بسم الله الرحمن الرحيم
ليلة القدر بالأدلة القرآنية والعلمية الحديثة
قال الله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . سورة القدر الآية الأولى }والمعنى أنزلناه ، أي القرآن الكريم ، لقوله تعالى:{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ … سورة البقرة الآية 185 } ، وليلة القدر يعني بالضرورة هي في شهر رمضان ، عملاً بالنصَّين ، أي : إنا أنزلناه … وشهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن . ثم قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر، يعني تمَّ إنزال القرآن في ليلة واحدة ، ويجب أن يكون ذلك قبل إنزاله في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله محمّد (ص) في مكة والمدينة . يبقى أن نعرف موقع هذه الليلة التي أشعر الله تعالى بفضلها وشرفها . ففي ذلك كثرت الأحاديث وتضاربت عن رسول الله (ص) وعن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم . ولكنَّ كلَّ هذه المنقولات حدَّدت أن تلتمس هذه الليلة وتراً أي بالمفرد ، وأن تكون في الليالي التسع الأخيرة من شهر رمضان المبارك . يعني أن تكون هي : الإحدى وعشرين أو الثالثة وعشرين أو الخامسة وعشرين حتى التاسعة وعشرين . وفي هذا قليل من الحقيقة .
لذلك نعود إلى قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة ، وهذا يعني أن إنزال القرآن لم يكن إلى الأرض في هذه الليلة ، لأن إنزاله إلى الأرض كان على محمّد (ص) نجوماً ، أي آية آية ، ومجموعة مجموعة ، وسورة سورة ، طوال مدة ثلاث وعشرين سنة . فما دام إنزاله ليس إلى الأرض في الليلة التي عيَّنها القرآن ، فإذاً لا بدَّ أن يكون إلى سماء من السماوات القريبة من الأرض ، وعلى المَلك(الملك بفتح اللام واحد من الملائكة ) ( بفتح اللام ) أن ينقله إلى محمّد (ص) نجوماً كما ذكرنا ، وهذا الملك هو الروح القدس الذي ذكره الله تعالى في قوله : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . سورة الشعـراء الآيات : 193 ـ 194 } والمعلوم بالقرائن القرآنية أنه جبرائيل عليه السلام .
يبقى أن نعرف ـ ونحن في القرن الخامس عشر الهجري والواحد والعشرين الميلادي ـ أي عصر الفتوحات العلمية المدهشة ، ولا سيما في علم الفلك ـ فقد ثبت ما هو معلوم ، أن الليلة عندنا في أرضنا هي نصف اليوم تقريباً الذي هو أربع وعشرون ساعـة . وهنا لدينا إشكالان :
الأول : إذا كنا نتعبَّد نحن في المشرق ، في الليلة الثالثة والعشرين مثلاً ، فإنه يقابل ليلنا في المغرب نهار ، فهل عليهم هم أن يتعبدوا في النهار على إعتبار أنها ليلة القدر ، فنقع وإياهم والنص القرآني في تناقض ؟! على أساس أن الآية الكريمة حصرتها في الليل وليس في النهار . وعلى أساس أنه صحيح أن يومنا ويومهم واحد ، فإذا كان ليلنا واحداً وعشرين فنهارهم يكون كذلك واحداً وعشرين ، والمعوَّل على وحدة اليوم بيننا وبينهم هو إكتمال دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . وعلى هذا الأساس إذا كان إلتماس الليلة بالمفرد ، فبذلك يخسرها نصـف العالم ، فإذا حصرها أهل الغرب عندهم ليلاً ، خسرناها نحن في شرقنا نهاراً ، والعكس صحيح وواضح . فإما أن يكون الله تعالى كتب على نصف أهل الأرض حرمانهم من ليلة القدر في كل شهر من شهور رمضان ، وهذا مستحيل ، لأنه هو سبحانـه ربُّ العالمين . وإما أن تكون الروايات عن حصرها بليلة واحدة من ليالي الأرض وأن تكون وتراً أي بالمفرد ، هي روايات موضوعة أو مشوَّهة ، يشهد عليها تناقضها الشديد .
ولا بدَّ هنا من ملاحظة أن ما يزيد الأمر اضطراباً بخصوص الروايات وتحديد كون الليلة المرجوَّة ينبغي إلتماسها وتراً أي بالمفرد كما ذكرنا ، هو الإختلاف الذي أصبح في عصرنا هذا تحصيل حاصل لا بدَّ منه : ففريق يرى أن الشهر اكتمل تسعاً وعشرين يوماً وفريق يصرُّ أنه رآه بالعين أو بالآلة أو بالحساب … أنه اكتمل ثلاثين يوماً ، طبعاً وتأتي المفارقة على حساب ليلة القدر ، فالوتر يصبح شفعاُ والشفع يصبح وتراً وهاتِ إرتباكاً في ملاحقة الليلة المهمة المباركة ، أو اصطيادها أو محاصرتها في هذه الفوضى العارمة .
الإشكال الثاني : هو أن الناس يحصرون ليلة القدر بنصف اليوم المتعارف ـ طال ليله أم قصر ، فقد تكون الليلة اثنتي عشر ساعة أو أقل أو أكثر ، وهذا القياس متعلق بالأرض كما قلنا وبدورتها حول محورها أمام الشمس ـ ونحن أصبحنا في عصرنا هذا نعلم أن ارضنا هي جرم متوسط الحجم بين الكواكب الدوَّارة حول الشمس ، وأن من هذه الكواكب ما هو أكبر منها حجماً . فالمشتري مثلاً وهو عملاق الكواكب ، يزيد يومه على يومنا من حيث الطول ، وطبعاً ليلته هي أطول من ليلتنا بضع مراتٍ أكثر .
وعلى هذا الأساس . نفهم من قول الله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ … سورة التوبة الآية 36 } فهذا النص الواضح يعني أن هذه الشهور تستقطب السماوات والأرض . وبما أن الله عز وجل أنزل القرآن دفعة واحدة ً إلى سماء ٍ ما كما قدمنا ـ وكل ما سما أو يسمو عنا أي علا يعلو ، هو سماء ـ فلا بدَّ أن تكون السماء التي أنزل سبحانه إليها القرآن هي جرم من الأجرام السماوية حجمه أكبر من حجم أرضنا وشهره بالضرورة أطول من شهرنا وليلته أطول من ليلتنا . فهل يكون هو المشتري ؟ الله العالم .
على كل حال ، لم يعد مهما أن يكون المكان الذي أنزل إليه القرآن دفعة واحدة في ليلة واحدة هو المشتري أو أية محطة سماوية أخرى من هذه السماوات . ولكنَّ المهمَّ أننا أصبحنا نعلم بالدليلين القرآني والعلمي أن هذه الليلة التي أنزل فيها القرآن والتي أسماها الله تعالى ليلة القدر ، تساوي عشر ليال ٍ من ليالينا الأرضية ( حدَّدتها الروايات بالإجماع أنها العشر الأواخر من رمضان ) وأن هذه العشر ليالي كلها بشفعها ووترها، كلها ليلة القدر التي نوَّه الله تعالى بعظيم أهميتها .
وهنا لا بدَّ كذلك من دليل ٍ قوي شرعي على كون هذه الليلة تساوي عشراً من ليالينا على أرضنا ، وليس أقوى من الدليل القرآني ، الذي يشير إلى أنها ليال ٍ عشر وبشفعها ووترها وكذلك بأهميتها ، لأنه سبحانه أقسم بها في أول سورة الفجر بقوله تعالى : { وَالْفَجْر . وَلَيَالٍ عَشْرٍ . وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ … } وإذا كان الله تعالى لم يهدِ المفسِّرين قديماً وحديثاً إلى هذه الحقائق ، فهو سبحانه قد تفضل علينا وهدانا إليها ، كما هدانا إلى كشف الكثير من الأسـرار القرآنية التي كانت مغلقة، والتي وزعناها في كتبنا التي ألفناها ونشرناها ، ولله الحمد وله الشكر أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وعلى كل حال .