مفهوم الشفاعة :

        قوله تبارك وتعالى :

        { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } . [ 4 : السجدة ] .

        في هذه الآية،كما هو واضح ،نفي الشفاعة عن المخلوقين ،وحصرها بذات الله عزَّ وجل،أو جعلها في جملة الأسباب التي يسببها لعباده،فيكون كذلك هو الشفيع وحده،إذ أنه هو مسبب الأسباب.ونحن قبل أن نتعرض لبحث مضمون الآية،وتحديداً عبارة{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ }،نذكِّر بأننا شرحنا كلمة { وَلِيّ } في بحثنا ” مفهوم الولاية “.وبقي علينا الآن أن نعقد بحثاً خاصاً بمفهوم الشفاعة،نذكَّر بأن أكثر الناس مأخوذون بمفهوم الشفاعة،وكأنه سيكون هو الموقف الفصل،والحكم الفصل يوم الحساب.وهم يعطونه معنىً واحداً متعلقاً بالآخرة وحدها ،دون الحياة الدنيا،وخصوصاً بيوم الفصل فور قيام الساعة . ومعنى ذلك أن يشفع  محمّد (ص) مثلاً لجميع المسلمين ، أو للعالمين ، وهذا يورده كثير من المفسرين لقوله تعالى له (ص) :{..عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا }. [ 79 : الإسراء ].ثم يشفع غيره كل لأتباعه.وتقع هنا المفارقة الكبيرة : فإذا كانت شفاعة محمّد (ص) للعالمين ، فلا معنى لشفاعة غيره  من الصالحين على  جميع المستويات في عمر البشرية . وإذا كانت شفاعته (ص) فقط للمسلمين ، فلا معنى لشفاعة غيره من أركان وصالحي الأمة الإسلامية  .ورغم هذه المفارقات ، تبقى الشفاعة كمفهوم قرآني ، حقيقة لا تناقش . وإنما ما يجب أن يناقش ، هو الفكر الطاغي ، المتمثل بالإعتماد والتوكل على الشفيع  المخلوق وحده . وبذلك  هم يعتمدون على غير رحمة الله وعفوه وغفرانه ، فيقعون عن غير عمد ، في شرك لا يغتفر . والإعتماد على الشفاعة  يوصل بعضهم أحياناً إلى الإغراق في المعاصي ، اعتماداً على شفاعة الشفيع . كما فعل السيد رضا الهندي في قصيدته ” الكوثرية ” التي ينشدها  ويتوارثها ألوف المؤمنين ، حيث يتخلص  فيها إلى القول  : ” سوَّدتُ صحيفة أعمالي ووكلت الأمر إلى حيدر ” . هذا من جهة  ، ومن جهة ثانية  ، هؤلاء ينسون إن الشفيع الأعظم والأول والآخر ، هو الله عزَّ وجل . إذ بدونه لا يسمح لشافع ولا يؤذن له ولا يرضى به ، إلاَّ إذا سمح الله وأذن الله ورضي الله بالشافع وبالمشفوع به . فإذا لم يرضَ بالشافع ، سقط المحتاج  إلى الشفاعة إلى حيث لا نجاة . وإذا لم يرضَ بالمشفوع له ، ما شفع  الشافع له أصلاً ، حتى لو كان هذا الشافع إبراهيم أو موسى أو عيسى أو محمّد  صلوات الله عليهم وسلامه ، وغيرهم من أولياء الله الصالحين  والمؤمنين المقربين . ومن جهة ثالثة ، هم يفهمون الشفاعة أنها إنما  تكون هي التحرير من النار  لمحكومين بعذاب النار ، أي إسقاط  العقاب جملة وتفصيلاً . وهو كما سنرى ، إن شاء الله ، ضيق أفق ، وجهل بالحقائق البسيطة ، واستنامة إلى الدعة وكسل الذهـن والغفـلة . قال  سبحانه : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } . [ 179 : الأعراف ] .

        وحيث أن الله سبحانه مدَّ الناس بمزيد من العلوم والثقافات وأدوات الفكر، ولا سيما الفكـر الديني المسلـم لله تبارك وتعالى . فلزم التوسع ـ تعبداً لله ـ  في فهم وتفسير ما تبقى من مغلقات القرآن الكريم  من جهة .  ومن جهة أخرى  تصفية مفهوم التوحيد ، على أساس كلام  لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وليس من كلام في الأرض اليوم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إلاَّ كلام الله عزَّت عظمته . وكلام الله آيات بينات مخطوطة في قلعة حصينة عزيزة يحفظها الله بحفظه ورعايته وعنايته إلى قيام الساعة ، هي القرآن الكريم  ، وقد أسماه سبحانه { الذِّكْر}  أي ذكر الله  ، لأن أحسن ذكرٍ لله ، هو في هذا الكتاب العزيز ، وقد قال تعالى فيه  : { …وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } . [ 41 ـ 42  : فصلت ] . وقال سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } . [ 9 : الحجر ] .

        ففي معنى الشفاعة  جاء في لسان العرب لابن منظور  ما يلي : شَفَعَ ؛ الشَّفْعُ  خلاف الوَتْر ، وهو الزوج . تقول : كان وَتْراً فَشَفَعْتُهُ شَفْعاً . و شَفَعَ الوَتْر من العدد شَفْعاً : صيَّره زوجاً . وتقول : إنَّ فلاناً لَيَشْفَعُ لي بعَداوةٍ أي يضادُّني . وشفع لي يَشْفَعُ شَفَاعةً وَتَشَفَّعَ : طَلَبَ . والشَّفيع : الشَّافع ، والجمع شفعاء ، واستشفع بفلان على فلان وتَشَفَّع له إليه فشفَّعَه فيه. وقال الفارسي : استشفعه : طلب منه الشفاعة ، أي قال له كن لي شافعاً . وفي التنـزيل : من يَشْفَعْ شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها. وقرأ أبو الهيثم : من يَشْفَعُ شفاعة حسنة أي يزداد عملاً إلى عمل . وروي عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه ، قالا الشفاعة الدعاء ههنا . وفي حديث الحدود : إذا بلغ الحدُّ  السلطان فلعن الله الشافع والمشفِّع . وقد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة  ، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم . وفي الحديث : الشُّفعة في كل ما يُقْسَم . الشفعة في الملك معروفة وهي مشتقة من الزيادة لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به كأنه كان واحداً وتَراً فصار زوجـاً شَفعاً … انتهى .