المُحْكَمُ والمُتَشَابِهُ
معنى ( المتشابه) في القرآن الكريم :
في اللغة العربية : [ الشبه : ( بضم الشين وكسرها) ، المثل والمشابه . وتشابه تشابهاً ( شبه ) الرجلان : أشْبَهَ كلٌ منهما الآخر . وتشابه الأمران : تساويا حتى التبسا ] (1) . وفي القرآن الكريم قوله تعالى : { وَهُوَ الّذي أنْزَلَ من السَّمَاءِ مَاءً فَأخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَخْل ِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّـاـتٌ مِنْ أعْنَابٍ والزَّيْتُونَ والرُّمَانَ مُشْتَـبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـاـبهٍ انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ إنَّ فِي ذلِكُمْ لآيـاـتٌ لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ } (2) .
فالتشابه الذي في هذه الآية ، هو تشابه بين ثمار معروفة لدينا : زيتون وزيتون ، أسود وأخضر ، صغير وكبير وأشكال متفاوتة . ثم رمان بين حلو وحامض وما بينهما درجات ، وألوان وأحجام مختلفة ، وهكذا فبين أفراد كل فصيل منهما ( الزيتون والرمان ) . تشابه ، بين الحسن والأحسن ، والطيب والأطيب .
ثم قوله تعالى :
{ وَبَشِّر ِ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـاـلِحَـاـت ِ أنَّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لسان العرب ـ ابن منظور .
(2) سورة الأنعام الآية 99 .
لَهُمْ جَنَّـاـتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَـاـرُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رزْقاً قَالُوا هَذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ واُتُوا بِهِ مُتَشَـاـبهاً وَلَهُمْ فِيهَا أزواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَـاــلِدُونَ }(1) .
أما التشابه الذي في هذه الآية فهو تشابه بين معروف ومجهول ، بين فرعي مؤقت ، وأصلي دائم .
وعلى هذا الأساس ، ينبغي فهم الآيات المتشابهات في القرآن الكريم ، وهي المشار إليها في قوله تبارك وتعالى في سابعة آل عمران :
{ هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَـاـبَ مِنْهُ آيـاـتٌ مُحْكَمَـاـتٌ هُنَّ أمُّ الكِتَـاـبِ وَأخَرُ مُتَشـَاــبهَـاــتٌ .. }
بعض وجوه المتشابه :
وفيما يلي بعض وجوه وخصائص الآيات المتشابهات :
= المتشابه فيه قابلية التأويل .
= بعض المتشابه متغير ـ في تحققه ـ باتجاه الأرقى
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة الآية 25 .
والأعم ، مثال ذلك قوله تعالى :
{ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ بِالحَقِ يُكَوِّرُ اللّيْلَ عَلَى
النَّهَار وَيُكَوِّرُ النَّهاَرَ عَلَى الّليْل ِ } (*) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) سورة الزمر الآية 5 : هذه الآية ، فهمها معاصروا محمد (ص) فهما ظاهرياً متصلاً بمفهوم كون الأرض مسطحة . تحيط بها بحار الظلمات ، وأنها ثابتة ، وكذلك النجوم وأن الشمس وحدها تتحرك وتسافر بين المشرق والمغرب ( نظرية بطليموس ) وبقي الأمر كذلك حتى القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي ، حين عرفت كروية الأرض ثم دورانها على نفسها وحول الشمس بعد ذلك ، فعندها ـ بعد ألف سنة تقريباً ، عرف أهل الأرض كما عرف معهم المسلمون ـ ولو معرفة ناقصة ـ معنى قوله تعالى : ( يُكَوِّرُ الليْلَ عَلىَ النَهَارِ وَيُكَوِّرُ النَهَارَ عَلىَ الليْلِ ) . أما المعرفة الكاملة لمعنى هذه الآية ، التي تخرجها إلى كامل تحققها في الخارج ، فهي عملية التكوير العام ربطا بليل ونهار كونيين يتداولان السماوات والأرضين أمام نور عام كوني .
الله هدى الراسخين وأزاغ قلوب الزائغين
قوله تعالى :
{ هُوَ الّذي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَـاــبَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَـاـتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَـاـب وأُخَرُ مُتَشَـاـبهـاـتٌ فَأمَّا الّذينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبعُونَ مَا تَشَـاـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ واْبتِغَاءَ تَأويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأويلَهُ إلاَّ اللهُ والراسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُوا الألْبـاــبِ } (1) .
مقصدنا الآن ، من هذه الآية الكريمة ثلاثة أمور هي الأهم في تاريخ التفسير ، بعدها نُفَصِّلُ القول إن شاء الله ، في المحكم والمتشابه :
الأمر الأول : قوله تعالى : { فَأمَّا الَّذِينَ فِي قُلوُبهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعوُنَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَاْبتِغَاءَ تَأويلِهِ } .
والأمر الثاني : قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأويلهُ إلاَّ اللهُ } .
الأمر الثالث : قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأويلهُ إلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخوُنَ فِي العِلْمِ … } .
فإلى الأمر الأول ولا قوة إلا بالله الأحب الأعز الأجل الأكرم ، اللهم بك أستعين ، عليك توكلتُ وإليك أنبتُ وإليك المصير ، وأنت حسبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران الآية 7 .
أولاً ـ من هم الذين في قلوبهم زيغ
يبتغون الفتنة ويبتغون تأويله ؟
قال تعالى في نفـس الآية السابعـة من سورة آل عمران : { فَأمَّا الَّذِينَ فِي قُلوُبهمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشـَاـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَاْبتِغَاءَ تَأويلهُ }. { الَّذِينَ فِي قلوُبِهِمْ زَيْغٌ } ليسوا كفاراً ولا مشركين ، بل هم بالضرورة مسلمون قرآنيون .
وقد نتج عن اتباعهم ، المتشابه ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله: الكوارث التاريخية التالية :
- فتنة السقيفة .
- فدك وتأويل القرآن خطأ (1) .
- الفتوحات واستبعاد علي كرم الله وجهه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فدك مزرعة في المدينة كانت ملكاً لرسول الله محمد (ص) أورثها لإبنته فاطمة عليها السلام . فمنعوها إياها بعد وفاته { بحجة حديث مدّعى عنه (ص) أنه قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث } . وذلك في أكثر من موقف مأساوي ، مما نتج عن ذلك نتائج تاريخية مأساوية . وعندما احتجت فاطمة عليها السلام بالقرآن ، بقوله عز وجل : { وَوَرثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ }، أَوَّلُوا الآية هذه بغير حقيقتها ، قائلين أن سليمان إنما ورث العلم والنبوة ، علماً أن النبوة لا تورث .
(2) أمر سبحانه بأن تكون أمرة المؤمنين وخلافة رسول الله محمد (ص) لعلي بن أبي طالب ، في أكثر من آية قرآنية مدعمة بالوقائع التاريخية التي كان قطبها الأروع علي بن أبي طالب ، بدون مزايد ولا منافس ولا مزاحم . فكان حَريِّـاً أن يخطط هو للفتوحات وأن يقودها ، لأنه لو أعطي حقه الشرعي في ذلك ، لكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسط الإسلام على كافة هذا الكوكب ، ولما كانت عانت الأمة وما زالت تعاني من انتكاسات وهبوط وتراجعات لتاريخ كتابة هذه السطور. ومن الآيات التي كانت ملزمة للقوم ، في تقديم علي بن أبي طالب عليه السلام ، إلاّ أنهم أوَّلوها التأويل المُنْكَرُ للمتشابهات ، قوله تعالى :
{ إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والّذينَ آمنوا الّذينَ يُقيمُونَ الصَّلواة ويُؤْتُونَ الْزَكَواة وَهُمْ رَاكِعُونَ . سورة المائدة الآية 55} .
وقوله تعالى :
{ يَا أيُّهَا الّذِينَ آمنُوا أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمْر ِ مِنْكُمْ فإنْ تَنَـاـزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوم ِ الآخِر ِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأويلاَ . سورة النساء الآية 59 } .
وغير هاتين الشهيرتين ، كذلك الشهيرتان الأُخْرَيَان : آية التطهير.
قوله تعالى :
إنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البّيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرا . سورة الأحزاب الآية 33 } .
وآية المباهلة ، قوله تعالى :
{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأنْفُسَنَا وَأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكَـاذِبينَ . سورة آل عمران الآية 61 } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم الخاتمة ، التي أنزلت في غدير خم ، بعد أن أعلن رسول الله (ص) على الملأ الغفير من الحجيج ، في حجة الوداع ، أن الله عز وجل ، أمر بتولية علي بن أبي طالب ، واستخلافه وتعيينه أميراً للمؤمنين دون منازع . وبعد أن بلَّغ رسول الله (ص) ، وشهدت الخاصة والعامة من الألوف المؤلفة ، أنزل الله عز وجل :
{ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَروُا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُم واخْشَوْنِ اليَومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينَا . سورة المائدة الآية 3 } .
على أن من يُريد الإستزادة ، فقد صُنِّفَتْ في هذا الأمر مجلدات ، بأقلام صِدِّيقة شريفة ، فلتراجع .
ث) علي ومعاوية ـ علي والخوارج . يعني بداية اقتتال المسلمين . ولإزالة ما يسبب هذا الموضوع من غصص ، وشعور بالأسى العميق والمرارة ، عند أنصار الله الأصفياء والأنقياء من المسلمين ، نذكر الآية الكريمة التي كان يستشهد بها الإمام علي عليه السلام ، وهي قول الله عز وجل : في سورة البقرة آية 253 :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض ٍ مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـات ٍ وءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِنَـاـتِ وأيَّدْنَـاهُ بروح ِ القُدُس ِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذينَ مِنْ بَعْدِهمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ البَينَـاـتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُريد } .
جـ) كربلاء : النكسة التاريخية الثانية للأمة بعد السقيفة .(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إضافة إلى الآيات القرآنية التي أبرزت قيمة الحسنين بني علي بن أبي طالب بني فاطمة الزهراء بنت رسول الله محمد (ص) كمنارتي هداية للأمة وكنزين لها مذخورين ، فقد أجمعت الأمة على أحاديث كثيرة في شأنهما عن النبي (ص) أبرزها : ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ) أما الحسن ، فقد أرسل معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجـة الحسن، أني مزوجك ابني يزيد على أن تَسُمِّي الحسن ، وبعـث إليها مائة ألف درهم، ففعلت وسمت الحسن ، فسوَّغها المال ، ولم يزوجها من يزيد .
وأما إرث محمد (ص) ووريثه الآخر ، الحسين (ع) ، فقد عزموا عليه أن يبايع الطاغية يزيد بعد وفاة الطاغية معاوية . فأبى الحسين وسار بكوكبة تاريخية من أبنائه وإخوانه ونسائه وبعض أصحابه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأبرار الشجعان الميامين ، مستجيباً لدعوة من شيعته وشيعة أبيه (ع) في كوفان العراق .
وهناك انقلب عليه القوم ، معظمهم ، جبناً ورغبة عن الحق إلى باطل الدنيا الدنية . ومالاؤا الجهاز الحاكم بكل كفره ووحشيته ، وطغيانه واستكلابه . وكان حكـم الجهاز الحاكم هو الإصرار على الذبح الجماعي . فذبح هذا الحسين (ع) ، بعد أن ذبح أمام عينيه أطفاله وإخوانه وأصحابه جميعاً .
وبهذا المستوى من الفظاعة والفظاظة التاريخية ، سبيت نساء الحسين (ع) ، أزواجه وبناته وعلى رأسهن أخته زينب بنت علي (ع) بطلة كربلاْ ، من العراق ، إلى مجلس الطاغية يزيد في الشام ، وعلىأقتاب الإبل . يتقدم موكبهن أمام أعينهن حملة الرؤوس على أسنة الرماح ، وفي مقدمتها الرأس الشريف ، رأس الحسين .
في القرآن المجيد ، في سورة الشمس ، هذه الآيات :
{ كذَّبَتْ ثَمُودُ بطَغْوَاهَا . إذْ انْبَعَـثَ أشْقَـاـهَا . فَقَـالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وسُقْيَـاـهَا . فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بذَنْبهمْ فَسَّوَاهَا. وَلاَ يَخَافُ عُقْبَـاـهَا } .
وواضح في هذه الآيات الكريمة ، أن رسول الله ، وهو صالح (ع) قال لقومه ثمود ( ناقة الله وسقياها ) أي احفظوها وانتفعوا بها . فكذبوه فذبحوها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ، فدمَّر مدائنهم وحضارتهم وسوَّاها بالأرض بعد أن جعلها قاعاً صفصفا . وما يتبادر إلى الذهن بسرعة هنا هو المقارنة بين الحسين (ع) . وبين الناقة . فإذا كان سبحانه غضب هذا الغضب الشديد لأجل ناقة جعلها مصدر نفع للقوم فعقروها . فكيف يكون غضبه للحسين الإنسان الذي هو صفوة أحَبِّ الأنبياء رسوله محمد (ص) . لا شك أن العذابَ واقع ٌ بهذه الأمة منذ ذلك الحين ، عذابَ خِزْيٍ وإهلاك وتدمير ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، ويخشى أن يكون هذا العذاب باقياً حتى يتوب القوم ويرجعوا إلى الله وآياته ويؤولوها كما أراد سبحانه وتعالى عما يصفون .
حـ) بنو أمية وتوارث الحكم وجعله ملكياً (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الخلاف بين علي (ع) ومعاوية ، وجدت الأمة نفسها وجهاً لوجه مع هذه الآية الكريمة :
{ وَإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحوُا بَيْنَهُمَا فَإنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أمْر اللهِ فإنْ فَاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعَدْلِ وأقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ . سورة الحجرات الآية 9 } .
وانقسمت الأمة ، في وقت ، كان يجب عملاً بهذه الآية أن تقف جميعها إلى جانب علي ٍ الخليفة المنتخب المبايَع ِ على صعيد الأمة كلها . وبغى معاوية ، وأعلن العصيان وهيأ للقتال . فكان باغياً بالنص الواضح الذي لا يقبل مناقشةً ولا تأويلا . ووقف معه رجال ووقف أقوام . وكان لا بد لعلي (ع) من القتال دفعاً عن دين الله الذي هو آنذاك مؤتمن عليه على مستوى الأمة جمعاء . وكانت المعارك التاريخية والقتلى بالمئات والألوف . ثم كانت الخدعة المشهورة برفع المصاحف .
ثم كان التحكيم غير الشرعي ، والذي أكره عليه الإمام علي (ع) . ثم خرج الخوارج نتيجة لذلك فِتَنٌ هائلة متداخلة ، أهدرت دماءً غزيرة وهِمَمَاً ورجالاً وحضارةً كان مكتوباً لها أن تبسط العدالة والحرية والسعادة على أهل الأرض في دنياهم وتجعل منها جسراً صِراطاً مستقيماً لأُخراهم . هذه الحضارة هدمها معاوية وحزبه ، وما زال محازبوه ناهجوا نهجه ، الراضون بفعلته ، في واقع الهدم وواقع العقوبة وغضب الله .
بغى معاوية ، وألقى الأمة في هُوَّةٍ كأنها بلا قرار، ما زالت فيها لتاريخه.
بغى معاوية تحت ستار الثأر للخليفة عثمان ، ولكنه أهلك الأمـة
وكذَّبَ .. وكَذَّبَ .. فحوَّلَ الأمة إلى مُلْك ٍ عَضُوَض ٍ يتوارثه الأبناء عن الآباء ، الطغاة عن الطغاة .
ما تتجرعه الأمة اليوم من غصص ، هي ثمرات لما زرع معاوية
والذين توارثوا الخلافة من بعده : بنو أمية .
خـ) بنو العباس وتوارث الحكم وجعله ملكيا (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- كان النشاز في حكم بني أمية واضحاً عند جماهير المسلمين ،عند العقلاء منهم منذ اللحظة الأولى . ولا سيما أنهم يقرأون القرآن ، ويقرأون فيه :
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فأولئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ } …
ويعلمون أنَّ أصحاب الحق في هذه الخلافة ، هم أهل بيت النبوة عليهم السلام . وتفاعلت النقمة ، ثم الغضب الصامت ، ثم تأجج الغضب ، ثم انفجر في ثورة قادها العباسيون تحت شعار : (الرضا لآل البيت ) . ونجحت الثورة نجاحاً منقطع النظير ، وإنما ، كأنما في بحيرة دماء ، دماء الأمويين . ثم بدا أنها تناست (الشِّعار) ، ثم اتضح أنها نسيته تماماً . فالملك عقيم ، للذين لا يخافون الله ، وهمُّهُم الدنيا وليس الدين . فانقلب بنو العباس على بني عمهم أهل بيت النبوة وأخذوا يترصدونهم تحت وطأة القتل والتشريد ، والتهديد والوعيد . وكأسلافهم بني أمية ، ثَبَّتُوا حكمهم على الدماء الغزيرة وجثث المسلمين . وكأسلافهم كذلك جعلوا الخلافة مُلْكاً عضوضاً ، يتوارثونه ، فِعْلَ الوثنيين القياصرة والأكاسرة ، وهو حرام في الإسلام الحنيف .
وكانت حضارة في عصرهم عظيمة .
إلا أنها يقيناً مشكوك في استقامتها ، وحتى في حروبها ، وحتى في فتوحاتها الثقافية ، تأليفاً وترجمةً وفلسفات ٍ، فقد كانت في غضب الله ، بدلالة أنهم ـ كما ضرب الله بهم الأمويين ـ قد ضربهم هم وضرب حضارتهم هذه التي يبكي ويتباكى عليها أكثر الناس الذين لا يعلمون ، كما يبكون على الأندلس . نعم دمَّر الله هذه الحضارة بموجات البربر والتتار ، من جنكيزخان ، إلى هولاكو ، إلى تيمور الأعرج . وعندما انحسرت أمواج التتار العاتية ، كان قد بقي من الأمبراطورية التي بسطت أجنحتها على أكثر من ثلاثة أرباع الأرض ، دويلات وإمارات تتنازع وتتقاتل ، بروح قبلية همجية كان قد أسقطها الإسلام ، وما زالت هذه الأمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك في عصرنا هذا ، ممزقة يطبعها غضب الله بالجهل والخلاف ،
والتبعية لمستعمريها وسارقيها وقاتليها ، إلى هذا الحين . إن أبرز ما في هذه الدويلات اليوم ، أنها تحمل من الإسلام إسمه ، وتتنكر لمضمونه . فهي تشن على الحركات الإسلامية ـ حتى المعتدلة منها ـ حرباً قمعيةً دموية ً لا هوادة فيها . تُزايد بهذا العداء الحاقد على الأعداء الحقيقيين العالميين لدين الله وشرع الله وأنصار الله . فـ { إنَّ الّدينَ عِنْدَ اللهِ الإسْـلامُ } ، { وَمَنْ يَبْتَغي غَيْرَ الإسْلام ِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرينَ } . و { هُوَ الّذي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِين ِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين ِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْركُونَ.. } { إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعيداً وَنَرَاهُ قَريباً } . صدق الله العلي العظيم .
د ) الفقه ، واستبعاد فقه علي وبنيه الورثة المباشرين لعلم
رسول الله (ص) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومع هذا الإستبعاد فقد كان فقه علي بن أبي طالب هو الشجرة التي تفيأ في ظلالها وقطف ثمارها فقه جميع المذاهب الإسلامية ، عن قصد أو غير قصد . سواء كان الأخذ عنه مباشرة ، أو عن أبنائه وأهل بيته عامة . ولا بدع في ذلك وهو الذي أجمعت الأمة على أن رسول الله (ص) قال فيه : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) . وبديهي أن لا يُدْخَلَ إلى هذه المدينة إلا من بابها ، ذاك المؤيد المجتبى من الله عز وجل .
فمذهب الأشاعرة ، مثلا ، الذي استقر عند الأشعري أبي الحسن علي الذي أخذ عن أبيه الحسن علي ، عن أبيه ابن أبي بشر الأشعري ، وأبو بشر كان استاذه أبو علي الجبائي ( أحد كبار مشايخ المعتزلة ) وأبو علي الجبائي أخذ عن شيخ المعتزلة واصل بن عطاء كبير علماء الكلام ، وواصل بن عطاء عن أبي هاشم ( عبد الله بن محمد بن الحنفية ) وهذا عن أبيه محمد ( بن الحنفية ) بن علي بن أبي طالب . فيكون الإمام عليه السلام في ذروة هذه السلسلة البارزة في تاريخ الفقه الإسلامي .
وفي مجال ثان وبالنسبة لأكبر المذاهب الإسلامية تقريباً ، عنيت به المذهب الحنفي ، وهو المنسوب إلى ( الإمام الأعظم ) كما أسماه العباسيون ، وما تزال هذه التسمية قائمة في الشريحة الإسلامية التي تعمل بفقهه من هذه الأمة . ومشهور عند القاصي والداني أن أبا حنيفة النعمان تعلم لمدة سنتين عند الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، والإمام جعفر هو إبن الإمام محمد الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين سيد الشهداء بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام جميعاً . وكما هو واضح كذلك في هذه السلسلة ، فهي تنتهي إلى الإمام علي بن أبي طالب ، فهو منها في الذروة السامقة .
وما قيل في المذهب الحنفي ، كذلك يقال في المذهب المالكي . ونختم به القول ، إذ يكفي هذا للإعتبار واليقين بعصمة أهل البيت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هؤلاء وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي عليه السلام . فعن علي أخذ ابـن عمه عبد الله بن عباس ، الذي كان يُسأل : ما علمك من علم ابن عمك ( يعني علياً ) ؟ فيجيب : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط . وعن عبد الله بن عباس أخذ عكرمة ، وعن عكرمة أخذ ربيعة الرأي ، وعن ربيعة أخذ مالك بن أنس الذي عليه رسا المذهب المالكي وتحددت معالمه .
وقبل أن نختم تعليقنا هذا ، نذكِّر بأن جميع أصحاب هذه المذاهب وغيرها رغم كونهم أخذوا بشكل مباشر أو غير مباشر عن علي بن أبي طالب ، فقد أقفلوا باب الإجتهاد ، مما جمَّد الفقه الإسلامي ، وجمَّد بالتالي الأمة عن تمددها الفكري والتشريعي والحضاري . إلا أولئك الذين استمروا في مفهوم التوحيد وعدم تأليه المخلوقين ، على نهج أهل بيت النبوة ، فما زالوا في طاعة الله ورضاه ورضوانه ، يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وأقلامهم . فنسأل الله عز وجل وتبارك وتعالى أن يلهم الجميع إلى التوحّد في طاعة الله عز وجل ، وطاعة أولي الأمر ، ممن اصطفاهم سبحانه واجتباهم سفن نجاة في خضم التاريخ الحالكة لياليه ، المتلاطمة أمواجه .
فأما الذين في قلوبهم زيغ ، فلن يستجيبوا لهذه الحقائق ، كبرا وعنادا وعصبية . وأما الذين يعقلون ويتفكرون ، ويتقون الله حق تقاته ، فعسى ، إن استجابوا ، أن يكونوا ممن وعدهم سبحانه بوراثة الأرض والنعيم المقيم .
ذ ) التمذهب (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السؤال المفجع في التاريخ الإسلامي : لماذا كانت المذاهب ؟ والمذاهب مزقت الأمة ، وأوقعتها في التناحر فيما بينها حتى أزالتها عن القمة الحضارية الإنسانية التي بلغتها بفضل الله وبفضل تعاليمه .
أيام لم تكن المذاهب ، ورغم مفارقات السقيفة ، ونشازات الذين في قلوبهم زيغ ، فقد انطلق المسلمون أمة واحدة ، وبأعداد قليلة وعُدَد ٍ ضئيلة ، إذا قيست بجيوش الفرس والروم . انطلقوا وأزالوا الأمبراطورية الفارسية وطوّعوا حضارتها العريقة لمصلحة هذا الدين الحنيف . كما هزموا جيوش الأمبراطورية الرومانية وأزالوها من جميع مواقعها في الشرق ، وجعلوا فلولها تتقوقع في القسطنطينية إلى حين . ثم كانت المذاهب ، عبر الغي الذي بغاه معاوية ، ومن بعده بنو أمية ، ومن بعدهم بنو العباس .
ولولا أن الأمر بقي على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وباب مدينة علمه علي بن أبي طالب ، والوارثين من بعده المشاهير المشهود لهم بإجماع من أبنائه ، لكانت بقيت الأمة أمة واحدة ، وبقي الدين ديناً واحداً ، وبقيت شمس الحضارة الإسلامية تغمر كل بقعة من بقاع هذه الأرض ، وتشيع فيها العدالة والرحمة والمحبة ، بدلاً من ظلم الظالمين وسفك الدماء ، والفوضى العارمة الموقعة في الحيرة والضلالات المهلكات ، إلا من رحم ربك . ولو أن الأمة الإسلامية ـ على تراجعها المخزي ـ بقيت في منجى من أعداء الله ، لهان الأمر ، ولكان ذلك مقبولاً مع الحسرات . ولكن الطامة الكبرى ، التي أصبح يرتعش لها غضباً كيان كل مسلم عنده ولو ذرة من شرف أو كرامة ، هي هذه الحرب الضروس التي تشنها دول أهل الأرض كلها ، مطبوعة بطابع الصهيونية والوثنية العالمية ، متمثلة بالغرب الذي تخلى عن مسيحه ومسيحيته ، والشرق الذي أصبح ممزقاً بين الإلحاد وعبادة الأصنام .
فهل يعود المسلمون إلى دينهم الحنيف ؟ هل يعودون أمة واحدة ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيتوب الله عليهم وينقذهم من ضلالاتهم والخزي الذي هم فيه . وينصرهم النصر المببين . نحن بذلك موعودون . فعسى أن يكون قريباً ، ولينصرن الله من ينصره . فينجو حتى الذين في قلوبهم زيغ ، إذا رشدوا واستقاموا ، ونظروا بالعين الدامعة ، انتصاراً لله ولدينه ولأمة الإسلام ، وليس بالعين الطامعة بالجاه الحرام والمكسب الحرام والإنحياز الحرام والتعصب الحرام ، ولا بالقلوب الزائغة ، أولئك لهم خزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم .
وحتى لا تتداخل المفاهيم ، فإن فئة من المسلمين ، لم تتمذهب ، أي أنها ما زالت منذ عهد رسول الله محمد ، مع رسول الله محمد ، ثم دخلت إلى مدينة علم محمد من بابها ، الذي هو أمير المؤمنين علي ، هذه الفئة لم تشكل مذهباً بعينه ، وإنما هي مثلت دين الله الحنيف . كما مثلت وما زالت تمثل الركيزة التاريخية للأمة ماضيها وحاضرها ومستقبلها . فليتق الله أولوا الألباب في قاعدتهم وركيزتهم هذه ، وليعودوا إليها وإلى أصالة هذا الدين العظيم وليجاهدوا في سبيل الله ، يُسَامِحْهُمُ وَيَتُبْ عليهم الله إنه يحب التوابين ويحب المجاهدين في سبيله كأنهم بنيان مرصوص .
ر ) غلو بعض السنة والتجسيم والجبر والإستجارة بغير الله.
ز ) غلو بعض الشيعة ، والإنشغال عن التوحيد والإستجارة بغير الله .
س) التراخي فـي التوحيـد أدى إلى الخلاف والخلاف أضعف الأمة .
ش) بعد التراجع عن التوحيد ، التراجع عن التشريع .
ص) سقوط الأمة .
ض) حالتها الراهنة التي هي في الحضيض (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أكثر من التخلف أيام ما يسمى بـ ( عصر الإنحطاط ) ما هو لاحق بالأمة الإسلامية اليوم . فلولا الثورة الإسلامية المظفرة في إيران وإقامة دولة إسلامية محفوظة مؤيدة من الله عز وجل ، لكانت الأمة الإسلامية تساوي صفراً أو تحت الصفر ، مقارنة مع دول القوة وحضارة الثورة الصناعية .
فدولة إسرائيل ، ضمن حدود فلسطين المعروفة ، والتي لا يتعدى تعدادها السبعة ملايين مواطن بما فيهم جميع المهاجرين المرتقب لحوقهم بها . هذه الدولة تتحكم بجميع الدول الإسلامية المحيطة بها ، حتى والبعيدة عنها ، إما بالقوة العسكرية كما هو الحال في الشرق الأوسط . وإما بالغدر والدس والوقيعة وتأليب القوى المسيحية والوثنية ضد المسلمين في جميع أقطار الأرض . متعاونةً ( أي إسرائيل ) تعاوناً وثيقاً مع دول الحلف الأطلسي ، بقيادة القوة العظمى أمريكا . وقد أصبحت أمريكا عظمى فعلا ( بالحسابات المادية ) ، لا سيما بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي ، الدولة التي كانت تستقطب ضد أمريكا أكثر من نصف العالم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما وقد سقط الإتحاد السوفياتي ، فقد بقيت القوى الرأسمالية متمثلة بأمريكا وأوروبا في الغرب ، وإسرائيل في الشرق ، أكبر قوى في الأرض ، لا ينافسها منافس ، ولا ينازعها منازع ولا يقف في وجه قراراتها وعدوانيتها أحد . والأوجع من ذلك كله ، أن هذه الدول وبقيادة أمريكا وبتوجيه حثيث وخبيث من دولة إسرائيل ، أخذت تعد الخطط والعدة ، لشن حرب ضروس على الإسلام كإيديولوجية منافسة لحضارتها وكعدو عالمي بديل عن الإتحاد السوفياتي . أما الدول الإسلامية في هكذا واقع ، فأحسنها حالاً ونخوةً وصموداً كأنما هي في حالة شلل ، لا حول لها ولا قوة ، بالكاد يمكنها الدفاع عن حدودها ، ولو دفاعاً انتحارياً مثل سوريا والجمهورية الإسلامية في إيران . أما بقية الدول ، فبعضها يدمّر تحت عين الشمس وعيون المسلمين ، مثل الأفغان والشيشان والعراق وفيما كان يسمى بيوغسلافيا . والدول التي لا تدمّر تداس بخطط النظام العالمي الجديد ونعال جنوده ، راضية غير مرضية ، ذليلة مستكينة ، تفضل على إخوانها في الله وإخوانها في الدين ، وحتى على أبنائها الذين ضمـن حدودها ، تفضل جلاديها وسارقيها وشاربي دماء أبنائها تحت كل كوكب ، تفضل أعداء الله الصهاينة ، وعتاة الدول الغربية الحاقدة . وليس هذا فحسب ، بل هي ( أي الدول الإسلامية ) تزايد على أعداء الله في قتال وقتل المسلمين الذين تحكمهم وتتحكم بدمائهم . علما أن الدول الإسلامية هذه ، المتهالكة على سفاحيها ، الراكعة لمغتصبيها ، هي أغنى دول العالم قاطبة ، بالذهبين : الأسود النفطي ، والأصفر الذي يُكتشف جبلاً جبلاً ولا سيما في جهات نجد والحجاز .
هذا لون من ألوان الخزي التاريخي الدامغ لأكثرشعوب هذه الأمة . هذا الحال هو من مصاديق قوله عز وجل : { ذَالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . سورة المائدة الآية 23 } . هذا الخزي لاحق بالذين في قلوبهم زيغ وبالذين في قلوبهم مرض ، وهم من القادة عشرات ، ومن المقودين ملايين ، على طول هذه الأمة وعرضها ، وفي جميع دولها وشعوبها .
الدواء ، هو التوحيد ، هو عبادة الله وحده ، وإطراح عبادة القادة الجزارين بأفكارهم وأفعالهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدواء ، هو التمسك بحبل الله المتين ، بكتابه وشرعه وتعاليمه .
الدواء ، هو الخروج من المذاهب الحاقدة ، إلى الأمة السوّية التي قال فيها سبحانه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بالمَعْروُفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ . سورة آل عمران الآية 110}.
الدواء ، هو حب الله ملء القلوب وجمامها ، حتى إذا طفحت بحب الله ، كان الحب لازماً لرسول الله محمد ولأهل بيته الذين أمر الله لا ببغضهم وببغض تابعيهم ، ولا بالحقد على أنصارهم أنصار الله ، ولا بقتلهم وسَبْيهم كما فُعِلَ في كربلاء ، ولكن أمر سبحانه بمودتهم وطاعتهم وتوليهم بعد الله ورسوله .
إذا اتجه مفكرو الأمة وعلماؤها هذا الإتجاه ، ونبذوا الزيغ وأمراض التمزق والحقد وعصيان الله وتأويل المتشابه من كتابه تأويلاً فيه الجنف والبغي والإنحراف عن صراطه المستقيم ، إذا فعلوا كل ذلك ، فليبشروا بالنجاة ، نجاتهم كأفراد ، ونجاتهم كأمة وعدها الله بميراث الأرض والنصر وبالفتح المبين .
{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُه إنَّ اللهَ لَقَويٌ عَزيزٌ . سورة الحج الآية 40 } .
فـ { يَأيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُو أنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ لِلحَواريينَ مَنْ أنْصَاري إلَى اللهِ قَالَ الحَواريونَ نَحْنُ أنْصَارُ الله ِ فَآمَنَتْ طَائفَةٌ مِنْ بَني إسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأيَّدنَا الّذينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوهمْ فَأصْبَحُوا ظَـاـهرين . سورة الصف الآية 14 } .
و { الَّذِينَ فِي قُلوُبهمْ زَيْغٌ } وقفوا من الشيطان مثلا مواقف مختلفة كلها خاطيء . منها أن بعض فقهاء بني أمية ثم بني العباس ، وغيرهم ، إلى يومنا هذا ، كانوا وما زالوا يصورون لأنفسهم وللحكام ، أنهم ما داموا مسلمين ، فليس للشيطان عليهم سلطان ، مستدلين بقول الله تعالى مخاطباً إبليس لعنه الله ، في هذه الآية وأمثالها من المتشابه .
{ إنَّ عِبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى برَبكَ وَكيلاَ . سورة الإسراء الآية 65 } .
ومنهم الذين يلقون المسؤولية كلها على الشيطان ويبرئون منها أنفسهم .
ومنهم من تزلزل إيمانهم وأخذوا يتساءلون لماذا خلق الله الشيطان ، ولماذا سلَّطه على الإنسان يوقعه في المعاصي ويضله الضلال المبين ، حتى أن بعضهم اعتبره مظلوماً مجنياً عليه ، وكتبوا في ذلك الكتب ، وليس آخرها كتاب ( دفاعاً عن الشيطان ) ، وآخر صدر حديثاً يدافع فيه عن سليمان رشدي وكلاهما لصادق جلال العظم .
أما الآية الكريمة { إنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهمْ سُلْطَانٌ…} التي أوّلوها ابتغاء الفتنة ، فتنة أنفسهم ، وفتنة الآخرين ، فتأويلها الصحيح غير ذلك ، ان قوله تعـالى فيها : { عبادي } يعني : أهل طاعتي .
إذن أهل طاعة الشيطان هم هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ على اختلاف تفكيرهم واعتقاداتهم . هم الذين كان الله سلَّط الشيطان عليهم . ثم رفع سلطانه عن الجميع في هذا العصر ، ومع ذلك لم ترتفع المعاصي من الناس في جميع أقطار الدنيا .
وهذا يعني أن وجود الشيطان وعدمه سواء .
أما لماذا خلق الله الشيطان ؟ فلأن ذلك في جملة خلق الأضداد . لتتحقق المشيئة بين عناصر الخير والحق والجمال من جانب وبين عناصر الشر والباطل والقبح من جانب آخر . ولولا التضاد بين الموجب والسالب ، لما انقدحت شرارة الحياة ، ولا نورانية الإيمان ولا حرارة الحب .
أما حكم الله عز وجل في هؤلاء وأولئك من الذين { فِي قُلوُبهمْ زَيْغٌ } فقوله جلت حكمته : { فَلَمَّا زَاغُوا أزَاغَ اللهُ قُلوُبَهُمْ } (1) وبديهي أن من يزغ الله قلبه ، يضلِّه ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ هَادٍ }(2) وكذلك قوله عز شأنه :
{ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرنـَا نُذِقـْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ }(3) سواء كان من الإنس أو الجن { فَبأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تكَذِبَانِ } (4) .
ومن الأدلة على أن الزائغين هم من المسلمين أصلا، كونه سبحانه ضمّن هذه الدلالة فيما علّمنا أن ندعوه به :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الصف الآية 5 .
(2) سورة الرعد الآية 33 .
(3) سورة سبأ الآية 12 .
(4) سورة الرحمن .
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلوُبَنَا بَعْدَ إذ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَة ًإنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ } (1) .
أما قولـه تعالى : { ابْتِغَاءَ تَأْويلِهِ } في الآية موضوع بحثنا ، ففيه تضمين (2) واضح حيث يصبح معناها : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل المتشابه تأويلاً فاسداً من عند أنفسهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران الآية 8 .
- التضمين ( اصطلاحاً ) أن يكون في عبارة ما ، معنى أو معان تتجاوز الكلمات التي في هذه العبارة . وهو في القرآن كثير . فعلى سبيل المثال ، قوله تبارك وتعالى : { للهِ مُلْكُ السَمَواتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهنَّ وَهُوَ عَلىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ } . آخر سورة المائدة .
والمعنى الزائد على الكلمات . والذي هو ضمن العبارة استنتاجاً ، أنه سبحانه وتعالى ليس له ملك السموات والأرض وما فيهن فقط ، بل وما بينهن كذلك .
وقوله تعالى في أول سورة الأنعام : { الحَمْدُ للهِ الَّذي خَلَقَ السَمَوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ والنُّور ثُمَّ الَّذِينَ كَفَروُا برَبِّهِمْ يَعْدِلوُنَ } . والتضمين فيها ، أنه خلق كذلك ما فيهن وما بينهن ، وخلق كل شيء و { يَزيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ . سورة فاطر الاية 1 } .
وقوله تعـالى : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ . سورة الأنعام الآية 3 } . والتضمين أنه يعلم ما بين أيديكم وما خلفكم ويعلم ما تخسرون ، وهو بكل شيء عليم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى : { وإذَا بُشِّرَ أحَدُهُمْ بمَا ضَرَبَ للرّحْمَـاـن مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظيم . أوَ مَنْ يُنَشَّؤُا في الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيْرُ مُبينٍ . سورة الزخرف الآيات 17 ـ 18 } .
والتضمين بين الآيتين ، بمعنى أن يصبح السياق مثلاً هكذا : … ظل وجهه مسوداً وهو كظيم فيعترض غاضباً قائلاً في نفسه أو مجاهراً بقوله : { أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيْرُ مُبين } ، يعني الأنثى ، بخلاف الذكر الذي ينشّأ في الخشونة وعلى الخصومة والتدريب على القتال .
وقوله تعالى : { وأنَّ الّذينَ لا يؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ أعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً ألِيمَا . سورة الإسراء الآية 10 } والتضمين فيها ، هو العنصر الأول والأساس للإيمان وهو شهادة أن لا إلـه إلا الله ثم عنصر ثالث للإيمان المقبول هو عمل الصالحات ، وليس قبل الآية في السورة ما يشير إلى هذين الشرطين . فالتضمين إذن في هذه الآية هو التوحيد وعمل الصالحات إضافة للإيمان بالآخرة ، ويحصل ذلك عن طريق الإستنتاج .
وقوله سبحانه : { مَثَلُ الجَنَّةِ التي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أنْهَارٌ … كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّار … سورة محمد الآية 15 } . والتضمين فيها عند قوله تعالى كمن هو خالد في النار … أي كمن كفر أو أشرك أو عاند أو أصرّ على كبار المعاصي لؤماً واستكباراً فهو خالد في النار ، هل يستويان هذا في جحيمه والتقيّ في نعيمه .
وقوله عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إليْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلّذينَ أوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً . سورة محمد الآية 16} . والتضمين فيها ، بعد ( يَسْتَمِعُ إليْكَ ) و ( مَاذَا قَالَ آنِفاً ) ، فيصبح المعنى تقريباً : ومنهم من يستمع إليك متظاهراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالجد والإحترام ، وهو شأن المنافقين ، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا مستهزئين ( مَاذَا قَالَ آنِفاً ) أي أن ما كان يقوله رسول الله (ص) لا
يعجبهم وليسوا به مقتنعين ، إضافة إلى ما يحمِّلون كلامهم من الهزء والسخرية .
وفي سورة الصافات قوله تعالى ، آية 136 ـ 137 في الكلام عن تدمير قوم لوط : { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرينَ . وَإنكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهمْ مُصْبحين . وبالَّّيْل ِ أفَلاَ تَعْقِلُون } قوله تعالى : ( إنكم لتمرون… ) فيه إطلاق يعني جميع المخاطبين ، وهو محال ، فينبغي أن يكون التضمين : بعضكم وليس جميعكم .
هذا بخصوص ( التضمين ) ، ونكتفي بهذه النماذج ، على أن في القرآن المجيد مئات الآيات تتضمن معاني تتجاوز الحروف والكلمات ، وذلك من جملة مدهشات هذا المعجز العظيم الذي هو القرآن ، كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ثانياً : معنى قوله تعالى :{ وما يعلم تأويله إلا الله}
إذا كـان الله سبحانه وتعالى يعلم لغات الخلق وأشياء الكون ، ما ظهر منها وما خفي ، من أصغر جزيء في الذرَّة إلى أعظم جرم في الكون إلى الكون كله .
وهو سبحانه يعلم مَنْ خَلَق ، ويعلم في المخلوقين أفكارهم وتأويلها قبل أن تصدر وتتشكل ، وهذا معنى قوله تعالى: { إنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . سورة الملك الآية 13} أي المصادر . ثم بديهي أن يعلمها بعد ذلك وهي في طور الرمز قبل أن يؤولها المخلوق ويخرجها شكلاً أو قولاً أو كتابة، قوله تعالى :
{ وَأسِرُّوا قَوْلَكُم أوْ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَليمٌ بذَاتِ الصُدُورِ . ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ . سورة الملك الآية 13 ـ 14 } .
فهو سبحانه يعلم تأويل كل شيء تأويلاً دفعياً أزلياً أبدياً، ومن ذلك تأويل متشابهات القرآن التي هو سبحانه أنزلها على قلب رسوله محمد (ص) ، يعلمها سبحانه كما يعلم المؤولين وما يؤولون من مقدمات الفكرة قبل أن تتبلور عند المفكر ، إلى المفكر قبل أن يؤول هو فكرته ، إلى التأويل وهو مستبطن ، إلى التأويل في ظهوره :
{ ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ }
ذلك بعض معنى قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأويلهُ إلاّ اللهُ}
أما نسبة علمه سبحانه إلى علم الراسخين ، كنسبة كرمه إلى الأكرمين من الناس ، أو نسبة قوته إلى الأقوياء ، أو نسبة نوره إلى المستنيرين به ، أو حلمه إلى الحلماء ، أو غناه إلى الأغنياء ، أو رحمته إلى الرحماء ، أو حكمته إلى الحكمـاء إلخ … وهي نسب ليس لها قياس ، لاستحالة قياس المحدود بالمطلق ، وهذا من معاني قوله عزت عظمته :
{ وَلهُ المَثَلُ الأعْلىَ فِي السَمَوَاتِ وَالأرْضِ(1) وَهُوَ العَزيزُ الحَكِيمُ . سورة الروم الآية 27 } .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال عزت عظمته : { مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد ٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلـاـهٍ إذَنْ لَذَهَبَ كُلُّ إلـاـهٍ بمَا خَلَقَ . سـورة المؤمنـون الآية 91 }
فشرط الإلـاـهية الخَلْقُ . وقد يدَّعي مخلوق أنه يخلق صورةً، تمثالاً ، بناية ً ، مدينةً نفقاً في جبل ، مركبةً فضائية ، قمراً اصطناعياً ، فبصرف النظر عن كونه يخلق اعتماداً على مواد ونواميس خلقها الله ، فهو لا يمكنه أن يخلق كما خلق الله وكما يخلق الله : هذا الكون الذي حارت الألباب في بداياته ونهاياته إذا كان له نهايات . كما حارت في كل خليقة على حدة ، من الذّرة إلى المجرة . والله عز وجل يدعوهم إلى التأمل والتفكر في خلقه ، ثم يقول سبحانه متعالياً متكبراً ، متعززاً بالقدرة والهيمنة والبقاء :
{ هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأروني مَاذَا خَلَقَ الّذينَ مِنْ دُونِهِ . سورة لقمان الآية 11 } ولكي يكون الإلـه إلـهاً حَقّاً ، ينبغي إضافة إلى خالقيته أن تكون له الأسماء الحسنى والأمثال العليا . وقد نبه سبحانه إلى بعض الظاهري في قوله عز وجل :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
{ هُوَ اللهُ الذي لا إلـَهَ إلاّ هُوَ عَـاـلِمُ الغَيْبِ والشَّهَـاــدَةِ هُوَ الرَّحْمـنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذي لا إلَـهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْركُونَ . هُوَ اللهُ الخَــاـلِقُ البَارىءُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبحُ لَهُ مَا في السّمَـاـوَات والأَرْضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكِيمُ . سورة الحشر الآيات 22 ــ 24 } .
فأي بشر أو حجر أو مخلوق مزعـومـة إلآهيتـه ، أو مُدَّعَـى إلـا ـهاً ، يمكن أن يكون له شيء من هذه الأسماء التي لا يستطيع أن يحتمل منها ولو إسماً واحداً مع المثالية العليا لهذا الإسم ؟ أي مخلوق ، مهما عظم ، في هذا الكون الواسع الفسيح ، العريق العميق ؟
وفي قوله عزت عظمته : { لَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَـاـوَات ِ والأرْض ِ … } أي المثل الأعلى مع كل إسم حسن ، لأنه وحده { لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى ـ سورة الحشر الآية 24 } وهذه الآية تماثل تلك { لَهُ المَثَلُ الأعْلىَ } ، وهاتين تماثلان قوله عز وجل : { لاَ إلـَهَ إلاَّ اللهُ . سورة محمد الآية 19 } .
فآية { لَهُ المَثَلُ الأعْلىَ } فيها إطلاق ، أي له المثل الأعلى دون أن يَحُدَّهُ حَدٌّ .
و { لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى } ، أي كل إسم حسن ، كذلك إطلاقاً ودون حدود . و { لا إلـه إلا الله } نفي للآلهة من دونه . وحده الإلـه الحق .
أما أن يسمّوا أي شيء أو مخلوق من دونه إلـهاً ، فذاك ظن ، أو زعم ، أو اشتباه ، أو شرك ، أو كفر منهم لإلآهيته الحقة التي لا إلآهية اطلاقاً سواها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكلمة { مَثَل } هي عينها { مِثْل } وهو سبحانه { ليس كمثله شيء . سورة الشورى الآية 11 } أي ليس مثله شيء ، ولـه المثل
الأعلى ، فأيما مخلوق في الوجود ، إذا كان لا بد من قياسه أو مقارنته مع عزة الله ، فيكون قياس المحدود بالمطلق . فكل علم هو جهل نسبي بالنسبة إلى علم الله ، فما كان فيه من حقائق فهي من علم الله . وكل قوة هي ضعف مقارنة مع قوة الله ، وكل عظمة هي هوان أمام عظمة الله ، وكل سلطان هو محكوم بسلطان الله . وكل غنى هو فقر إلى غنى الله ، وكل كِبْر ٍ هو حقارة أمام كبرياء الله ، إلى آخر ما يعلم الإنسان وما لا يعلم ، من مقارنات أسمائه الحسنى وأمثاله العليا سبحانه وتعالى عما يصفون .
ثالثاً : معنى قوله تعالى :
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأويلَهُ إلاَّ اللهُ والراسِخُونَ في العِلْم }
إن الرسوخ في العلم واجب كفائي ، يخلق له الله سبحانه ويختار من يشاء من عباده ، ويعلمهم العلم ويعينهم عليه :
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشْركُون . سـورة القصـص الآية 68 } .
وإنّ تعلّم العلم من الراسخين واجب عيني ، يؤاخذ على تركه أو التقصير فيه كل مكلَّف .
ومنذ القرآن الكريم ، يعتبر أول وأعظم وأوجب مصدر للعلم بعد الله جلّت عظمته ، هذا القرآن وما فيه من آيات بينات .
والمطلوب في مواجهة الآيات البينات ، سواء من الراسخين أو المتعلمين ، أولاً ـ التصديق بها ، وثانياً الإحاطة بعلم ما فيها نظراً وعملاً .
ويُؤاخَذُ الراسخون بالإخلال بأحد الأمرين ، وهو قول الله تعالى فيهم :
{ وَاتْلُ عَلَيْهمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَـاـهُ آيـَاـتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَيْطَـانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـاـهُ بهـَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلىَ الأرْضِ وَاْتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ، ذاَلِكَ مَثَلُ القَوْم الَّذِينَ كَذَّبوُا بآيـَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّروُنَ . سورة الأعراف الآيات 175 ـ 176 } .
ويؤاخذ العوام بترك تعلمها من العلماء الصادقين المؤيَّدين من الله عز وجل ، إذا أخلّوا كذلك بأحد ركنيها : وهما التصديق والتطبيق نظراً وعملاً (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي التصديق والتطبيق نظراً وعملاً بآيات القرآن الكريم تفصيلاً ، وبجميع ما بين دفتي هذا الكتاب المجيد إجمالاً . على أنه تنزيل من رب العالمين ، وعلى أنه كلام الله وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي هو تبيان لكل شيء . فمن ارتاب بشيء منه فقد كفر. كالذين يؤمنون ببعض القرآن ويكفرون ببعض ، ولعل ثلآث آيات كريمة في سورة آل عمران ، مفصلة تفصيلاً مذهلاً ، تتغلغل إلى أعماق المنافقين ، وتفضح أدق نواياهم ، لعلها تكفي بما تلقي من الضوء على هذين المقصدين : التصديق والتطبيق نظراً وعملاً . وكيف أنه هو سبحانه يعلمنا النظر ويعلمنا العمل ما دمنا في طاعته وحبه ، ويكملنا بهما الكمال الإنساني بين مجاهدتنا أنفُسَنَا وأعداءَنَا أعداء الله ، وبين ترقِّينا إلى عليين حيث منازل الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء . هذه الآيات هي قوله تعالى ، في الآية 118 من سورة آل عمران :
{ يَـأيُهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بطَانَةً مِنْ دونِكُمْ لا يألُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا ماَ عَنِتُّم قَدْ بَدَتْ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاههمْ وَمَا تُخفي صُدُورُهُم أكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيـاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما أعظم هذا التعليم ، وهذه الكشوفات النفسية ، فيمن نحسبهم أصدقاء بينما هم من ألَدِّ الأعداء .
وما العمل معهم يا ربنا يا ذا الجلال والإكرام ويا أرحم الراحمين؟ العمل ، هو في قوله عزت عظمته ، بعد هذه الآية مباشرة ، متابعاً الكشف
عن نفوس هؤلاء ، ومتابعاً سبحانه تعليمنا سلوك الصراط السوي الذي لا سقوط معه ولا جنوح ولا انحراف ، أبداً نحن في الضوء ، ما دمنا من الصِدِّيقينَ والمطيعين الأبرار . قوله عز شأنه :
{ هَـاـأنْتُم أولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بالكِتـابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بغَيْظِكُمْ إنَّ اللهَ عَليمٌ بذَاتِ الصُدُورِ آل عمران الآية 119}.
في هذه الآية بيَّنَ لنا سبحانه ارتيابهم بقِسْم ٍ من القرآن ، وربما بالقرآن كله ، ذلك عند قوله تعالى { وتؤمنون بالكتاب كله } والتضمين هو أنهم هم لا يؤمنون بالكتاب كله ، كما أَطْلَعَنَا كذلك على أحاسيسهم ومشاعرهم ، ومدى غيظهم من الصِدِّيقين أهْل ِ القرآن الكريم ، لدرجة أنهم يعضون أناملهم من شدة غيظهم على المؤمنين الصديقين ، حيث أنه سبحانه حفظهم وثبتهم ودفعهم عنهم فلا يستطيع هؤلاء المنافقون النيل منهم لا باليد ولا باللسان . وهنا علَّمنا تبارك وتعالى كيف نقابلهم سلوكيا ، فلا بالغضب ولا بالحزن وتوتر الأعصاب وإنما { قل مُوتُوا بغَيْظِكُمْ إنَّ اللهَ عَليمٌ بذَاتِ الصُّدُور } .
كما أطْلَعَنَا سبحانه على أعمق نواياهم على المؤمنين الموقنين :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بهَا وإنْ تَصْبروا وتتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُم شَيْئاً إنَّ اللهَ بمَا يَعْمَلونَ مُحيطٌ . سورة آل عمران الآية 120 } .
وكذلك أمرنا عز سلطانه ، أن نرتب على هذا الإطِّلاع موقفاً آخر وسلوكاً مناسباً له وهو قوله تعالى { وإنْ تَصْبروا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللهَ بمَا يَعْمَلونَ مُحيطٌ } . والحمد لله رب العالمين .
وذلك قول الله تعالى فيهم :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بآيـاـتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّىَ إذَا جَاؤُوا قَالَ أكَذَّبْتُمْ بآيـاـتي ولَمْ تُحيطُوا بهَا عِلْماً أمْ مَاذَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ . سورة النمل الآيات 83 ـ 84 } .
وفي هذه الآية الأخيرة : { حَتَّىَ إذَا جَاؤوُا قَالَ … } فيها ثلاثة معاتب مع الإستفهام الإستنكاري . وكلها مبطن بالوعيد والتخليد في النار ، كما في الآية التي قبلها { وَيَوْمَ نَحْشُرُ … } .
المعتب الأول ، قوله تعالى : { أكَذَّبْتُمْ بآيَـاـتِي } وهذا كافٍ كدليل دامغ على الكفران .
المعتب الثاني ، قوله تعالى : { وَلَمْ تُحِيطوُا بهَا عِلْماً } ، ومن عدم الإحاطة : الجهل بوجودها ، ولا تصديق مع الجهل ولا تكذيب . ومن عدم الإحاطة أخذ العلم بها مقروناً باللامبالاة . ومن عدم الإحاطة المبالاة بها ولكن معها عدم التدبر والفهم وعدم السؤال عن التأويل .
المعتب الثالث ، قوله تعالى : { أمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلوُنَ } ، وهذا السؤال من مقام عزته وغضبه سبحانه ، فيه الداهية الدهياء : { مَاذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
كُنْتُمْ تَعْمَلوُنَ } ، ماذا كنتم تقرأون بعيداً عن القرآن وآياته ؟ فكراً عالمياً ؟ آداباً ؟ علوماً إنسانيةً ؟ عشراتِ الكتب ، مئاتِ الكتب ، بعيداً عن القرآن ، عن كلام الله عز شأنه ، وجلَّت عظمته ، كل ذلك والقرآن مهمل ، كل ذلك والقرآن مهجور . { مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلوُنَ } ؟ كَسْبُ العيش ؟ صحبة المرموقين من أهل الدنيا ، صحبة السوء ؟ المِهَن ؟ الإقتصاد ؟ الإستغراق في الدنيا حتى الغرق . ولا اهتمام بكتاب الله ، رغم أنه ليس في الأرض ولا تحت هذه السماء الزرقاء كتاب عزيز منزل غيره لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وصدق الله العليُّ العظيم قوله :
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقَولُ يَـاــلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَسُولِ سَبيلاَ . يَـاـوَيْلَتى لَيْتَني لَمْ أتَّخِذْ فُلاَناً خَليلاً . لَقَدْ أضَلَّنِي عَن ِ الذِّكْر بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيطَـَانُ لِلإنْسَانِ خَذولاَ . وَقَالَ الرَّسُولُ يـارَبِّ إنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هَذّا القُرآنَ مَهْجورَا . سورة الفرقان الآيات 27 ــ 30 } .