ما الهيولى ؟! وما الفناء في ذات الله المقدسة ؟!

ما الهيولى ؟!

وما الفناء في ذات الله المقدسة ؟!

          كذلك رجوعاً ، إلى الصفحة 18 من كتاب ” هل نرى الله ”  فقد ورد  في كلام المؤلف هذه العبارة : ” وجعل أنفسنا من الهيولى ” وهذه العبارة  : ” … والوصول .. إلى الفناء في ذات الله المقدسة ” .

فأولاً ، ما هي الهيولى ؟

          الهيولى لفظة فلسفية يونانية نقلت بلفظها إلى بقية اللغات ، وكما اختلف حول مفهومها ، الفلاسفة اليونان ، كذلك تبعاً لهم ، إختلف الفلاسفة الإسلاميون . وهذا نمط من الخلاف (*) ، نثبته ، كنموذج عن خلافاتهم حول أكثر القضايا الفلسفية إن لم نقل جميعها . آملاً من القارىء المشتاق إلى الحقيقة ، أن يصبر معي صبراً جميلاً لعلنا نعتاض عن مفردات القرآن الكريم ، بمفردات ومصطلحات جاهلية اليونان ، بدلاً من اشراقات نور الله في كتابه العزيـز ، الذي { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . سورة فصلت الآية 42 } . معتذرين من الذين يقولون بتمددات الحضارة الإنسانية وتداخلها ، بأنه صحيح في الهوامش ، وغير صحيح في الأصول ، حيث من غير الحق القبول ، بخلط الظلام بالنور ، والعماية بالهداية والحقائق بالأباطيل . وإليك أخي الكريم ، هذا الخلاف حول الهيولى : فقد ورد تحت عنوان عقد وحل (*) ، ما يلي :

          ” وربما قال قائل إن هذا الرسم غير صحيح بوجوه :

أما أولاً : فلصدقه على الهيولى الأولى لأنها جوهر يقبل الأبعاد وإن كان بواسطة الصور الجسمية فإن صحة فرض الأبعاد بالواسطة أخص من صحة فرض الأبعاد مطلقاً ومتى تحقق الخاص تحقق العام بالضرورة .

وأما ثانياً : فلأن الوهم مما يصح فيه فرض الأبعاد الثلاثة كذلك للمقادير الموجودة فيه والتعليمات مع أن الوهم ليس جسماً طبيعياً .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)        أنظر الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة . ج 6 ص 13   و 14 .

          وأما ثالثاً : فلأن الصحة والإمكان ونظائرهما أمور عدمية وأوصاف لا ثبوت لها في العين والتعريف بالعدميات لو جاز لجاز في البسائط التي لا سبيل إلى معرفتها إلاَّ باللوازم وأما الجسم فمهية مركبة لوقوعها تحت جنس الجوهر فلها فصل تتركب هي منه ومن الجنس ولتركبها من الهيولى والصورة والتركيب في الوجود يستلزم في المهية .

          إلى ان يقول :

          وبهذا يندفع كثير من الإشكالات التي تكون من هذا القبيل فإن المعلم الأول (*) حدَّ  المتصل بأنه الذي يمكن أن يفرض فيه أجزاء يتلاقى على حد مشترك ورسمه بأنه القابل لانقسامات غير متناهية ، وحدَّ الرطب بأنه القابل للأشكال بسهولة واليابس بأنه القابل لها بصعوبة فيتوهم ورود النقض بالهيولى الأولى في جميع هذه الحدود ونظائرها …

إلى أن يقول :

          ولنا أن نجيب عنه بأن القبول ههنا بمعنى مطلق الإتصاف بشيء سواء كان على وجه الانفصال والتأثر التجددي الذي يقال له الاستعداد لا مطلق الاتصاف لوجود الأوصاف الكمالية في المفارقات من غير انفصال هناك ، فقبول الأبعاد الثلاثة بحسب الغرض لا يحتاج إلى انفصال مادة أصلاً ، أولا ترى أن الجسم لو كان محض الجسمية من غير هيولى لكان قابلاً للأبعاد العرضية باتفاق العقلاء ، ولهذا عرف الجسم به من لا يعتقد وجود الهيولى الأولى … أو نقول إن إمكان القبول للأبعاد صفة للجسم لا القبول فلا ينافي هذا كون القبول من جهة أحد جزئيه أولا ترى ان إمكان الإنسانية صفة للمنيّ وليس المني إنساناً فإمكان قبول الأبعاد من لوازم الجسم التي لا يحتاج ثبوتها له إلى قابلية واستعداد …

          هذا عن الهيولى .. وبقطع النظر ، عن أنه عندنا بدائل تقربنا من الحقيقة ، بل وهي الحقيقة الأصلية ، قوله تبارك وتعالى : { .. وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِنْ طِينٍ . سورة السجدة الآية 7 } . إلا أننا نتساءل ، إلى أين مع الفلسفة ، ولماذا هذه اللفظة أخاذة لعقول الناس . ونحن لم نجدها يوماً في التاريخ ، حلَّت مشكلة ، كان الحل فيها بديلاً عن دين رب العالمين ، في جواهره وتعاليمه ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)        هو عند أهل الغرب سقراط  ،  وقد  اعتمد  هذه  التسمية  كذلك  الفلاسفة الإسلاميون كما ترى .

          خلافات ، وتناقضات ، وفلاسفة كبار وحكماء  وعلماء كلام ..  فبمن يقتدي الباحث المتعلم  ، ومن يقلِّد ؟ وبكلمة أهم ، من منهم المجتبى عند الله ، نقول بعصمته ؟ فإذا كانوا جميعهم مجتبين ، فلماذا خلافاتهم الحادة هذه ، وإذا كان واحداً منهم فكيف نحصره ونحدده ؟ وإذا كانوا جميعهم غير مجتبين ، فكلهم عرضة للسقوط والإنحراف عن الحق وعن صراط الله الذي عليه الحقائق المجردات .

          إذاً ، الحكم الفصل هو القرآن وأهل القرآن ، فمن تجاوز القرآن آملاً الوصول عن طريق غيره ، ضلَّ  وارتبك  وخلَّط .

 

{ .. وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . سورة النحل الآية 33 } .

          ثم انظر إلى هذا التناقض البيِّن : هم يقولون إنهم لا يتوصلون إلى معرفته سبحانه عن طريق العقل ، والفلسفة طريق العقل ، وهم يسترشدون بالفلسفة ، كما رأينا عن الهيولى وغير الهيولى ، عند العلامة الطهراني  في كتابه ( هل نرى الله)  وهو في هذا الكتاب كذلك يقول ما نصه بحرفيته :

          ليس بمقدور الإنسان معرفة الله بواسطة الفكر والتفكير ولا حتى بطريق الإدراك ، ذلك أن الفكر والتفكير محدودان بينما الله سبحانه لا حدَّ له . فكلما حاول الإنسان جهده الإحاطة بالتفكر والقدرة العقلية كان ذلك له محالاً ، ذلك لأن صورة تفكيره ، وهو ذهنه ، هي صورة تخيليّة من صنعه وصنيعته هو ، فأين ذلك من الله عزَّ وجل (*) ؟

          ولا بأس أن نذكِّر هنا بما أوردناه سابقاً ، بأن رسول الله محمّداً (ص) سئل كيف عرفت الله ؟ قال : بالله عرفت الله .

          وصحيح أن العقل لا يكفي للوصول إلى معرفة الله عزَّ وجل ، وحتى لا يكفي لبناء أمة أو جماعة أو أسرة من أب وأم  وأولاد أو حتى علاقة سوية بين شخصين ، وما أقصده بالبناء ، هو البناء السوي القائم على الحق  والعدل  والجمال  والحرية والفضيلة ، وهذه الركائز في بناء المجتمعات أو الأمم ، هي صبغة الله ، التي أرادها وعلمها الله تعالى للبشرية ، فإذا حصَّلها أو حصَّل بعضها  العقل فيكون ما حصلَّه ، من تعليم الله والفطرة التي فطر الناس عليها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)           ص 21 آخر سطر وما بعده .

          وهنا يجـب أن ننبه إلى أن العقل الذي نتحدث عنه هنا ، هو الذي في عرف الناس ، والذي هو نتاج التفاعل بين النفس والدماغ ، وهو ليس كذلك في الحقيقة ، ولقد تحدثنا بإسهاب عن العقل الحقيقي في كتابنا  ” العقل الإسلامي ” فلا ينبغي التكرار . سوى ملاحظة سريعة نقول تريح القارىء الذي لم يطلع على كتابنا من الحرج ، وهي أن العقل الحقيقي إنما هو الروح ، أو النفخة التي في كلام الله تعالى ، قوله : { .. فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا .. } .

          كم من الأمم سادت ثم بادت ، لأنها استبدلت بتعاليم الله العقل العرفي ، أي التركيب الغريزي بين النفس الأمارة والدماغ.

          هذا الدماغ ، قلنا عنه إنه ( اللب ) الأوسع نشاطاً ، أو المفاعل الأعلى خطراً في عالم الجواهر المادية ، فهو مركز التبليغ والترجمة والتفسير ، إضافة إلى الإحساس والذاكرة ، والعواطف والقدرة على الحركة ، فإن ضاق عن العقل ، تحوّل إلى الآلية والغريزية بنسبة ما يضيق ، وبقيت له هذه الأمور كما هي للدماغ الألكتروني أو المخلوقات الغريزية الراقية .

           أما العلاقة بين العقل الحقيقي والدماغ ، هي علاقة الطاقة الغيبية الموجهة لبرمجة مفاعلها الأرقى في جواهر المادة. والنفس هي التي تسبب انفتاح الدماغ على العقل أو انغلاقه دونه ، أو  جعله في حالات بين الحالتين . يعني يكون هذا الواقع المتكيِّف ، رهن بمدى إقبال الإنسان على ربه ، أو تباعده عنه جلَّت عظمته .

          وفي حال تلبس النفس بكفر أو شرك أو استكبار ، أو الوقوع في هوىً أو إثم ، ينشغل الدماغ والنفس بالحدث منصرفين عن العقل ، فتفقد النفس بذلك الهداية والسداد والرشاد، وتحاول الإستئثار ضالة ظالمة بموقع القيادة  ، مأذوناً لها بذلك تبعاً لاختيارها وتنكرها لولاية الله ورعايته ، فيتخلى عنها الله امتهاناً وإمهالاً وتحجيماً ، وليس إهمالاً أو تفويضاً . وفيها قال سبحانه :

          { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا . سورة الشمس الآيات ( 7 ـ 10 ) } .

          وباختصار شديد ، إن مجمل نشاطات الدماغ وعلاقته بالنفس حصراً ، مستقلَّين عن الروح أو الروحانيـات ، هذا المجمل هو ما يعنيه الناس بجميع درجاتهم عندما يقولون : العقل ، وهو هو  بالنتيجة العقل الفلسفي ، أو هو العقل الذي يعتمده الفلاسفة ، مستقلين به إجمالاً عن التعاليـم الإلـهية . منذ منطق أرسطو مروراً بالفلسفات اليونانية ـ الهلينية والرومانية ، والفارسية ، وفيها الزرادشتية والإثنية وغيرها وغيرها ، كل ذلك قبل الإسلام المجيد ونزول القرآن الكريم ، من لدن الله تبارك وتعالى على قلب عبده ورسوله محمّد (ص) . ثم تمددت هذه الفلسفات الوثنية ـ حيث كان تعدد الآلـهة عند جميع من ذكرنا من الأمم ـ داخلة أو مدخلة فيما سمي بعد ، بالفلسفات الإسلامية ، عند توهج الحضارة بالتوحيد وبالقرآن ، الحضارة التي أوشكت أن تعمَّ العالم ، لولا زندقة الفلسفة ، وركوبها متون الفلسفات التي ذكرت ، فضلاً عن جنوح أكثر الخلفاء عن دين الله بردة عنيفة إلى الجاهلية تارة ، وإلى الملك العقيم العضوض تارة أخرى .

          في هذا الوقت الذي كانت الفلسفة والملك الباطل والردة  تنخر بالحضارة المرشحة لخلاص العالم وإسعاده ، كان الغرب يستيقظ من ظلام أمّيته وبدائيته ، ليدخل من جديد في عهود ، هي بمقياس الآخرة ومقياس دين رب العالمين ، هي أشد ظلاماً. فكان من نتاج هذه الفلسفات في تمدداتها في الفكر الغربي الهجين ، الذي كان حتى المسيحية حوَّلها إلى وسيلة ابتزاز وسحق لعامة المسيحيين ، إنطلاقاً من ديكتاتورية الكنيسة ، مروراً بمحاكم التفتيش وقتل عباقرة العلم باسم الدين ، ناهيك عن اتخاذهم إلـهاً من دون الله ، إنساناً بشراً ، هو رسول الله عيسى المسيح بن مريم عليه وعلى أمه الصلاة والسلام .  مما أسس في الغرب حضارات زنديقة ، وليدة فلسفات مادية معلنة ، كالفلسفة التي بني عليها الإتحاد السوفياتي عالياً وشامخاً ، وفجأة دمَّره الله المنتقم الجبار ، فجعله قاعاً صفصفا . وفلسفات أخرى مادية كذلك ، وإنما غير معلنة ، كفلسفات بقية دول أوروبا الوسطى والغربية ، ثم الفلسفات التي بنيت عليها الولايات المتحدة الأميركيـة ، والتي هي أشد كفراً وظلماً وزندقة ، وتنكراً للمسيح وأمه وجميع القديسين والأناجيل . غير مرجع واحد يرجع إليه الجميع يدَّعي روحانية كاذبة مشوهة ، هي التي ستقود أوروبا وأمريكا وعامة حضارات الغرب الراهنة ، إلى دمار وانهيارات سيكون صوت دوِّيها أعظم من دويِّ انهيار ندِّها الإتحاد السوفياتي ، عنيت بهذه الروحانية الكاذبة والدجالة ،  الصهيونية العالمية ، والتي هي في هذه الأيام تحفر قبرها في فلسطين بأيدي أبنائها وأيدي المؤمنين ، الذين هم لها بإذن الله تعالى بالمرصاد .

          وآتية هذه الأمة ، التي ستخلص العالم إن شاء الله .

{ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا . وَنَرَاهُ قَرِيبًا . سورة المعارج الآيات ( 6 ـ 7 ) }  . ولا قوة إلاَّ بالله العزيز الحكيم .

          والآن بعد أن تحدثنا عن ( الهيولى ) وعن الشأن الفلسفي وغربته عن علم العرفان الإلـهي ، وعدم الوصول بواسطته إلى الحقائق العرفانية الصحيحة المتلائمة مع كتاب الله المجيد ، بل الشأن الفلسفي كما أوضحنا ، وكما سنتابع الإيضاح بإذنه تعالى ، يجر إلى التناقض الشديد مع بعض الحقائق المبيَّنة بالنصوص الإلـهية القرآنية التي لا تعلو عليها أية نصوص في هذه الحياة الدنيا . والتي يجب أن تكون هي المرجع الذي يحكم بحكم الله جل وعز ، في ما يصدر من تناقضات وخلافات بين القرآن المجيد من موقعه الإلـهي من جانب ، وبين الفلاسفة أو علماء الكلام أو الحكماء ، من مواقعهم البشرية من جانب آخر ، ولو كانوا ـ مما لا شك فيه ـ كثيراً ما يصيبون ، إلا أنهم في الوقت نفسه كثيراً ما يخطئون ، كما نرى بوضوح في نصوصهم التي بين أيدينا .

          وإذا قيل إن تأويل الآيات قد يختلف ـ وحتى تفسيرها ـ بين مفسِّر وآخر ، أو عالم وآخر ، قلنا هذا صحيح . ولكن إذا أُخرج معنى النص عن حقيقته وعن مجازاته ، وإذا كان قلب المفسِّر أو المؤوِّل غير صالح ٍ للتلقي وغير مؤهل للتفريق بين العبارة والإشارة والحقائق القرآنية ، فلا يقتحمنَّ هذا الميدان ، فإن في ذلك حساب صعب ، كما أن فيه الثواب ، كذلك فيه العقاب ، في الدنيا والآخرة . وإذا لم يوافق التفسير أو التأويل إرادة الله عز وجل كانت الداهية الدهياء . أما الحديث المزعوم:  من اجتهد فأخطأ له أجر واحد ، ومن اجتهد فأصاب له أجران ، فينقضه قول الله تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه . سورة الزلزلة الايات ( 6ـ 7 ) } . وأي شر هو أدهى من تحريف كلام الله أو الإنحراف بمعانيه عن إرادة الله تبارك وتعالى ! ..

          بقي أن نجيب عن السؤال الثاني الذي طرحناه في عنوان هذا البحث ، وهو :

          ما ” الفناء في ذات الله المقدسة ” ؟!

          هذه العبارة هي الإشكال الثاني الذي ورد في كتاب ( هل نرى الله ) والذي وعدنا بالرد عليه(*) .

          لقد أوردنا في بداية هذا الفصل ، استحالة رؤية ذات الله المقدسة ، من خلال النص القرآني وفيه طلب موسـى (ع) أن يـرى الله  عز وجل . فكانت النتيجة أن تجلىَّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)        أنظر الصفحة 133 .

 سبحانه للجبل فجعله دكاّ وخر موسى صعقا . بعد أن عمّم تعالى على البشر هذا الخبر : { لن تراني } وهو القول الفصل الذي قاله لموسى ، وبيَّن له عملياً استحالة رؤيته من قبل خلقه سبحانه .

          هذا أولاً ، وثانياً ، من المعروف عند السالكين من أهل العرفان ، أي الذين هم في هجرة من بيوت نفوسهم إلى الله تبارك وتعالى . وقد تحدثنا في سياق هذا الكتاب عن برمجة هذه الهجرة ، كما تحدثنا في كتابنا ( العقل الإسلامي ) عن المحطات الأولى فيها ، ومما ذكرناه أنَّ فناء المهاجر ، إنما يكون ( في فِناء الله ) جلَّت عظمته وتبارك وتعالى ، وأن هذا الفَناء هو شعور الإنسان بانمحائه كلياً من الوجود ، ويكون هذا الإمحاء ، أو الأولى أن نقول هذا المحو ، غالباً أثناء السجود ، ثم يبعث الله عبده بعد محوه الذي يدوم عادة لثوان ٍ معدودات . ولأن جميع السالكين يمرون في هذه الحالة فقد تعارفوا على تسميتهـا ” الصحو بعد المحو ” أما  ” فِناءُ الله ” بكسر الفاء ، فالفِناء  في اللغة ، نقول  فناء البيت أي داره ، وفِناء الله بالمعنى العرفاني التطبيقي ، هو دار بيته العتيق  ، أي الكعبة المشرَّفة . وقد يتدرج الفَناء في المطلق ، دون تحديد مكان ما ، إلى أن يمرَّ في فِناءِ الكعبة أعزها الله ، وقد يتم الدخول إليها بالنفس الكلية . وفيها تظهر النفس الخامسة للمجتبين . وهنا يعرف معنى قوله تبارك وتعالى { .. وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا .. . سورة آل عمران الآية 97 } .

          أما هذه المراحل التي أوجزنا الحديث عنها ، فتتم بوضوح في اليقظة وليس في المنام كما قد يخيَّل لبعض القارئين .

          والخلاصة النهائية ، هي أن الفناء العرفاني ، إنما هـو  ” فَناء في فِناء الله ” وليس فناء في ذات الله المقدسة لأن هذا الأخير مستحيل .

          ونكتفي بهذا المقدار من هذه التناقضات التي أشرنا إليها علماً أن في الكتاب المشار إليه ، غيرها ، يحصِّلها من تفضل الله عليه بتجليات نورانية من الأرقى إلى الأنقى والأصفى ومن نور عظيم إلى نور أعظم ، إلى بحر أحديته ، إلى يم وحدانيته ، إلى سعة فضاء رحمته يطير في الأفق الأعلى بجناحين لازورديين …