نموذج عن التدبير الإلـهي في التشريع :
فهو ، أي القرآن الكريم ، يقر للملتين اليهودية والنصرانية ببعض التشريع وبعض الحقائق التي سلمت من تحريف الكلم عن مواضعه ، حيث قال سبحانه : { .. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ .. سورة النساء الآية 48 وسورة المائدة الآية 13 } .
وباختصار شديد ، فإن الشرائع في التوراة فيها قسوة وتشدُّد ، مما جعل أتباعها بين قتلة بما يتوهمون أنه سيف العدالة، وبين متفلتين من شريعتهم وأحبارهم ، واقعين في فوضى الفكر والكراهية والجريمة . وبذلك التقى الفريقان على بغض كل من هو غير يهودي ، وبالتالي على الإفساد في الأرض وقد تختصر هذه الآية الكريمة نظرتهم للذين آمنوا أي للمسلمين وكذلك نظرة النصارى ، وهي قوله تبارك وتعالى :
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ . سورة المائدة الآية 82 } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تعرضنا في كتابنا ” العقل الإسلامي ” لأهم المواضيع العلمية ربطـاً بالقرآن الكريم ، وكذلك في هذا الكتاب . فراجع .
أما الشرائع في الأناجيل ـ على اختلافها ـ فقد جاءَت تصحيحية لما أفسده اليهود في الشريعة ، جاء بها السيد المسيح عليه السلام ، فأتت سهلة متراخية ، وفي أقصى درجات التسامح ، ولكن الغرب لاحقاً ، ومعظمه مسيحي جنح إلى التفلت والإنحلال الخلقي وتفكك الأسر والمجتمع ، وشيوع العلاقات المحرمة ، حتى وتشريعها وتقنينها سواء بين الذكر والأنثى ، أو بين المثلين ، الأمر الذي تتشدد في تحريمه جميع الملل . ولقد نتج عن كل ذلك كوارث ليس أقلها أمراض الإيدز وانتشار الجريمة بين المراهقين وحتى الأطفال ، فضلاً عن الموازين الجائرة فيما بينهم وفي نظرتهم إلى العالم . حيث تحوَّلت هذه الحضارة ، إلى قنبلة ، كأنما موقوته ، تكبر وتتضخم ، وقريباً ستنفجر وتدمر نفسها وما يمكِّنها الله من تفجيره وتدميره في أنحاء العالم .
و { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ . سورة الفجر الآية 14 } .
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه . سورة الزلزلة الآيات ( 7 ـ 8 ) } .
ولكي أعطي دليلاً ـ كذلك مكثفاً ومختصراً ـ على قسوة اليهودية المؤدية للكراهية والإفساد ، وعلى تفريط المسيحية المؤدي إلى التفلت والإنحلال وعدم العدالة . ثم إنزال القرآن بعدهما على محمّد (ص) ليكون ـ بما أنزل عليه الله ـ حدَّ اعتدال بين إفراط اليهودية وتفريط النصرانية . أعتمد ثلاث حالات متقابلات في موضوع واحد ، هو حدُّ الزِّنى في كل ملة من هذه الثلاث .
ففي التوراة ، حدُّ الزنى هو الرجم بالحجارة حتى الموت للرجل وكذلك للإمرأة .
ولا حدَّ له في النصرانية ، لقول المسيح عليه السلام عندما أتاه الفريسيون ومعهم الناس ، بزانية أشهدوا عليها ، فقال: ” من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ” ، وقيل ان الله تعالى جعل أمامه مرآة يرى فيها خطاياهم ، إذا هم أقدموا على رجمها ، فيدينهم بها . فعطَّل بذلك قسوة الرجم ، بالرحمـة والتسامـح ، حيث سحبـت هذه القاعـدة فيما بعد ـ خطأ ـ على الأزواج الزناة ، ففقد الزوج المتضرر بزنى زوجته حقه ، وكذلك فقدت الزوجة المتضررة بزنى زوجها حقها .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، إذ أنَّ اللطف والتسامح والحرية غير المنضبطة ، حوَّلت المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الشرقية ، عن طريق العدوى ، إلى بؤر فساد وفجور ، وانحلال ، وجرائم أخلاقية ، حتى شاهت حتى القوانين وشاهت النفوس وشاهت القلوب والوجوه . ونتج عن ذلك ، الظلم والاستبداد والغرور بأسباب القوة المدمرة ، تحت عناوين هشة وكاذبة ، تتستر بها مافيات الحكم في العالم ، من مثل الديمقراطية والعدالة والحرية …
أما الإعتدال في القرآن الكريم الذي ضبط المجتمعات الإسلامية بنسبة عالية جداً ومميزة ، في جميع الجبهات الأخلاقية ومنها العلاقة الجنسية ، التي حصرنا فيها برهاننا ، فقد جاء في القرآن الكريم حكم الله تبارك وتعالى قوله :
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . سورة النور الآية 2 } .
هذا هو النص القرآني الإلـهي .
وقد تلت هذا الحكم الإلـهي أحكاماً أخرى ، أتت في سياقه وكأنما فيها تعجيز دون كشف واقعة زنى تستوجب إيقاع العقوبة . وهذا التعجيز يختص بالإشهاد على الزانيين .
ولنستعرض الآيات البينات ، قوله تبارك وتعالى :
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُون . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَـةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ . وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ . وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ . سورة النور الآيات ( 4 ـ 10 ) } .
ففي الإشهاد على اثنين لإيقاع الحد عليهما ، ينبغي أربعة شهود ، فإذا جاء واحد يشهد على واقعة زنى أو اثنين أو ثلاثة ، جلد الجميع كل واحد ثمانين جلدة ، وردَّت شهاداتهم فيما بعد في أي حال من الأحوال ، ووصموا بالفسق وهو ما يقابل في لغة القانون ، إخراجهم من الحقوق المدنية ، إلاَّ أن يكونوا أربعة .
والملفت جداً في الآية ، الثامنة ، قوله تعالى :
{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ } .
هذه الحال ، إذا رماها زوجها ، كما هو مفصل في الآيات . فيمنع عنها العذاب أن تقول أربع مرات :
أشهد بالله إنه من الكاذبين فيما رماني به ، وتسمي زوجها ، وتقول في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .
وفي واقعة لعان أقامها رسول الله محمّد (ص) قال لها بعد الخامسة : ” ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة ” أي ان غضب الله واقع عليك لا محالة ـ أن كنت كاذبة .
وصحيح أن رسول الله (ص) أضاف الرجم على أسوأ صور الزنى . وذلك أن يكون كلاهما محصنين ، أو أحدهما محصناً فالرجم هو العقوبة على المحصن ، يعني الذي له زوج أو التي لها زوج .
ومن البديهي أن تفصِّل السنة المطهرة ، هذا الموضوع إلى صور ، فجعلت الرجم للمحصن المسافح ، والجلد لغير المحصن ، ذكراً كان او أنثى ، وأن يكونا حرين ، أما إذا كانا من الرق أحدهما أو كلاهما فنصف الحد . وكل ذلك وبالضرورة ، بتعليم من الله تبارك وتعالى .
ومن لطائف فقه السنة المطهَّرة ، أن المحكوم بالرجم رجلاً كان أم امرأة ، يوضع بحفرة ، ثم يأتي طائفة من المسلمين ، ـ والطائفة ، قد تكون رجلاً واحداً فما فوق ـ كذلك في فقه اللغة ـ ثم يؤتى بالرجم ـ فإن تمكن المرجوم أثناء ذلك من الهرب فيخلَّى سبيله .
وفضلاً عن كل ذلك ، فقد استنَّ رسول الله (ص) الرجم ، بعد تشدُّدٍ غريب وعجيب ، في وصف الشهود للواقعة ، فإذا كان فيها أدنى شك أو شبهة ، فيرفع الحد ، وكذلك في اعتراف الفاعل ، إذا لم يكن عليه شهود . ووضع ذلك قاعدة شرعية فيها متنفسات عجيبة مؤدية إلى رحمة الله ، وهي [ درء الحدود بالشبهات ] .
ومن كان حريصاً على التبسط في هذا الموضوع ، فليراجع السيرة النبوية المباركة ، ولست أذكر اكثر من حالتين فقط أوقع فيهما النبي الكريم حدَّ الرجم : إحداهما على رجلين يهوديين شهد عليهما قومهما بالزنى ، محكِّمين بذلك رسول الله (ص) فنفذ فيهما حكم الرجم على شريعة موسى (ع) . والثاني قضية مالك بن عنز الذي جاء يعترف مختاراً عند رسول الله (ص) ، فأكثر النبي الكريم الأسئلة عليه ، لعله يجد شبهة في إقراره فيدرأ عنه الحد ، وإذ أصرَّ الرجل على اكتمال خطيئته ، وهو يعلم طبيعة الحد ، فأوقعه النبي (ص) عليه ، بعد أن أفهمه أن ذلك يحط عنه العذاب والسؤال في الآخرة ، فمضى قرير العين بصدقه إلى رحمة ربه .
ومن الأهمية بمكان ، أن أذكر قضية رجم اليهوديين ، لما فيها من الدلالات على قبح تعامل اليهود مع حكم الله ، ومحاولة التهرب منه والإلتفاف عليه وكيله بمكيالين ، وحتى كتمان هذا الحكم عن الناس :
في تفسيره لآية :
{ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . سورة المائدة الآية 41 } .
أورد الطبرسي في مناسبة نزولها ما يلي (*) :
” قال الباقر (ع) وجماعة من المفسرين أن امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وشعبة بن عمرو ، ومالك بن الصيف ، وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم فقالوا : يا محمّد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدُّهما فقال وهل ترضون بقضائي في ذلك ؟ قالوا : نعم ! فنزل جبرائيل بالرجم ، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا بهِ . فقال جبرائيل إجعل بينك وبينهم إبن صوريا ووصفه له ُ ؟ فقال النبـي هل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) انظر ” مجمع البيان في تفسير القرآن ” للطبرسي . م2 ج6 ص94 منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت . لبنان .
تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال لهُ ابن صوريا ؟ قالوا نعم ! قال فأيّ رجل هو فيكم ؟ قالوا أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى (ع) . قال فأرسلوا إليه ففعلوا ، فأتاهم عبد الله بن صوريا فقال لهُ النبي : إني أنشدك الله الذي لا إلـه إلاَّ هـو الذي أنزل التّوراة على موسى ، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسّلوى ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن قال إبن صوريا نعم ، والذي ذكرتني بهِ لولا خشية أن يحرقني رب التوراة إن كذبت أو غيرت ما اْعترفت لك . ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمَّد ؟
قال إذا شهد أربعة رهطٍ عدول انهُ قد أدخلهُ فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليهِ الرّجم ، قال إبن صوريا : هكذا أنزل الله في التوراة على موسى . فقال لهُ النبي فماذا كان أول ما ترخصتم بهِ أمر الله ؟
قال : كنا إذا زنى الشريف تركناه ، وإذا زنى الضّعيف أقمنا عليهِ الحدّ ، فكثر الزنى في أشرافنا حتى زنى إبن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثم زنى رجل آخر فأراد الملك رجمهُ فقال لهُ قومهُ لا ! حتى ترجم فلاناً يعنون إبن عمه . فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرَّجم يكون على الشريف والوضيع ، فوضعنا الجلد والتّحميم ، وهو أن يجلدا أربعين جلدة ثم يسوَّد وجوههما ثم يحملان على حمارين ، ويجعل وجوهما من قبل دبر الحمار ويطـاف بها ، فجعلوا هذا مكان الرَّجم ، فقالت اليهود لابن صوريا ما أسرع ما أخبرتهُ بهِ ، وما كنت لما أتينا عليك بأهل ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك . فقال أنهُ أنشدني بالتوراة ولولا ذلك لما أخبرتهُ بهِ فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجدهِ وقال : أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه . فأنزل الله فيه : ” يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ” قام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثمّ قال : هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه ُ ، فأعرض النبي عن ذلك . ثم سألهُ إبن صوريا عن نومهِ فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي : فقال صدقت وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيهِ من شبه أمهِ شيء أو بأمهِ ليس فيه من شبه أبيهِ شيء ، فقال أيهما علا سبق ماء صاحبهِ كان الشبه لهُ : قال قد صدقت : فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منهُ . قال فأغمي على رسول الله طويلاً ثم خلي عنهُ محمرَّاً وجههُ يفيض عرقاً فقال اللحم والدمّ والظفر والشحم للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل . قال له صدقت أمرك أمر نبي ، فأسلم إبن صوريا عند ذلك وقال من يأتيك من الملائكة ؟ قال جبرائيل ! قال صفهُ لي ! فوصفهُ النبي (ص) فقال أشهد أنهُ في التوراة كما قلت ، وأنَّك رسول الله حقاً فلما أسلم إبن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموهُ ، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا يا محمّد ! إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد إذا قتلوا منا قتيلاً لم يُقَد ؟ وأعطونا ديتهُ سبعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بهِ رجلاً منا ، وإذا قتلنا منهم قتيلاً قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وبالرجل منهم رجلين منا ، وبالعبد الحر منا وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم ” فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات “.
هذه هي واقعة رجم اليهوديين بأمر النبي محمّد (ص) تنفيذاً لحكم التوراة .
إلا أن في آخر القصة عبارة أوردها المفسِّر الطبرسي ، هي :
[ فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات .. ]
والحقيقة ، أنها شبهة قال بها أحد الصحابة ، زاعماً أن الله تعالى أنزل في الرجم آية ، ثم نسخها الله حكماً وتلاوة . وقد رفض المسلمون هذا الزعم بالإجماع ، لأن التلاوة لا تنسخ .
نظرة في التشريعات الثلاثة :
تحت عنوان ، أن الله سبحانه { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْض } نلاحظ كيف أنه جلَّت عظمته ربَّى البشر بمنطق العقل والحكمة ، أي بنفس منطق العقل والحكمة الذي علمهم إياه ، ليربوا به أنفسهم وأولادهم جيلاً بعد جيل .
وفي جملة مقاصده تبارك وتعالى ، أن يرفعهم ويدرِّجهم من مراحل البدائية ، التي فيها ظلام الجهل والشرك والوثنية وما ينتج عن ذلك من قسوة واستسلام لحكم الغرائز ، إلى كمال الإستنارة بالعلم الإلـهي ، أي بمعرفته هو تبارك وتعالى .
ومن الأدلة على ذلك تعليمه لأمة الإسلام بقوله :
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . سورة الحديد الآية 16 } .
فالله عز وجلَّ أنزل على قوم موسى أحكاماً تلائم واقعهم الزمني وتركيبهم الثقافي والنفسي والإجتماعي . ولكنهم بمرور الزمن هم تشدَّدوا وقسوا على أنفسهم وكذلك على الآخرين .
وكان الله سبحانه ناظراً إلى أمرهم بدءاً ونهاية واعداً إياهم بإرسال المسيح (ع) وبعده محمّد (ص) خاتماً للتعاليم والرسالات .
فبعث المسيح عليه السلام ، يصـدم قسوتهم باللين والرحمة ، ويصـدم شركـهم وعبادتـهم للهيكل من دون الله ،( وقولهم ) إن عزيراً ابن الله أي ” عزرا ” عندهم ، بالدعوة إلى توحيد الله ونصرة الله . فاستجاب له الحواريون مؤمنين برسالته ونبوته ، منتصرين لله جلَّت عظمته ، واحداً لا شريك له . مما أغاظ الفريسيين ، بعد أن فضح نفاقهم وكَلَبهم على الدنيا وتزويرهم لأحكام التوراة ، فانتفضوا عليه ، وائتمروا به ليقتلوه ، وقد شرعوا بذلك عن تصور وتصميم . ولكن الله تعالى أنجاه من لؤمهم وحقدهم ورفعه إليه كما هو محقق في القرآن الكريم .
قال تبارك وتعالى ، مخبراً عن هذه الحقبة بطولها وعرضها بين المسيح (ع) وبني إسرائيل ، ببلاغة هذه الآية واختصارها العجيب ؛ حيث تدعو لنصرة الله والإنتصار بتوحيده :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ . سورة الصف الآية 14 } .
فكانت مصداقية الآية الكريمة واضحة تماماً ، حيث غلَّب الله تعالى المسيحيين على أعدائهم اليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح عليه السلام وبأنه النبي الذي وعدهم به الله في التوراة والذي أرسله لينقذهم من الضلالة والغواية والعمى الذي هم فيه . غلَّب الله المسيحيين على اليهود إلى قيام الساعة .
ولكن اللين والرحمة والوداعة التي أرسل بها المسيح عليه السلام . حولتها الأجيال المسيحية اللاحقة عن مقاصدها الإيجابية ، واستعملتها فيما بعد كغطاء لكثير من المفاسد ، ضربت أولاً في أركان الكنيسة وتحت ثياب الكهنوت ، وزعمت الألوهة للمسيح عليه السلام . مما أدخلها في بدع ٍ انتجت فيما بعد البروتستانتية التي تحللت من أخلاق المسيح وتعاليمه ، والتي طبعت أميركا بهذه الحضارة الزنديقة التي تحاول اليوم أن تقود بها العالم ظلماً وقهراً وبهمجية أين منها جنكيز وهولاكو وتيمورلنك .
وإضافة إلى البروتستانتية التي أفرزتها حروب طويلة ودامية بين المسيحيين أنفسهم ، فإن المسيحية تفرقت في مذاهب كثيرة يعادي بعضها بعضاً .
وقد جمِّدت الحالة الروحية في المسيحية انطلاقاً من قوانين وتشريعات وضعية وتعسفية كانت تصدر عن الكنيسة ويغذيها اليهود ، الذين استطاعوا أن يربوا بعض أولادهم على الإزدواجية بين الدين اليهودي والدين المسيحي ، كاتمين يهوديتهم مزايدين على المسيحيين بتعصب كاذب للمسيحية ، مما جعلهم يتمكنون من بلوغ أعلى الرتب الكهنوتية ، التي توصلوا من خلالها إلى الكرسي البابوي .
وبالحقد اليهودي المتأصل فيهم على المسيح الذي كانوا وما زالوا ينعتونه بالكذب والدجل وينعتون أمه القديسة مريم عليها السلام كذلك ، طاعنين في شرفها وأخلاقها ، استطاعوا أن يشوهوا الدين المسيحي ، ويضيعوا المسيحيين عن حقيقة الرسالة التي بعث الله بها عيسى بن مريم .
وهكذا استطاعوا أن يمنعوا كل تقدم علمي أو ثقافي أو أخلاقي في القارة الأوروبية كلها ، مما أدخل هذه القارة بجميع دولها ذلك العصر ، في ليل دامس من الجهالة والأميّة ، والطبقية ، التي في رأسها السلطة ورجال الكهنوت ، ثم عامة الشعب الرازح تحت وطأة استلاب حقوقه والفقر والضياع .
وقد زاد من تفاقم الأمر في العصور الوسطى هذه التي استمرت بضعة مئات من السنين ، عقوبات الإحراق بالنار ثم بالمقصلة ، ولا سيما للعلماء والباحثين ، ولكل من يجاهر برأي علمي أو تحرري أو نقدي ، وذلك منذ القرن الثاني عشر وما بعده . وقد نصَّ القانون الصادر عن المجمع الديني المنعقد في مدينة ( ورون ) على أن جزاء الهراطقة الخارجين على الدين هو الإعدام بالمقصلة . ثم جاء البابا جيورجيوس التاسع ، ووضع محاكم التفتيش بقوانينها التي تتنافى بقسوتها ورهبتها كلياً مع تعاليم المسيح عليه السلام وذلك في سنة 1233 للميلاد ، وفي هذه القوانين ، أن يحرق بالنار كل من يدان بالإعتقاد بعقيدة تخالف الدين المسيحي ، طبعاً حسب تحريفهم وتشويههم لهذا الدين .
وكانت لهذه المحاكم سلطة واسعة في التحري والتفتيش حتى في البيوت والمدارس ، وكانت عقوباتها الصارمة بانتظار أي طالب يتجرأ على سؤال غير مألوف أو خارج عن القواعد الدينية التي هم وضعوها .
في هذا الوقت كانت تتقدم وتتوسع الحركة العلمية في العالم الإسلامي ، متميزة بحرية البحث والمناقشة حتى لو تعارضت مع مذهب أو رأي ديني ، وحتى في أحلك فترات الحكم في التاريخ الإسلامي كأيام بعض الخلفاء العباسيين .
ولو أن النقد الذي وجهه مثلاً ، الإمام الصادق (ع) وهدم به نظرية بطليموس في الأرض والنجوم وعلم الفلك ، تصدى له باحث من أوروبا في تلك العصور ، لكانت عقباه الإعدام والإحراق بالنار .
وهناك قول سائد ومعروف ، هو أن أسس الحضارة العلمية في الغرب اليوم إنما نقلوها من الشرق الإسلامي وحتى لا نقع في الإسهاب نذكر على سبيل المثال لا الحصر ، أرجوزة ابن سينا في الطب ، التي نقلت إلى الغرب ، ووضعت لها ترجمة باللاتينية . وقلَّ من لم يحفظ أو يقرأ الترجمة لهذا المرجع بين أطباء الغرب في تلك الفترة .
ومن الشائع الثابت ، أن الإمام الصادق (ع) كان على علم بخواص الأشياء مفردة ومركبة . وأنه درَّس علم الكيمياء في مدرسته قبل اثني عشر قرناً ونصف ، وقد اشتهر من تلامذته في هذا العلم ، هشام بن الحكم المتوفي (199هـ) وله نظرية في جسمية الأعراض كاللون والطعم والرائحة .
ومن تلامذة الإمام الصادق الذين اشتهروا ببراعتهم في الكيمياء والعلوم الطبيعية ، جابر بن حيان الصوفي الطرطوسي الذي ألَّف ودوَّن خمسمائة رسالة من تقريرات الإمام (ع) في الكيمياء والطب .
وقد أكبر المؤلفون منزلة جابر ، وعدُّوه مفخرة من مفاخر الإسلام ، ولا بدع فإن من تزيد مؤلفاته على ثلاثة آلاف كتاب ورسالة في مختلف العلوم ، انتقلت كلها إلى الغرب لَجدير بالتقدير والإكبار .
وصحيح أن هذه الفتوحات العلمية ، نقلت إلى الغرب فشكلت الأساس للنهضة في أوروبا ، إلا أنها ويا للأسف ، كانت نهضة ، كما نراها اليوم ، مادية مفرغة من روحانية المسيحية وروحانية الإسلام . حيث عمل اليهود وما زالوا يعملون ، بمنتهى الحقد ، ليس فقط على أتباع هذين الدينين ، وإنما الحقد على كل من هو غير يهودي ، وهم ـ في تقريراتهم التي أصبحت معلنة ـ قد وضعوا خططاً لتدمير البشرية حيث ما وجدوا ، لعلهم يحيِّدون هم أنفسهم ، ويصبحوا أسياد هذا الكوكب .
ولا يخيفنَّ هذا الأمر أحداً من أنصار الله ، لأن الله كتب عليهم الذل والمسكنة ثم السُّقوط من علوهم الكبير الذي صاروا إليه ، وجعل نهايتهم على أيدي عباد له سبحانه أولي بأس شديد ، وعسى أن يكون ذلك قريبا .