متى المهدي المنتظر عليه السلام ؟

متى المهدي المنتظر عليه السلام ؟

        لا متى  ، وكذب الوقاتون . 

        إنما حيث أن الأمة  ترتقب مهديها المنتظر ، فكل ما ذكرناه من لزوم نظام الأمة وانتظامها ، وارتفاعها من بؤر البؤس والذلة ، والتمزق والتشرد ، والتبعية والفساد ، هو فريضة تعبدية ، تأتي في سياقها ومن ركائزها فرائض  الصلاة والزكاة ، والصوم والحج … قلنا  كل الذي ذكرناه ، ينبغي أن يقام كواجب تعبدي لله ـ والعبادات كلها مصالح للبشر والله غني عن العالمين  ـ  لبينما يظهر الله عزّ وجلّ وليَّه المهدي الموعود المنتظر ، فرجاً للمؤمنين ، ورحمة للعالمين .

        أما الذين يريدون تجميد القرآن  وتعطيل الأحكام  بانتظاره عليه السلام  فأفضل تشبيه لهم بالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال ، حتى لا يراها  الصياد ، ويستهدفها  … بناره .

        وإلاَّ فإلى من أنزل الله عزّت عظمته :

         { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } .

        و{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } .

        و { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } .

        إلى عشرات الآيات التي تلزم وجوباً بالحكم  بشريعة الله وتعاليمه ، وبتهيئة المناخ المناسب لإظهار مهدِّيه المرتقب عليه السلام .

        وإلاَّ فإنه سبحانه يستحيل أن يرضى بالفوضى والتسيّب ، والتفكك  والضعف  والشتات والهوان  ، هذه الأمور التي تعاني منها الأمة ، التي قال فيها سبحانه : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ … } .

        أربعة عشر قرناً من الإنتظار ، ولم يظهر مهدي الأمة المنتظر ، وما مضى  قرن من هذه القرون ، إلاَّ  وكان فيه محن وفتن وبلاءات ، كانت تشتد وتتفاقم ،  

 

حتى كان الناس يعلنون معها في كل جيل  ، قائلين: هذه أيام الظهور ، ظهور المهدي المنتظر ، جميع أجدادنا ، منذ توفى الله محمداً (ص) توقعوا ، كل منهم في جيله ، ظهور المهدي عليه السلام  . والله راءٍ ، والله سامع ، والله قادر ، والله فاعل . تُرى ، أهو ابتلاء دهري للناس ، لا سيما منهم أولو الألباب ، مضمونه هكذا  : إنه يا عقلاء ، برغم أنكم عقلاء ، وقد عرفتم أكثر فأكثر ، كل جيل يعرف أكثر من سابقه ، بحكم زيادة العلوم  والمعارف ، أن الله عزّ وجلّ معكم ، وأقرب إليكم من حبل الوريد ، وسامع بصير قادر ، بيده الخير ، كل خير ، وهو رب المهدي وربكم ، وهو سبحانه لو استقمتم على الطريقة لأسقاكم ماءً غدقا ، ومع ذلك كأنكم لا تريدون منه سبحانه وتبارك وتعالى ، وإنما تريدون فقط ، من المهدي المنتظر ! …

        صحيح  ، الله أعلم بعباده ، وهم لو كانوا جميعاً يستطيعون التعامل معه سبحانه تعامل العارفين ، وتعامل الواصلين ، وتعامل المصطفين المجتبين الأبرار ، لكان منذ البداية كفاهم مؤونة اتباع هؤلاء جميعاً ، وألزمهم الفطرة  التي فطرهم عليها ، والعقول التي جهزهم بها ، ولكن رحمته أوسع وأعظم ، حيث تفضل عليهم تفضلاً ، بإنباء الأنبياء ، وإرسال الرسل ، وإقامـة الأئمة والأولياء الصالحين ، واعداً إياهم قبل قيام الساعة ، بعودة رسوله المسيح وظهور وليه الموعود ، عليهما أزكى الصلاة والسلام .

        كل هذا صحيح ، وحقيقي ، ولكن  العقل يقضي بالحقيقة الأعظم ، وهي أن الله عزّ وجلّ ، هو الحي القيوم ، والسميع البصير ، وأنه بكل شيء محيط ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن فوق هذه الحقيقة ، الحق الذي يقضي به الله عزّ وجلّ وليس فوق هذا الحق فوق ، سوى الله جلّ  جلاله ، قوله تبارك وتعالى : { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . [ 20 : غافر ] .

        والذي نريد أن نقوله ، هو الطعن بطريقة الإنتظار ، الطريقة ـ البلاء ، التي يمارسها أكثر الناس ويعيشون تحت وطأتها . فهم ينتظرون المهدي ناسين الله عزّ وجلّ ، المهدي عندهم مع هذا النسيان ، كأنما هو بديل عن الله عزّت عظمته . ينتظرونه  وكأنه سيحول الدنيا إلى جنة ، إلى أموال وثروات ، وكشف كنوز الذهب والياقوت … وتأمين الرفاه والبحبوحة والنعيم المقيم ، بعد أن يحصد أعداء المسلمين  وجميع الكفار حصدا . وهذا مستحيل ، لأن الدنيا هي الدنيا ، والجنة هي العليا .

        كان اليهود ينتظرون المسيح  بنفس هذا التصـور ،  وعندما جاءَهم المسيح  ، رسول سلام ومحبة ،  أنكروه ، وما اكتفوا ، بل آذوه أذىً منكراً ، وكذبوه وقذفوه بأشنع  التهم هو وأمه عليهما السلام ، وما زالوا ،  وادعوا صلبه فخورين بذلك . ومع ذلك نصره الله نصراً عزيزاً ، على طريقة الله بنصر رسله وأحبته وأوليائه . يعني نصر دعوته ، دعوته إلى الله  وإلى التسامح والمحبة  والتطلع إلى رضى الله ورضوانه ، فوق هذه الأرض  المحطة ، التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة .

        فما رأي منتظري المهدي عليه السلام ؟ أن يأتي بمثل هذه الوظيفة أصالة  وتفريعاً . وهو عليه السلام ، سيأتي بها أصالة ، وهي الدعوة إلى الله ، تجديد الدعوة  ، وإحياء مفهوم التوحيـد على أصالته . أما في التفريع ، فمن يعلم غير الله ، أبالسيف  سيأتي ، أم بالعلم  والعقل والمحبة  … وعلى هذا الأساس  قد ينكره ناس كثيرون ، من الذين ينتظرونه ، حيث أنهم ينتظرونه كما يحبونه هم ، لا كما يريده الله سبحانه .  وقد يلحقون به الأذى  الشديد ، ويحاولون قتله ، كما فعل اليهود ، مع من كان وعدهم الله به ، رسوله المسيح عليه السلام .

        ولقد أتى محمّد بعد المسيح سلام الله عليهما ، فما أتى بالأموال لأتباعه ، ولا بكنوز الذهب الإبريز ومناجم الياقوت  ، وإنما أتى بأعظـم من ذلك بدون قيـاس .

        أتى بمفهوم التوحيد ، وحقائق التوحيد .  أتى بشهادة أن لا إلـه إلاَّ الله ، وعلم الناس ، أن هذه الشهـادة  هي مفتاح السماوات والأرض ؟  والحق والحقيقة ، أن قوم محمّد الأصفياء (ص) من بعده ، فتحوا بهذا المفتاح الكوني  الأعظم  ، فتحوا الأرض  ، معظمها . وفتحوا جوانب كبيرة من السماء .

        فلو أن الناس انتظروا المهدي عليه السلام بهذا المفتاح  ، باقياً في قلوبهم  وأدمغتهم وأعمالهم ، لظلوا يفتحون بالعلم والعدل والرحمة ، جوانب الأرض ، وبالتقوى والخشوع والخضوع والحب لله تبارك وتعالى جوانب السماء .

        أفلا يمكن أن تكون وظيفة المهدي عليه السلام هي استكمال ما جاء به محمّد (ص) ، لا للإنتقام ولا للمال ولا للرفاه ، وإنما لإستكمال فتح ما لم يفتح من جوانب الأرض  ، بالتوحيد ، بالدعوة إلى الله وحده ، وفتح ما لم يفتح من جوانب السماء ، بالتقوى والخشوع والحب الأعظم للحبيب الأعظم ، رب السماوات والأرض وما بينهما رب العالمين ؟

        أوليس ممكناً ، بهذا التوجه إلى الله ، وهذه المفاهيم ، مفاهيم التوحيد والولاء الأصيل لله وحده ، أن نمهِّد للمسيح وللمهدي عليهما السلام ، قبل إظهارهما ، فنوفر عليهما مشقات ، ونوفر على أنفسنا انتظاراً معقداً ومحيراً في وقت واحد ، والله الرقيب ، والله الحسيب .

        أو لا يستحي المنتظرون ، الذين نسوا الله ، وهو الحي القيوم ، السميع البصير ، الأقرب إليهم من حبل الوريد ، أن يتوكلوا على عبد من عباده ، ولو كان من الصالحين الأبرار المنتجبين ، الذين ليس لهم من الأمر شيء ، إلاَّ أن يهديهم الله ، ويظهرهم الله ، وينصرهم الله سبحانـه وتبـارك وتعالى عما يشركون .

        ولعله يلاحظ تكرارنا لعبارة : وحده بدون شريك ، أو التأكيد على كلمـة ، وحده ، هكذا : وحده وحده وحده ، أو بما هو بمعناهما . والحقيقة أن ذلك مقصود عن سابق تصور وتصميم . فإن حقيقة التوحيد ، التي تقوم عليها السماوات والأرض  وما بينهما ، أصبحت  ضعيفة حتى عند الموحدين ، لـدرجة أنـه تـرتب على قلـة العنايـة والإهتمـام بها ، التصـدع والتفسـخ والإنهيـارات في الأفراد ، وجوانب واسعة  من أمة التوحيد أو شعوب التوحيد  في الأرض . وهذه البـلاءات والكوارث ناتجة عن هوى الأنفس ، في الميل إلى بديل أو أبدال عن الله جلّ جـلاله ، لا سيـما في صفوف الأنبيـاء والأئـمة ،

حتى الزعمـاء الدينيين المعاصرين ، أمواتاً وأحياء . أما الآيات التي تصدع  بالنهي عن عبادة المخلوقين  أو النظر إليهم  وكأنهم آلهـة ، فكثيرة جداً ، يكفي قليل من الفطنة  والتدبر  لأي قارىء عادي  للقرآن أن يطلع  عليها حيثما يفتح قرآنه باحثاً ومتأملاً . وهي آيات تناسب جميع الناس بجميـع درجات وصولهم العلمي  والثقافي ، حتى والإيماني ، لكل درجة منهم لغة . ونأخذ هنا مثلاً نموذجاً ، آية وسطية تخاطب عقل الجاهل كما وعقل العالم ، لنقول معها أن كفى بُعداً عن الله وعن توحيده ، وكفى معاذير ، فيها التعصب والعمى  أكثر مما فيها من الإخلاص لله والتقرب إليه بحق لا إلـه إلاَّ  هو . يقول سبحانه :

       { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . [ 28 : الروم ] .

        أي انظروا إلى تعاملكم  فيما بينكم  { هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } من  عبيد وإماء ، شركاء  لكم  في أموالكم وأعمالكم  وتصرفاتكم  ، يساوونكم  في التسلط والتملك ؟ وتخافونهم كخيفة بعضكم بعضاً ، وأنتم الأسياد  المالكون  وهم العبيد الأرقاء المملوكون على شتى درجاتهم وقدراتهم ؟ فإن كنتم لا ترضون  مساواتهم ولا ترضـون مشاركتهم ولا ترضون معصيتهم لكم ،  وهذا بديهي منكم ، رغم أن حريتكم  كأحرار ، وسيادتكم كأسياد  ، وكذلك قواكم وغناكم وجميع معطياتكم هي أمور محدودة ولا تكاد تقاس بما لله عزّ وجلّ ، الذي { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . فكيف ترضون لربكم رب العالمين ، الذي لا إلـه  إلاَّ هو ، خالق الخلق ،  وخالق العباد من جن وإنس وملائكة وغير ذلك ، كيف ترضون له أن يتعبد عباده لغيره ، أو أن يكونوا له شركاء في ملكه وسلطانه وأرضه وسمائه ، وأمره  ونهيه ، وتقريره وتشريعه ، إلى غير ذلك من شؤونه في إدارة ملكه العظيم الذي  لا يحد ولا يطاول ولا يحاول ، وهو الله الذي لا إلـه إلاَّ هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر . فسبحان الله عما يشركون .