هذا نور ما يُرى !  فأين نور ما لا يُرى ؟

 

          في كتاب ” هل نرى الله ” وفي أكثر من مكان فيه ، أمر يعتبر اليوم بديهة لأنها يساندها العلم ، وهي أن الأشياء وعامة الموجودات ، إنما ترى بواسطة النور أو الضوء الذي يحيط بها أو ينبعث منها ، كما ثبت أنه حتى في الليل الدامس ، وحتى في درجات الحرارة المتدنية جداً ، تنبعث من الأجسام أشعة تكشفها لبعض المناظير الخاصة ، والتي أصبحت  من جملة أسلحة الحرب والقتال في الأجواء المعتمة .

          والعلم اليوم يقول إن الفضاء الذي تسبح فيه سفن الفضاء ، هو في حقيقته كالحد الفاصل بين نواة الذرة وألكتروناتها ، وأن الحد الفاصل بين نواة الذرة والألكترونات ، هو في حقيقته كالحد الفاصل بين الشمس والكواكب السيارة . وهذه الفاصلة سواء كانت في الوحـدة الذرية أم وجدت بين الشمس وبين الأرض أو الزهرة أو المريخ وغيره من الأجرام ، هي جزء من المادة . والدليل على ذلك أن الجاذبية تمر فيها ، وقوة الجاذبية لا تنفصل عن المادة ، ولا تنفصل المادة عنها .

          وقد تعلمنا في الكيمياء أن الذرَّة لها عدة مستويات من الطاقة ، وأن كل مرة يمر فيها الألكتـرون من مستـوى طاقـة إلى مستـوى طاقة أدنى ، يسبِّـب موجـة ألكتروـ مغناطيسية .

          هذه الموجات  Les ondes electromagnetiques ، بعكس الموجات الميكانيكية ، لا تحتاج إلى وسط معدني لتنتشر فيه ، إذ بإمكانها أن تعبر الفراغ ، أي تنتشر في الفراغ ، وبنفس سرعة الضوء التي هي 300,000 كلم /ث . هذه السرعة ليست هي ذاتها في أوساط كثيفة أخرى .

          ومما لا ريب فيه أن الجاذبية ليست أشعة . ومن المناسب هنا أن نذكر المغناطيس لنقول كلاماً موجزاً فيه ، وعن بعض الحقائق المعاصرة حوله .

ـ         أصل المغنطة هي في مادة اللوديستون ، وأكثر ما توجد في معدن الحديد .

ـ         المغناطيسية المتوازية في المواد غير المعدنية ،  تتميـز بتبعية درجة الحرارة . ذلك بأن العزم المغناطيسي ، ينخفض مع ارتفاع درجة الحرارة ، ويزيد بانخفاضها . هذه النتيجة تجعل الصعوبة متزايدة في الإنتفاع من العزم المغناطيسي .

          إضافة إلى ذلك فإن المواد المعدنية عندما تسخَّن ، تفقد صفاتها المغناطيسية كلياً في النهاية . هذه الخسارة تصبح كاملة فوق درجة حرارة كيوري ـ سميت باسم العالم الفرنسي بيار كيوري . درجة حرارة كيوري  للحديد هي حوالي :  770 سنتغراد . وقد ثبت أن للمغنطة في المواد الصلبة ترتيبات أكثر تعقيداً . وفي المادة بشكل عام ( أي في الكون جملة وتفصيلاً ) يوجد نوعان من الأيونات الحديدية ، كل نوع منهما بعزم مغناطيسي مختلف .

          هذه التغيرات الحادة في الطاقة والمادة ، تطعن بقوة في زعم من يزعم ” أن كل ما هو موجود هو الله ” .

          فلا قوى الجاذبية التي بين الذرة والكتروناتها ولا التي بين الشمس والكواكب وبالعكس ، هي الله ، وهي لا من الضوء ولا من النور ، ولا الجاذبية في كل أنحاء الكون هي الله ، لأنها تتغير، تضعف وتقوى على كل كوكب على حدة ، وبين الأجرام السماوية عامة ، إذ تضعف حتى يظن أنها انعدمت ، وتقوى حتى ليصبح وزن الإنسان الذي على الأرض سبعون كيلوغراماً ،  يغدو وزنه الآف الأطنان . يعني مغروساً كجبل من الهم ، على قلب ودماغ إنسان نتخيله معتقلاً معاقباً في مكان هائل الجاذبية من هذا الكون . بينما هو يصبح على القمر مثلاً حوالي إثني عشر كيلوغراماً .

          ولا الموجات الممغنطة التي تحدثنا عنها ، والتي يسببها قفز الألكترونات بأعدادها اللامتناهية ، هي الله ، لأنها تسرع في الفراغ ( 300,000 كلم/ث ) وتبطىء في غيره حسب كثافة المادة .

          ولا المغناطيس هو الله ، لأنه كما رأينا ، تعدمه الحرارة العالية ، وهو ينتشر في المادة بشكل عام ، بعزم مختلف  متفاوت ضعفاً وقوة .

          ثم إن هذه الموجودات التي ذكرناها ، والتي هندسها الله بقدرته التي لا تحاول ولا تطاول ، وبحساباتـه المعجزة ، والتي تكاد تكون ممسكة بمادة الكون ، بإذنه تعالى وبتدبيره ، من الجاذبية إلى الموجات الممغنطة الألكترونية إلى المغناطيس وأشباهها ، إلى الإنسان الذكر والأنثى ، والأسود والأبيض .. والطفل والشاب والهرم ، الذي يولد ويتنامى ويموت . ويضحك ويبكي ، ويسعد ويتألم ، وتعتوره الأمراض والتحولات النفسية ، إما صاعداً وإما هابطاً ، وإما متأرجحاً بين الصعود والهبوط ، وباختصار شديد ، أوله نطفة وآخره جيفة . فكيف يتجرأ المتجرئون على القول إن هذا الإنسان هو الله ؟! …

          كل شيء يتغير ويتحول باتجاه أن يموت ويفنى ، الحيوان والنبات والجمادات . حتى الحديد الذي فيه بأس شديد ، يصدأ ويتآكل ، وكذلك جميع المعادن . { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ . سورة الرحمن الآيات ( 26 ـ 27 ) } هذا قول الله تبارك وتعالى { .. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاَ . سورة النساء الآية 122 } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا . سورة النساء الآية 87 } . فكيف يذهبون بعيداً عن تعليم الله في قرآنه الكريم ، ويزعمون خلاف الحقيقة الناصعـة ، التي هي  وحدانيته وفردانيته وصمديته ، فيقولون بدون أي خوف ولا وجل ” إن كل ما هو موجود هو الله ” والله تبارك وتعالى يخاطبهم معلناً غيريته عن خلقه وتعاليه وعزته وعظمته وكبرياءه ، وأنهم هم المخلوقون وهو الخالق لهم وللسماوات وللأرض وما فيهن وما بينهن قائلاً جلَّت عظمته :

 

          { مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا . أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا . وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا . سورة نوح الآيات ( 13 ـ 16) } .

وقوله جلَّ جلاله الذي نختم به ردَّنا على مقولة ” إن كل موجود هو الله ” حيث لا تنتهي الأدلة على غيريته عن خلقه :

          { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . سورة الجاثية الآيات ( 36 ـ 37 ) } .

          ثم نعود إلى موضوعنا : هذا نور ما يرى فأين نور ما لا يرى ؟!  فنقول رداً على دعواهم أن الله تعالى هو في ذاته نور،  وأن كل شيء لكي يكون موجوداً ينبغي أن يكون إما منيراً بذاته أو أن يكون مضـاء بالنور . نقول إن الله تبارك وتعالى خلق الكهرباء ، وقد ظلت كامنة لا يرى لها نور ولا تُرى هي في نور ، ظلت كذلك فاعلة عاملة في نواحي الكون ، ظلت من جملة القوى الهائلة العجيبة  التي يحفظ الله بها وبقوى أخرى هائلة وعجيبة ، كما ألمحنا ، يحفظ ويدير بها ويدبِّر خلقه وممالكه ، حتى شاء لحكمة منه أن يظهرها في عصر ٍ كان في علمه وتدبيره عصر إظهارها ، فقيض لها رجلاً اسمه أديسون فكشف عنها النقاب والحجاب الأول ، ثم توالى بعده كشف الحجب عن أعاجيبها وأسرارها لتاريخه .

          يحكى أنه يوم اكتشف أديسون الكهرباء ، وأقام الدنيا وأقعدها أو أنها لم تقعد بعد ، بسبب هذه الثورة العلمية التي غيرت وجه التاريخ . وحرَّك الله بمشيئته بها المصانع والمعامل وشتى أنواع المحركات والقطارات … وأضاءَ بها ليالي هذه الأرض .

          حصلت إحدى الصحفيات الناشطات بعد انتظار على موعد مع صاحب هذا الحظ العظيم أديسون ، فزارته في معمله ، وأطلعها على أول محرك صنعه ليديره بقوة ضغط الماء ، وأكثر ما أدهشها أن أمسك بسلكين معدنيين مغلَّفين ، لا يظهر عليهما ولا فيهما أية حركة ولا حرارة ولا ضوء ، فيصلهما بقنديل كان مما جهزه ، فيضيء بسرعة وبدون عود ثقاب أو ما شابه . ثم يصلهما بقطعة معدن على فخَّارة فتحمرَّ وتصبح كالجمرة تتوهج بحرارة شديدة . هنا كان لا بدَّ أن تسأل عن الشيء أو عن القوة التي تلد أو تولِّد هذا الضوء وهذه النار الحامية . وهي لم تشاهد إلاَّ محركاً وسلكين نحاسيين بين يديه . هو يومها احتار في الإجابة . وجلَّ ما قـال ، ما كان يعرفه ، أن هذه القوة هي التيار الكهربائي . Le courant electrique  . قالت عرفت الإسم ولكن ما هو كنه وحقيقة التيار الكهربائي ، فإني أريد أن أشرح لقرائي ، وحيث أنه لم يكن يومذاك يعلم الكثير من الحقائق حول التيار ، طلب إليها أن تجلس على كرسي معدني كان في الغرفة ، ثم التفَّ وعقد الشريطين بناحية من الكرسي وضغط على الزر المتصل بهما ، فقفزت هي عن الكرسي وقد قذفها التيار الكهربائـي الخفيف ، فنظرت إلى أديسون وهي خائفة شاحبة اللون . فتبسم وقال : سيدتي هذا هو التيار الكهربائي ، فحدثي عنه قراءَك كيف تشائين .

          فذات التيار وكنهه وكينونته هي غير ما يلد من آثار النور أو الضوء والحرارة . هذه من جهة ومن جهة ثانية ، فإن الخلق غير الولادة .  فأن نقول إن الإنسان خلق السيارة أو الطائرة بما علمه الله تعالى من قوانين وأسرار عن الطاقة والميكانيك ، هذا غير أن نقول إن الإنسان ولد السيارة . وبهذا التقريب نفهم كم هو الإنسان أعظم وأسمى وأجمل وأعلم بما لا يقاس من السيارة والطائرة والكمبيوتر وغير ذلك من المدهشات التي أتاحها الله تعالى لخلقه .

          وبنفس هذا التقريب كذلك ، ينبغي أن نفهم أن كل موجود خلقه الله ، هو غير الله ، من أعلى درجات النور الخفي الذي يظهر للعارفين بالله من أهل خاصته ، بالتجلي ، أو الإشهاد ، أو أعلى درجات النور المعروف تحت السماء الدنيا ، وحتى ولو بالتخيل أو بالتصور ، إلى آخر ما خلق سبحانه من أشياء في الأرض أو في السماوات مما يعقل ومما لا يعقل ، ومما يرى ومما لا يرى . سواء كان في النور الساطع ، أو في الظلام الدامس ، أو في غيب من غيوب علام الغيوب .

          وهنا يجب أن يستوقفنا جمال وجلال وعمق قوله تبارك وتعالى  :

          { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }

 

          هذا هو القول الفصل والحقيقة الحاسمة . وفيها أن خلقه للموجودات ، غير صدورها كأجزاء من ذاته القدسية ، وهـو : { ليس كمثلـه شـيء } جـلَّ عـن  ذلك { وسبحانه وتعالى عما يصفون } وأنه أجمل وأجل وأسمى وأعلى بدون قياس . { له المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . } المثل الأعلى الذي ليس مثله مثيل ، وليس فوقه فوق .

          ولنبق قليلاً مع بعض أسرار الله تبارك وتعالى ، في هذه الطاقة المتنوعة العجيبة : الكهرباء ، ونحن ما زلنا تحت عنوان : هذا نور ما يرى فأين نور ما لا يرى ؟

          فأنت تدخل إلى بيتك ، وقناديل الكهرباء مطفأة . وإنما تسمع الغسالة الأوتوماتيكية تعمل سواءً أظهرها نور النهار أو غمرها ظلام الليل ، وكذلك المروحة ، وكذلك المصعد الكهربائي ، وكل أدوات الكهرباء التي ليست بحاجة إلى أن يظهرها النور ، ولا هي بحاجة إلى أن تُظهر النور .

          ثم أين أنوار الملائكة يروحون ويجيئون بيننا في النهار وفي الليل . ما نراهم إلاَّ بآثار تصدر عنهم ، إذا شاء الله لأحد أن يشعر بهذه الآثار ، أو إذا شاء تبارك وتعالى أن يريهم لأحد متمثلين أو متشكلين بأشخاص قوله تعالى { فتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَويا } أو الملائكة الذين أتوا إبراهيم (ع) وجاءَهم بطعام ، وهم طبعاً لا يأكلون ، فانتبه إلى أن أيديهم لا تصل إلى الطعام ، قال تعالى : { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ..} ، وهكذا فإنه لا إبراهيم (ع) ولا أحد غيره تمكنه رؤيتهم إلاَّ برحمة من الله لمن يشاء من عباده .

فأين نـور ما لا يُرى في العـادة ، ولماذا لا يظهـره النور ؟!…

قال تبارك وتعالى :

          { يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ . سورة النحل الآية 2 } .

          والملائكة موجودون ، والله ينزلهم ، كما هو يقول سبحانه ، على من يشاء من عباده ، وهو يحملهم هذه الرسالة الواضحة : أنه لا إلـه إلاَّ هو سبحانه ، فلا الملائكة هم الله ولا أي مخلوق في الأرض أو السماوات هو الله ، لأنه لا إلـه إلا هو ، فسبحانه عما يشركون .

          وصفوة القول ، أن هذه القوى الهائلة ، والتي يحكم الله بها وبغيرها الأكوان والخلائق ، من مثل الجاذبية إلى المغناطيس إلى الكهرباء ، إلى النظم الألكترونية ، والتي ليست بحاجة إلى أن يظهرها الضوء أو تخفيها العتمة وهي تعمل دائبة ما قامت السماوات والأرض . وتدرك آثارها فيزيائياً وكيميائياً بالحسابات العلمية الدقيقة ، التي علمها ويعلمها الله تعالى لمن يشاء من عباده . هذه القوى ليست هي الله  تبارك وتعالى ، وهي موجودة ، وإنما هي كما قدمنا ، من جملة آياته الكبرى وأعاجيب خلقه ، الدالة على وحدانيته وفردانيته وغيريته وتعاليه عن جميع أصناف خلقه . ولو كان هو الرؤوف الودود ، والحليم الكريم ، والرحمن الرحيم .

          ثم لننظر نظرة ثانية وثالثة ، في رحاب قوله تبارك وتعالى :

          { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار. لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ . سورة النور الآية 35 } .

          والملاحظ بوضوح مدى استعمال المعاني المجازية ، متداخلة بالمعاني الحقيقية ، ليدل سبحانه عن نور خصوصي هو ضمن النور العمومي الذي يغمر الأكوان ، وأن هذا النور المصفَّى من مشكاة المصباح لزجاجة من الدرِّ ، في مقابل الأنوار التي تنعكس من الأجرام الترابية أو الصخرية ، كما في الكواكب السيارة ومنها الأرض والقمر ، أو في عامة الأجسام التي هي أدنى جوهراً من الدرِّ . ليختص بهذا النور الأصفى والأسنى والذي هو كذلك نوره سبحانه ، ليختص به رجالاً وقلوب رجال ٍ في بيوت أذن الله أن ترفع ـ سواء كانت مساجد أو بيوتاً عادية أو أبدان أناس هي بيوت أنفسهم ـ وشيمة هؤلاء الناس أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة لله وإيتاء الزكواة قربة إلى الله … يعني أناس متفرغون لخدمة الله وخدمة دينه وعبادته والجهادين الأكبر وهو جهاد النفس والأصغر وهو جهاد أعدائه سبحانه . لا يريدون من الدنيا مكاسب تجارتها ولا إغراءات زينتها ، وحسبهم من ربهم الحبيب الكفاية ورضاه وحبه الذي يكمل لهم به خير الدنيا والآخرة .

          هذه البيوت النادرة المنوَّرة بالنور الخاص ، ليست كبقية بيوت غير الموحدين العارفين بالله سبحانه ، وهؤلاء الرجال النادرون الذين تفضل عليهم ربهم الكريم ، الغفور الودود ، واختص قلوبهم بتجلي أسمائه بنوره الأسنى ، وبتجليات نورانية لها صفاتها المميزة جداً ، ولها درجاتها عنده جلَّت عظمته ، هؤلاء الرجـال هم أهل العرفان بالله تعالى ، سواء كانوا كمَّلاً ، أو كانوا ما زالوا في السالكين ، برعاية أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .

          وعلى كثرة آيات النور التي يتداخل فيها المجاز بالحقيقة ، أو التي تعني المعنى الحقيقي لكلمة نور ، أو التي تعني المعنى المجازي ، نختار آية لكل حالة ، نكتفي بها اعتماداً على نورانية القارىء إن شاء الله . فبالنسبة للمعنى الأول المتداخل قوله تعالى :

          { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . سورة البقرة الآية 257 } .

ومثالاً على المعنى الحقيقي ، قوله تبارك وتعالى :

          { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ . سورة البقرة الآية 17 } .

وعن المعنى المجازي ، قوله عز شأنه :

          { .. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ . سورة الأعراف الآية 157 } .

 

 

كلمة عن إيجابيات كتاب ” هل نرى الله “

 

          لا بدَّ من كلمة للإنصاف ، ولمكانة العلامة الطهراني في أهل العرفان بشكل عام ، نشير فيها ، إلى أن أكثر العرفانيين ، على قدسية منازلهم من حيث السلوك صعداً في الدرجات ، إلا أنهم لم يبلغوا كمـال المعرفة بالله تبارك وتعالى ، وكيف يبلغون هذا الكمال ، وهم لم يبلغوا ولن يبلغوا كمال العلم ، في الله وفي غير الله ، حتى محمّد (ص) أوصاه ربه سبحانه قال { .. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } .

          يحكى أن موسى (ع) عندما جلس مع الرجل الصالح على ظهر السفينة ، كان أول درس تلقاه منه ، هو قوله له : يا موسى انظر إلى هذا البحر المحيط ما أغزر مياهه ، وما أعظم اتساعه ، وانظر إلى تلك النوارس ( طيور البحر ) ، كم يأخذ الواحد منها من هذا البحر ؟ يا موسى إن علم البشرية بالنسبة إلى علم الله تبارك وتعالى ، هو بمقدار ما يأخذ ذلك الطائر بالنسبة إلى هذا البحر المحيط .

          يقول الله تبارك وتعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأََرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . سورة لقمان الآية 27 } كناية عن لا محدودية علم الله واستحالة الإحاطة به أو استكماله . وحتى عن القرآن وحده قال عزَّ من قائل : { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا . سورة الإسراء الآية 88 } فكيف بعلم ما في السماوات والأرض وغيب ما فيهما وبينهما .

          من هنا نقول إنه وإن كان في الكتاب المذكور للعلامة الطهراني تناقضات وشطحات ، كما ذكرنا وكما سنذكر بعضها ، إلا أن إيجابيات وفوائد جمة تنم عن درجة وصول هذا العالم المميزة والمتقدمة . نقول هذا ولو كنا في موقف المعترض على المتناقضات فقط ، ولسنا في موقف التعريض والثناء .

          هذا ، إلى أنني احتاط احتياطاً شديداً بالنسبة لإمكانية سلامة النص الأصلي للعلامة الطهراني ، وإمكانية صفائه من الشوائب ، إذ أن في مقدمة الكتاب الذي بين يديَّ أنه مترجم وأنه مختصر ، ولعلَّ الذين ترجموه واختصروه ، هم وقعوا في ما تصدينا نحـن لإصلاحـه ومناقشته . ومع ذلك كان لزاماً عليَّ ـ وجوباً ـ أن أعلن وأثير هذه القضايا الحساسة جداً بالنسبة للعرفان الحقيقي بالله تبارك وتعالى ، اعتماداً ، حصراً ، على قرآنه المقدس الكريم ، وحيث أن الكتيب المذكور أصبح متداولاً جداً ، بين أيدي الأبرياء من المؤمنين ، ولا سيما الشباب ،  وهم في هذه الأيام متعطشون لكل جديد عن الإسلام ولا سيما عن أسرار التوحيد والعلوم العرفانية ، وهذه ظاهرة رائعة ،  تنبىء بالخير العميم لنهضة هذه الأمة المباركة ، ولكن الخطر شديد في سوء التسويق والتشويق ، إذا  كانا على غير أساس الحق وأساس تعاليمه سبحانه في كتابه المجيد .

          ولعل ما أقوله هنا عن إمكانية وقوع الخطأ في الترجمة والإختصار ، يستحسن أن أقوله كذلك عن كتاب ” وصايا عرفانية ” للإمام الخميني قدس سره ، حيث أن النسخة التي علقنا عليها ، والمتداولة جداً ، هي كذلك بالعربية مترجمة عن الفارسية .