مقدمات واقعة حنين :

        قال ابن إسحاق (1) : ولما سمعت هوازن (2) برسول الله (ص) وما فتح الله عليه من مكة ، جمعها مالك بن عوف النصري ، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها . واجتمعت نصر وجشم كلها ، وسعد بن بكر ، وناس من بني هلال ، وهم قليل . ولم يشهدها من قيس عيلان إلاَّ هؤلاء . وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب . ولم يشهدها منهم أحد له إسم . وفي بني جشم دُرَيْدُ بن الصمة ، شيخ كبير ، ليس فيه شيء  إلاَّ التيمن برأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شيخاً مجرباً . وفي ثقيف سيدان لهم ، في الأحلاف قارب بن مسعود بن معتب ، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك ، وأخوه أحمر بن الحارث ، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري . فلما أجمع السير إلى رسول الله (ص) ، حط مع الناس أموالهم ونساءَهم وأبناءَهم . فلما نزل بأوطاس(3) اجتمع إليه الناس ، وفيهم دريد بن الصمة في شجار(4) له يقاد به . فلما نزل قال : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نعم  مجال الخيل ، لا حزن ضرس ولا سهل دهس(5) ، ما لي أسمـع رغاء البعير ، ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاة ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءَهم  وأبناءَهم . قال : أين مالك ؟ قيل هذا مالك ، ودعي له ، فقال له : يا  مالك ، إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام . ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاة  ؟ قال : سقت مع  الناس أموالـهم وأبناءَهـم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     السيرة النبوية لابن هشام  60/4  .

(2)     وهي كبرى القبائل التي تزعمت الحرب ضد المسلمين بقيادة رسول الله (ص) .

(3)     ويقال لها أيضاً غزوة أوطاس سميت بالموضع الذي كانت فيه الوقعة وهو من  وطست الشيء وطساً إذا كدرته . والوطيس نقرة في حجر توقد حوله النار فيطبخ به اللحم . والوطيس التنور ، وفي غزوة أوطاس قال رسول الله (ص) : الآن حمي الوطيس . وذلك حين استعرت الحرب ، وهي من الكلم التي لم يسبق إليها (ص) .

(4)     الشجار : مركب أصغر من الهودج مكشوف أعلاه .

(5)     ضرس : فيه حجارة مدببة ، ودهس : لين التراب .

ونساءَهم ، قال ولم ذاك ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله

ليقاتل عنهم . قال : فانقضَّ به(1). ثم قال : راعي ضأن ، والله ! وهل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلاَّ رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك . ثم قال ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا لم يشهدها منهم  أحد . قال : غاب الحد والجد ، ولو كان يوم علاء ورفعة ، لم تغب عنه كعب ولا كلاب ، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب ، فمن شهدها منكم ؟ قالوا: عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ، قال : ذانك الجذعان (2) من عامر لا ينفعان ولا يضران . يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة(3) بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً . إرفعهم إلى متمنَّع بلادهم وعليا قومهم ، ثم إلق الصَّباء على متون الخيل(4) ، فإن  كانت لك لحق بك من  وراءَك ، وإن كانت عليك  ألفاك ذلك قد أحرزت أهلك ومالك . قال والله لا أفعل ذلك ، إنك قد كبرت وكبر عقلك . والله لتطيعنَّني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري . وكره أن يكون فيها لدريد بن الصمة ذكر أو رأي . فقالوا : أطعناك : فقال دريد بن الصمة : هذا يوم لم أشهده ولم يفتني .

                يا ليتني فيها جـذع             أخبُّ فيها وأضع

                أقود وطفاء(1) الزُّمع            كأنها شاةٌ صدع(6)

        وتعليقاً على هذه الفقرة من مقدمات هوازن ، نقول إن نصيحة دريد بن الصمة ، هي نصيحة الرجل المحنك ذو الدِّربة والتجربة الطويلة وهو المعروف في التاريخ بفروسيته وبأسه ، وشعره وحكمتـه ،  إلاَّ أنه لم يوفقـه الله عزَّ وجل لأن

يطاع ،كما لم يوفق سيد القوم مالك بن عوف لأن يفكر ويقدر ، أو يبصر ويطيع،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     انقضَّ به : زجره .

(2)     مثنى جذع ، الشاب الحدث ، ويريد بهما هنا ، أنهما ضعيفان خاليان عن التجربة .

(3)     البضة : الجماعة .

(4)     يقصد بهم المسلمين .

(5)     الوطفاء  : طويلة الشعر  ، والشاة  : الوعل .

(6)     الصَدَع : الفتيُّ من الإنسان والحيوان وغيره .

وكذلك بقية القوم بقيادة هوازن ، لأنهم جميعاً أتوا مصرين على عداوتهم لله ولرسوله وللدين الذي أنزل سبحانه على رسوله (ص) ، فكان بديهياً أن يقضى لهم بالهزيمة ، والهزيمة النكراء ، لولا أنه تعالت حكمته ، شاء أن ينصرهم على المسلمين في البداية ـ كما سنرى ـ ليلقِّن المسلمين درساً بليغاً يقوِّم به عقيدتهم ، ونواياهم وعزائمهم ، ما تمسكوا بحبله وعملوا في طاعته ، تبارك وتعالى عما يشركون .

        قال ابن إسحاق : وحدثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أنه حدث : أن مالك بن عوف بعث عيوناً من رجاله ، فأتوه وقد تفرَّقت أوصالهم ، فقال : ويلكم ! ما شأنكم ؟ فقالوا رأينا رجالاً بيضاً على خيل بُلْقٍ ، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى ، فوالله ما ردَّه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .

        وفي هذا الخبر أمران جديران بالتأمل ؛ الأول : عن الرجال البيض على الخيول البُلْقِ ، ما لم يكن معروفاً ولا مكشوفاً تحت أبصار المسلمين  في تلك اللحظات . إذن هو من الله سبحانه ، إما ملائكة من الذين قال عنهم في الآية الثانية : { وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } فأظهرهم سبحانه لهؤلاء ( العيون ) من هوازن وهذا هو الراجح ، وإما أنه عزَّ شأنه ، بمثل هذه الطرق  ، يقذف الرعب في قلوب أعدائه وأعداء أنصاره ، فتنخلع  قلوبهم وتتفرق أوصالهم و { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} . [ 24 : الحشر ] .  أو أنه سبحانه جمع عليهم كلا الأمرين ، وذلك هو الأرجح .

        أما الأمر الآخر ، فهو هذا العناد الأعمى عند مالك بن عوف ،  المتزعم لهذه الألوف ، التي جاء بها ليقذفها في أتون حرب طاحنة ، رغم ما تبين  له من أن الله آتى المسلمين فيها أمراً عجباً . وهذا النموذج يذكرنا بالكثير الكثير من القادة والعساكر ، المعاندين الصُمِّ العُمْيِ أمثاله ، فهم يرون من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يكفي لتراجعهم عن باطلهم ، ومع ذلك يظلون مصرين على خوض تلك التجارة الملعونة الخاسرة ، في معاداة المسلمين وشن الحروب عليهم .

       

 

     قال ابن إسحـاق : ولما سمع بهم نبي الله (ص) بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي  ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم  . فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم ، فأقام فيهم ، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله (ص) وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ، ثم أقبل حتى  أتى رسول الله (ص) ، فأخبره الخبر ، فدعا رسول الله (ص) عمر بن الخطاب ، فأخبره الخبر  فقال عمر : كذب ابن أبي حدرد  . فقال ابن أبي حدرد إن كذبتني فربما كذبت  بالحق يا عمر ، فقد كذبت من هو خير مني . فقال عمر : يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد ؟ فقال رسول الله (ص) : قد كنت ضالاً فهداك الله يا عمر .