِينَ (64) قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَـَاـوَاتِ والأرْض ِ الغَيْبَ إلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِى شَكٍ  مِنْهَا بَلْ هُم مِنْهَا عَمُونَ ( 66) .

        وواضح من أول آية  في هذه المجموعة ، أن الحمد هو من الذكر ، فالحمد هو لله ، لأن الذكر المفروض  هو ذكر الله عز وجل ، أما السلام  فليس ذكراً ، وإنما دعاء  بالأمن والأمان والسعادة والطمأنينة والرضى والرضوان من الله سبحانه ، يستجيبه ما دام هو أمر به عز شأنه . ثم قوله تعالى { ءَأللهُ خَيْرٌ أمْ مَا يُشْركوُنَ } ، فيه دمغ للسائل  والمتسائل ، وقمع للشاك المتردد ، وزيادة يقين للموحدين . أما بقية الآيات في هذه  المجموعة ، فكان يكفي أن تكون وحدها حجة على عقل الإنسان ونفسه وتفكيره ، لولا أن الله عز وجل كان أرأف وأرحم ، إذ تفضل  على البشرية  بعموم هذا القرآن الكريم وما فيه من هداية ورحمة وتسديد وترشيد .

        ثم إنه من أعظم الإفتراءات على الله عز وجل وعلى كتابه الكريم ، دعوى من يدّعي أنه لا يقرأ القرآن لأنه لا يفهم القرآن . وقد أجرم بعضهم أكثر من ذلك عندما أمروا الناس بقراءة  القرآن تعبداً ، وعدم السؤال عن معانيه ، يخوفونهم بذلك ويعطلون فيهم عقولهم وقلوبهم وتأملهم وتفكيرهم . سبحان الله ، وهؤلاء يقرأون في القرآن قوله عز وجل ، الموجه إلى جميع الناس على إختلاف درجاتهم ووصولهم  وعقولهم :

       { أفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَآنَ أمْ عَلَىا قُلُوب ٍ أقْفَالُهَا. سورة محمد الآية 24 } .

        وهو سؤال فيه تقريع  وذم لمن لا يفكر في معاني القرآن ولا يجتهد  في تحصيلها تفسيراً وتأويلاً  وائتماراً بأوامره وانتهاءً بنواهيه وتطبيقاً عملياً  لجميع تعاليمه ، سواء على  صعيد الفرد أو على صعيد المجتمعات الإقليمية  أو على  صعيد المجتمع العالمي كله .

        وأشد إجراماً من هؤلاء وهؤلاء فريق ينصح بعدم  قراءة القرآن أصـلاً ، مدّعياً الإكتفاء بأخـذ الدين مـن الأحاديث والروايات . وسواء  كان هؤلاء فقهاء باحثين ، أو مثقفين عاديين أو من عوام الناس  ، فإن الله عز وجل  يهددهم بما  في القرآن من شكوى الرسول (ص) يوم يشكوهم :

       {… يَـارَبِّ إنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَـَاذَا القرءَآنَ مَهْجُوراً . سورة الفرقان الآية 30 } .

        وفي هذه الآية الكريمة إنكار شديد على المعرضين عن كتاب الله المجيد ، وندب واضح لقراءته يترتب على مخالفته قسوة القلب  والفسوق والضلال عن الصراط المستقيم :

       { ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَآمَنُواْ أن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْر ِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ  وَلاَ يَكُونُواْ كالَّذِينَ أوتُواْ الكِتـَاـبَ  مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فَـاـسِقُونَ .  سورة الحديد الآية 16 } .

        ولا يمكن أن تخشع القلوب  وأن تنجو من القسوة المنكرة المبغّضة عند الله سبحانه  إلاّ بذكر  الله ولذكر الله وما نزل من الحق كما تقول الآية الكريمة هذه ، والمقصود بـ { مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِ } آيات الله البينات ، وهي مجموع القرآن الكريم .

        أما الذين كذبوا بالقرآن  ويجادلون في صحته ونسبته إلى الله عز وجل أو يجادلون في آيات الله  بشكل عام ، وأعرضوا عن قراءته لعدم إيمانهم به ، فلهم عند الله شأن  آخر من أشد العذاب : سحب بالسلاسل  في الحميم ، وسجرهم في النار كما  التنور بالحطب . يقول سبحانه في سورة  غافر :

       { الَّذِينَ كَذَّبُواْ بالكِتَـَاـبِ وَبمَا أرْسَلْنَا بهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إذ الأغْلـَاـلُ فِي أَعْنَـَاقِهمُ والسَّـلـَاـسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِى الحَمِيم ِ ثُمَّ فِى النَّار يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْركُونَ (72) .

ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر :

 

          هذه الآية الكريمة  مكررة أربع مرات في سورة القمر .  ولن يتذوّق معناها ومؤداها ، ولن يشعر بكامل الخشوع والإستجابة ، إلاّ إذا  قرأ السورة  كاملة . من هنا  نعلم أن الله عز وجل جعل من التركيب  القرآني  كائناً حياً ناطقاً مؤثراً أبلغ الأثر ، بكليات سوره ، ثم بمجاميع آياته ، ثم بكلماته  ، ثم بحروفه  ، وعبر ذلك كله  بحركاته وسكناته .  ولا تغني فيه سورة عن سورة ، ولا مجموعة عن مجموعة ، ولا آية عن آية . فمن أراد تمام  الفائدة ، وكمال البشرى وكذلك الإنذار ، أي كمال العظة  ، وعلى جميع المستويات العلمية  والفكرية . فليقرأنَّ جميع ما بين دفتي هذا القرآن العظيم  ، وليتمعَّنَنَّ فيه ، وليتدبَرنَّ معانيه ومغازيه ، ثم ليصبحنّ إن شاء  له الله  من العلماء ومن الأولياء لله ومن السعداء في دار الإنقطاع هذه  ثم في دار الخلود .

        والقرآن الكريم  رغم كونه ( أحْسَنَ الْحَدِيثِ ) كما قال عنه سبحانه ، يعني أنه أعظم كلام معروف في الأرض وأرقاه ، وأعزه وأسماه ، وأبلغه وأجمله وأمسّه  لشغاف القلوب ، وفيه وحده مفاتيح السماوات والأرض . ورغم أن فارق ما بينه  وبين كلام المخلوقين ، كفارق ما بين الله  في عزته وجبروته وعظمته وجماله وجلاله وأسمائه الحسنى ، وبين عباده الفقراء إلى غناه وإلى رحمته . فمثل واحد على تفرد القرءآن وتميّزه ، قوله تعالى :

       { وَإذَا قَرَأتَ القُرءَآنَ جَعَلْنَا  بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً . سورة  الإسراء الآية 45 } .

        فأيما كلام من كلام المخلوقين ، يستحيل أن يدعي لنفسه اختزان  مثل هذه الطاقة  التي  ثبت برهانها  عملياً عند كثير من المؤمنين . رغم ذلك كله ،  وهو كلام الله ، فقد يسره سبحانه لجميع الناطقين من خلقه :

       { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْءَآنَ للذِكْر فَهَلْ مِنْ مُدّكِرْ } .

يسره سبحانه ، أحكاماً وتشريعاً ، هداية ً وتربية ً ، تسامياً وتصعيداً ، ويسره نوراً من السماء ليس كأنوار الأرض ، يكشف أبعاد  العقل وأغوار النفس  ، وأعماق الوجود . ويكشف في جملة ما يكشف تاريخ  ما مضى وتاريخ ما بقي .  وما أبلغ وأروع  عبره ، لو  صدّقه وأيقن  المعتبرون . ومع كل ذلك يدَّعي  سَفَهاً عدم فهمه ويتهيب من مقاربته ثلاثة : جاحدٌ ختم الله على قلبه ، وجاهل  يَدَّعِي عِلماً ، وببغاء مقلدٌ لهذا ولذاك . أما أولوا الألباب فيقرأون قوله عز وجل : 

{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْءَآنَ للذِكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدّكِرْ } .

        فيفهم  من التحضيض  الذي فيها ، كل على شاكلته : إما تهديداً ووعيداً ، وإما إغراءً وترغيباًً ،  وإما مناجاةً ومؤانسةً . وكذلك  كلام الله  جلت عظمته ، وَهُوَ اللهُ الَّذِى لا إلـَه إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ  السَّلـَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ  الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ، سُبْحَانَ  اللهِ عَمَّا يُشْركوُنَ .

 

لو أنزل هذا القرآن على جبل  .. :

 

       قال سبحانه : { لَوْ أنْزَلْنَا هَـَاذَا  القرءَآنَ عَلَىا  جَبَلٍ   لَرَأيْتَهُ خَـَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ  وَتِلْكَ الأمْثَـَالُ نَضْربُهَا لِلنَّاس ِ  لَعَلَّهُمْ  يَتَفَكَّرُونَ .  سورة الحشر الآية 21 } .

ونقارن هذه الآية  بقوله تبارك وتعالى  :

       { إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَىَ السَمَـاـوَاتِ والأَرْض ِ والجِبَالِ فَأبَيْنَ أن يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَـَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً . سورة الأحزاب الآية 72 } .

        فنجد معادلتين متشابهتين : فالجبال ـ وهي مخيّرة ـ أبت أن تحمل هذا الدين أمانة ، من عناصرها قراءة هذا القرآن وتدبره والعمل به .

        وكذلك لو أنزل الله  ، ربنا المجيد ،  هذا القرآن على جبل ، لخشع الجبل وتصدّع خوفاً من الله ، والتصدع ،  الشقوق الكثيرة العميقة  التي يسمع لها صوت ، يعني  لو أنزل هذا القرآن على جبل لتفسخ وتهدم بشكل يصدم المشاهد ويذهله .

        فما بال هذا الإنسان ، وقد اختار وهو مخّير كذلك ، حمل  هذه الأمانة قبل المجيء إلى الأرض ، فرضي بحملها ، ثم إذا هو بعد الإهباط ، بين جاحد ومعرض ومتخذ هذا القـرآن ظهريا . وقليل هم الصديقون القرآنيون .

        هذا من جانب ، ومن  جانب آخر ، قوله تعالى { لَوْ أنْزَلْنَا هَـَاذاَ القُرْءَآنَ عَلىا جَبَلٍ } لا يعني أن يوضع القرآن هذا الذي دفتاه وما بينهما من ورق مقوَّى وغير مقوى على الجبل . وإنما المقصود مضامينه ، المقصود الآيات ، والمقصود بالآيات معانيها  الظاهرة ثم الباطنة ، وذلك للدرجات السبعين التي بين التكذيب والشك واليقين . والله سبحانه { يُؤْتِى الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أوتِىَ خَيْراً كَثيراً وَمَا يَذّكّرُوا إلاّ أوْلوُا الألْبَـابِ .  سورة البقرة الآية 269 } .

        مضامين القرآن يتصدع لها الجبل إذا أنزلت عليه ، وليس للجبل في الظاهر سمع ولا بصر ولا فؤاد ، وهو غير مسؤول عن حمل الأمانة .

        أما الإنسان الذي اختار حمل الأمانة ، والذي من أجل ذلك جهزه الله عز وجل بالسمع والبصر والفؤاد ، فمسؤوليته جد حساسة  ، وحسابه  دقيق ، فأين هو من هذه  المسؤولية  وهذا الحساب ؟

       { وَلِكُلٍّ دَرَجَـآتٌ مِمَّا عَمِلُوُاْ  وَلِيُوَفِيَهُمْ أعْمَـَاـلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سورة الأحقاف الآية 19} .

       يقول عز وجل : { وَلَقَدْ مَكَّنـَّاـهُمْ فِيمَآ إنْ مَكَّنـَّاـكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبْصـَاـراً وأفْئِدَةً فَمَا أغْنَىآ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبْصَـاـرُهُمْ وَلاَ أفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بآيـَاتِ اللهِ وَحَاقَ بهم مَّا كَانُواْ بهِ يَسْتَهْزءُونَ . سورة الأحقاف الآية 26 } .

        صحيح أن هذه المعادلة فيها عدالة الله ، لكن عدو الله فيها هو الخاسر .  أن يجحد فريق من البشر بآيات الله فيعطل الله سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم .. هذا  كثير في القرآن ، وذلك يشبه قوله عز وجل :

       { وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بـآيَـآتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهمْ أكِنَّةً أن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَآذانِهمْ  وَقْراً وإن تَدْعُهُمْ إلى الهُدَىا فَلَنْ يَهْتَدُواْ إذاً أبَداً . سورة الكهف الآية 57 } .

        ففي الآية الأولى { ولقد مكّنّـاـهم … } لا يفيد الإنسان سمعه ولا بصره  ولا فؤاده إذا هو جحد بآيات الله  ، أي أنكرها وأعرض عنها . ويزيد على  عقوبات الدنيا هذه ، عقوبة الأبدية  في الآخرة ، حيث يحيق بهم ما كانوا به يستهزئون .

        وفي الآية الثانية إنسان يذكّر  بآيات ربه فيعرض عنها ، فينسى ذنوبه صغائرها وكبائرها وإهماله لآيات ربه .. فيجعل الله بسبب ذلك كِنّاً على قلبه يمنعه به من فهم القرآن الكريم ، ومن فهم أي أية فيه فهما صحيحاً مراداً للصالحين . ويجعل  في  أذنيه ثقلاً لا يسمع  معه نبرة الإصلاح والتسديد والتقويم  { إنَّ هَـَاذَا القُرْءَآنَ يَهْدِى لِلّتِى هِيَ أقْوَمُ … سـورة الإسراء الآية 9 } . وأخيراً ينتج من كل ذلك أن أيما مخلوق يدعو هذا الإنسان إلى الهدى ، إلى الحق ، إلى الله ،  فإن هذا الإنسان  لن يستجيب ولن يهتدي أبداً . فقد أصبح مغلقاً حقَّ عليه غضب الله سبحانه وحقت عليه كلمة العذاب .

وذكِّرْ فَإنَّ الذِكْرَى تَنْفَعُ المُؤمِنينَ :

 

        قوله تبارك وتعالى : { وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِكْرَىا تَنْفَعُ المُؤمِنينَ . وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَآ أريدُ مِنْهُمْ  مِن رزْقٍ وَمَا أرِيدُ  أن يُطْعِمُونِ . سورة الذاريات الآيات 55 ـ 57 }  .

        هذه الآيات الثلاث تركز على ثلاثة  مبادىء أساسية  تدور كلها حول  محور التوحيد :

المبدأ الأول : أمر الله بالذكر لكل عاقل ، ثم التنبيه إلى أن الذكر

              أو الذكرى تنفع المؤمنين خاصة . فإذا انتفع المؤمن

              بذلك  فهذا كفاية ، والله الكافي . والدليل علـى أن

              الأمر  إلـاـهيٌ وهو لجميع العقلاء ، قوله تعالى :

                         

{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْر ِ الرَّحْمَـَاـن ِ  نُقَيِّضْ   لَهُ شَيْطَـَاـناً فَهُوَ لَهُ  قَريْنٌ . سورة الزخرف الآية  36 } .

المبدأ الثاني : وجوب طاعة أمر الله  في  لزوم الذكـر ، لأنـه

سبحانه وتعالى إنما خلق الإنسان ليطيعه سبحانه ،         إئتماراً بأوامره  وانتهاءً  بنواهيه  وذلك معنى قوله عزت عظمته { وَمَا خَلَقْتُ  الجنَّ والإنْسَ  إلاّ لِيَعْبُدُونِ } .

المبدأ الثالث : أن طاعة الخلق له تبارك وتعالى ، إنما هي حدود

وضوابط ورياضات ، تصب دائماً في مصالحـهم

                الشخصية البحتة . وأن الله  عز  وجل  ،  ليس له

مصلحة ولا منفعة ينالها من وراء ذلك . فهو المصلح المنجـح  وحده لا شريك له . وهو الغني عن عباده ، والعباد هم الفقـراء إليه سبحانه :

{ يَـأيُّهَا النَّاسُ أنْتُمُ الفُقَرَآءُ إلَىَ اللهِ واللهُ هُوَ الغَنِيُّ

الحَميدُ . سورة فاطر الآية 15 } .

وذلك مما عناه في   قوله  عز  شأنه  في  المبدأ  الثالث

الـذي نحن بصدده : { مَا أريدُ مِنْهُمْ مِن رزْقٍ وَمَا أريدُ أنْ يُطْعِمُونَ }  ثم  يذيّل  الآيات هذه بالحقيقة الأزلية الأبدية التي هي مضمون قوله له الحمد  :

{ إنَّ اللهَ هُوَ الرَزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ . سورة  الذاريات الآية 58 } .

 هو الرزاق وحده لا شريك له ، ذو القوة المتين ، القوة المطلقة  التي لا يقف في وجهها شيء ، ولا يعجزها شيء ، وفي هذا الإطلاق قوله عز شأنه { إنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} ، وهذا المعنى مكرر في عشرين آية ونيّف.

 

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْر الرَّحْمَن نُقَيِّضْ

لَهُ شَيْطَـاـناً فَهُـو لَـهُ قََريـنٌ :

 

الشيطان في المفهوم الإسلامي :

أولاً    : في لغة العرب : جاء  في اللسان لإبن منظور  في باب شيط ، ما يلي :  شاط الشيء شيطاً وشياطة : إحترق . وأشاط فلان  فلاناً إذا أهلكه . وأصل الإشاطة الإحراق ، واشتاط عليـه : التهب . والشيطان : فعلان من شاط يشيط . انتهى .

        و ( شيطان )  كـ  ( إنسان )  كلاهما إسم نوع ، يعني  الفرد ويعني المجموع ، ومثلهما في اللغة كثير  ، مثل  : هذا  عدوٌ  وهؤلاء عدوٌ  ، ومثل  طفل وصديق …

ثانياً   : في القرآن الكريم  : من عشرات الآيات التي  ورد فيها ذكر  الشيطان ، اخترنا كنماذج  ، أربع آيات ، لصلتها  بهذا البحث  وهي قوله تبارك وتعالى :

  • { الشَيْطَـَانُ يَعِدُكُم الفَقْرَ وَيَأمُرُكُم بالفَحْشَآءِ واللهُ يعِدُكُم مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . سورة البقرة الآية 268 } .

  • { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّواْ مِنْكُمْ يَوْمَ  الْتَقَىَ الجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَـاـنُ ببَعْض ِ مَا كَسَبُواْ … . سورة آل عمران الآية 155 } .

  • وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْواَلَهُمْ رئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤمِنُونَ باللهِ وَلاَ بالْيَوْم ِ الآخِر وَمَنْ يَكُنْ الشّيْطَـاـنُ لَهُ قَريناً فَسَاءَ قَريناً. سورة النساء الآية 38  } .

  • { الَّذِينَ ءَآمَنُواْ يُقَـاـتِلُونَ فِي سَبيل ِ اللهِ  وَالَّذِينَ كَفَرُواْ  يُقَـاـتِلُونَ  فِـي سَبيـل ِ الطَـاـغُوتِ  فَقَـَاتِلُوا أوْليَاءَ الشّيْطـاـن ِ إنَّ كَيْدَ الشَيْطَـاـن ِ كَانَ ضَعِيفَا . سورة النساء الآية 76 } .

ثم من مرادفات الشيطان ، الطاغوت ، ولو كانت كلمة الطاغوت أعم من ذلك ، فهي  من طغـىا يطغى ويطغو  ، أي تجاوز  تجاوزاً كبيراً  { إنَّا لمَّا  طَغَا المَاءُ حَمَلْنَـاـكُمْ فِي الجَاريَةِ . سورة الحاقة الآية 11 } .

أ)    أن كل ما يعبد من دون الله هو طاغوت لعابده ، وقد لا يكون كذلك لذاته .

  • الشيطـاـن : إفراداً وجمعاً ، إنسياً أو جنياً ، صغيراً مما دقّ فلا يرى  إلا بمكبر ، أو كبيراً  كما نوّه سبحانه عن  فصائل منه ، من شياطين الجن والإنس  وآلات الإنس : { إنَّا زَيَّنَّا  السّمَاءَ  الدُنْيَا بزِينَـةٍ  الكَواكِبْ . وَحِفْظاً مِن كُل ِ  شَيْطَـاـن ٍ مَّارد ٍ . ّلا يَسَّمَّعُونَ إلَىَ المَلاَءِ الأعْلىَا وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ . دُحُوراً وَلَهُمْ  عَذّابٌ وَاصِبٌ . إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ . فَاسْتَفْتِهمْ أهُمْ أشَدُّ خَلْقاً أم مَنْ خَلَقْنَا … . سورة الصافات  الآيات  6 ــ 11 } . 

ثم ما لا يرى  إطلاقاً  إلا ما شاء الله  : { يَـاـبَنِي ءَآدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطـاـنُ كَمَا أخْرَجَ أبَويْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُريَهُمَا  سَوءَاتِهِمَا إنّهُ يَرَاكُمْ  هُوَ وَقَبيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيـاـطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ . سورة الأعراف الآية 27 } .

وكذلك النفس  الأمارة بالسوء ، شيطان ذاتي لصاحبها ، أو طاغوت ذاتي كما هو مبين في جملة معاني  قوله تبارك وتعالى:

{ والَّذِينَ اْجْتَنَبُواْ الطـَّاـغُوتَ أنْ يَعْبُدُوهَا وأنَابُواْ إلَىَ اللهِ لَهُمُ البُشْرَىا فَبَشِّرْ عِبَادِ . سورة الزمر الآيـة 17 } .

         

وقد يختصر  كل ذالك ويوضحه إيضاحاً بيِّناً قوله عز وجل :

{ لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ . قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ  الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ  بالطَّـاـغُوتِ  وَيُؤْمِنْ باللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَىا لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ  عَلِيمٌ . سورة البقرة الآية 256 } .

         

        بعد هذا الإستعراض لمفهوم الشيطان وأصنافه ومعانيه وأحجامه وخفائه وظهوره ، أصبح ممكناً أن نفهم بشكل أوضح وأدق  وأشمل معاني قوله جل جلاله :

{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْر الرَّحْمَـاـن ِنُقَيِّضْ لَهُ شَيْطـَاـناً فَهُوَ لَهُ قَرينٌ .  وَإنَّهُمْ  لَيَصُدَّوْنَهُمْ عَنِ السَّبيل ِ وَيَحْسَبُونَ أنَّهُم  مُهْتَدُونَ . حَتَّىا إذَا جَاءَنَا قَالَ يـاـلَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرقَيْن ِ فَبِئْسَ القَرينُ . سورة  الزخرف الآية 38 } .

        في اللغة  ( يعْشُ ) يتعامى  ، ( نُقَيِّضْ لَهُ )  نتيح له ، نسبب له ، نجيء له به  و ( شَيْطـَاـناً )  كما أسلفنا  ، منه الجمع  والإفراد ، الكثير والقليل ، الصغير بحجم الذرة والميكروب ، أو أدنى من ذلك  وأكبر بما يشاء  الله عز وجل .  وهكـذا يكـون من وجوه معنى ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الْرَّحْمَـانِ … الآية )  . أنه من يتعامى  عن ذكر الله ـ وفي رأس الذكر  قراءة القرآن  وتدبره ـ نوظف له شيطاناً فرداً ، أو مجموعاً ، مما يرى أو مما لا يرى ، مما صغر أو مما كبر، أو من جميع هذه المسميات ، ونجعل ذلك أو كل ذلك قريناً لهذا المتعامي عن ذكر الله سبحانه وتعالى عما يشركون .

        ويفسر وجهاً من وجوه هذه الآية  فضلاً عما ذكرنا ، قوله تبارك وتعالى :

       { وَقََيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم  مَّا بَيْنَ ايْديهمْ وَمَا خَلْفَهُمُ … . سورة فصلت الآية 25 } .

        والقرناء أو القرين ، قد يقيّض للإنسان في نومه ، رجُلاً كان أو امرأة ـ ولعلّه للنساء أكثر، والعوام يسمونه ( القرينه) ـ لعقوبة أو درس أو توجيه . وقد يقيّض في اليقظة وفاعليته عند ذلك أخطر، ويصل خطر ذلك إلى أقصاه ، إذا كان حقّ القول على الغافل عن ذكر الله ، المتعامي عنه ، كما في سيـاق آيـة ( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ … ) قوله عز شأنه :

       { … وَحَقَّ عَلَيْهمُ  القَولُ فِي أمَم ٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ والإنْس ِ إنَّهُمْ كَانُوا خَـاـسِرينَ .  سورة فصلت الآية 25 } .

        وتقييض شيطانٍ لإنسانٍ ما ، إنما يكون نسبياً كمَّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً ، بنسبة التعامي عن ذكر الله . فلو أن إنساناً تعامى وغفل كلياً ، فهي القاضية ـ إذا لم يمدد له الرحمن مدا ، ليبتليه ويبتلي به ـ إما بشيء عضال … وإما بإهلاكٍ قبل استكمال عمره المكتوب له : { … هَلْ يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الَظَّـاـلِمُون . سورة الأنعام  الآية 47 } .  { فَهَلْ يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الفـاـسِقُونَ. سورة الأحقاف الآية 35 } .

وفي هؤلاء قال سبحانه :

       { إسْتَحْوَذَ عَلَيْهمُ الشَّيْطـَاـنُ فأنْسَـاـهُمْ  ذِكْرَ اللهِ  أولَـَائِكَ حِزْبُ الشَّيطـَاـن ِ ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطـاـن ِ هُمُ الخَـاسِرُونَ . سورة المجادلة الآية 19 } .

        والإستحواذ  على إنسان ما ، هو أخذه بكليته ، نفساً وبدناً. ولو أن إنساناً تعامى نسبياً ، فبنسبة  تعاميه يكون تقييض الشيطان له ، ميكروباً كان أو جنياً أو أنسياً ، قليلاً أو كثيراً .

        ولماذا لا يتمرّد الضحية على شيطانه أو شياطينه بشتى أصنافهم  ؟ ذلك لآن الضحية  يحسب أنه مهتد ٍ وأنه على خير . وهذا نعرفه في المجتمع العالمي بشكل عام ، وقد نراه يومياً حولنا . وهو أن أكثر الناس ، أميل إلى التحلل مما أوجب الله عليهم  سبحانه ، في أكثر شؤونهم  الحياتية والسلوكية : بين ملحد وعلماني  ومشرك ومتردد  ومتحير  وشكاك .  فإن كل واحد من هؤلاء ، مع قرينه أو قرنائه الذين يصدونه  عن السبيل الحق ، إنما يحسب أنه هو المهتدي وهو المصيب وهو الأعقل والأفهم ، لا سيما  إذا قارن  نفسه ،  بالمؤمنين المتدينين ، المتهمين عادة بأنهم متحجرون ، وأنهم متزمتون ، وأنهم ثقلاء  على الأنفس المتحررة ، وعلى أبناء الحياة وأهل الإنفتاح ، كما يزعمون لأنفسهم .

        وهذا المعنى ضمّنه سبحانه فـي الآيـة التي تلي قولـه له الحمد : ( وَمَنْ يَعْشُ … ) وهي : ( وإنَّهُمْ ليَصُدُّونَهُمْ  عَنِ الْسَّبيلِ وَيَحْسَبوُنَ أنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . سـورة الزخرف الاية 37) .

        ثم بعد هذه مباشرة ، كما رأينا ، قوله عز وجل : { حَتىَّا إذَا جَاءَنا قَالَ يَـَاليْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرقَيْن فَبئْسَ الْقَرينُ . الزخرف الآية 38 } .  وهذا المعنى يفهمه معظم  قراء القرآن والمفسرين  أنه ( حَتىَّا إذاَ جَاءَنَا ) يوم القيامة . والحقيقة أن هذا المعنى المتداول  هو  جزئي  بالنسبة للمعنى العام  ، إذ أن  عموم  معنى ( حَتىَّا إذَا جَاءَنَا ) يشمل الحياة  الدنيا كذلك ، وذالك في  قوله سبحانه  :

       { وَهُوَ الَّذِي فِي الْسَّمَآءِ إلـَاـهٌ وَفِي الأرْضِ إلـَاـهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ . سورة الزخرف الآية 84 } .

وقوله تبارك وتعالى :

       { … وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ … . سورة الحديد الآية 4 } .

وقوله عزت عظمته :

       { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى بَيْنَ ثَلاَثَة ٍ إلاَّ هُوَ رَابعُهُمْ  وَلاَ خَمْسَة ٍ إلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أكْثَرَ  إلاَّ هُوِ مَعَهُمْ  أيْنَمَا كَانُوا … . سورة المجادلة الآية 7 } .

{ … وَهُوَ الْسَّمِيعُ الْبَصِيرُ . سورة الشورى الآية 11 } .  فمعنى ( حَتىَّا إذَا جَاءَنَا ) من وجه ، هو عندما يصاب الإنسان الغافل  بمصيبة ما  في نفسه أو بدنه أو متعلقاته ، فإذا  ذكر  الله بعد نسيان طويل أو قصير  ، يكون قد جاء الله سبحانه فيندم على غفلته ، ويندم على تعاميه  عن ذكر الله  وعن كتابه وعن عبادته وعن توليه مع كل نفس من أنفاسه . ويعي  أن قرينه أو قرناءه إنما  هم له أعداء ، فيقول لقبيل شياطينه ، كما قال عالم الغيب  والشهادة  الكبير المتعال سبحانه :

       { حَتىَّا إذَا جَاءَنَا قَالَ يَـَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرقَيْنِ فَبئْسَ الْقَرينُ . الزخرف  الآية 38 } .

        حتى إذا استفاق  الإنسان  ورجع إلى الله  بعد كل مصيبة من مصيباته . أما إذا لم يستفق  ، فلا بد  هو ذاكر ذلك في  نزعه الأخير في يوم الفراق ، فراق الدنيا وفراق القرناء ، عند مواجهة الموت  ، وكذلك  يوم القيامة ، وكذلك يوم الحشر  ، وكذلك يوم التوزيع إما إلى جنة إما إلى نار ، وإلى أبد الآبدين .