هل المحبة والرحمة تعليم إلـاهي لجميع ما خلق الله ؟! :
============================
أحد كبار العلماء في بعض رسائله العرفانيـة يقـول :
” فاجعل نظرتك إلى جميع الموجودات وخصوصاً البشـر ، نظـرة رحمـة ومحبة …” وفي سياق آخر من رسالته يقول : ” ولو زال الحجاب لاتضح لنا أن كل ما هو منه جل وعلا محبوب ، وكل ما هو مبغوض فليس منه ، وهو بالتالي ليس موجوداً . “
وسؤالنا : هل تقر التعاليم الإلـ هية هذين المبدأين ؟
طبعاً ، إنّ مرجعنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو الكلام الفصل ، هو كتاب الله ، القرآن الكريم . فماذا في القرآن الكريم ، حول هذين المبدأين ؟ .
أولاً : بالنسبة للمقولة الأولى : فاجعل نظرتك إلى جميع الموجودات وخصوصاً البشر نظرة رحمة ومحبة ، يقول الله تبارك وتعالى : { … وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ … سورة هود الآيات ( 118 ـ 119) } . أي خلق الجميع ليرحمهم ، ولكن الذين لا يزالون مختلفين لا تنالهم رحمته سبحانه ، تنال فقط الذين استثناهم في الآية الكريمة كما هو واضح .
ثم قوله سبحانه في أول سورة الممتحنة : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } .
وقوله تبارك وتعالى هذه الآيات التي تطلع على الأفئدة وتهز النفس المؤمنة هزاً عميقاً :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ َلا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ . سورة آل عمران الآيات ( 118 ـ 120 ) } .
رغم أن هذه الآيات الرائعات غنية عن البيان إلا أن إشارتين فيهما أقوى من ان يمر عليهما دون توقف ، أولاهما قوله تعالى : { هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ .. } وواضح أنه من العجز والغبن والغباء أن نكن المحبة لمن يبغضنا ، أما قول المسيح الذي تأثر به ودار حوله بعض العرفانيين ، حيث قال (ع) ” أحبوا أعداءَكم ” فقد نسخه هو ونقضه في أكثر من موقف . من ذلك غضبه وإشهار سوطه يضرب به وجوه الباعة وظهورهم بدعوى أنهم دنسوا الهيكل بما يبيعون (*) . ومن ذلك موقفه من بطرس ، أحد تلاميذه ، حيث امتشق سيفه يقاتل به وبضراوة قوماً ، كانوا بدسيسة من اليهود ، يعذبون المسيحيين ويضطهدونهم . فقال له المسيح والسيف يقطر دماً من أعدائه : ” يا بطرس أنت الصخرة التي ستقوم عليها الكنيسة ” يقول ذلك مادحاً لبطرس مسروراً بفعلته . فأين من ذلك محبة الأعداء الحاقدين المبغضين وأين من ذلك رحمتهم ؟! .
أما الإشارة الثانية في الآيات الرائعات ، فقوله تبارك وتعالى : { .. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ .. } وهو خطاب للنبيّ (ص) وخطاب لكل قرآنيّ مؤمن ومسلم . وكذلك هو واضح أن صيغة هذا الأمر الذي يأمرنا به الله تعالى في مواجهة مبغضينا والحاقدين علينا والمتمنين لنا أسوأ أنواع الهلاك ، أن هذه الصيغة { .. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ .. } لا يمكن أن نحمِّلها الرحمة والمحبة . وأهم ما نستفيده من روح الآيات أن الله عزت عظمته ، يريد لنا العزة والشرف والعدالة ، ولا يرضى لنا الذلـة والمهانة ، خاضعين لذابحينا ومريدي إبادتنا ، يقتلون الأطفال ويهتكون الأعراض ، ونقابلهم بالمودة والرحمة ، ونرش عليهم الأرز والرياحين والزنابق .
وأخيراً ، نعم يمكن أن نقول أن رحمته سبحانه شملت كل شيء ، ولكن لم تشمل محبته كل شيء .
أما بالنسبة لقول القائل : ” ولو زال الحجاب لاتضح لنا أن كل ما هو منه جلَّ وعلا محبوب ، وكل ما هو مبغوض فليس منه وهو بالتالي ليس موجوداً ” .
وهذا الكلام من عجيب التحكم ، وهم يقوِّلون الله عكس ما يقول سبحانه ، أو أنهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) يبيعون الأبقار والأنعام وأنواع الماشية حيث كانت تدنس بقذاراتها .
يردّون على قرآنه ـ والقرآن كلامه ـ بخلاف نصوصه الواضحة لكل من يعي ويسمع ويبصر ، ولا سيما النصوص غير القابلة للتأويل ، ومنها قوله تبارك وتعالى :
{ … وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ . سورة البقرة الآية 205 } . وقوله تعالى : { … فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ . سورة آل عمران الآية 32 } . وقوله تعالى : { … وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . سورة آل عمران 57 } . وغيرها من أقواله تعالى أنه : { .. لا يحب .. } لم نتتبعه إلى النهاية مكتفين بما أوردناه .
فهو سبحانه يحب ولا يحب . وقد ذكرنا أمثلة مما لا يحب ، وهذه أمثلة مما يحب تبارك وتعالى ، كذلك نكتفي ببعضها ، ودائماً وبالضرورة من القرآن الكريم :
قال تعالى : { … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . سورة البقرة الآية 195 } . وقال سبحانه : { … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ . سورة البقرة الآية 222 } .
وفي زعم الزاعم ( أن كل ما هو منه جلَّ وعلا محبوب وكل ما هو مبغوض فليس منه وهو بالتالي ليس موجوداً ) هذه العبارة تذكرنا بفلسفة الوجودية وشطحات أصحابها والتي حلَّ لهم مشكلتها ” ديكارت ” بقولته المشهورة : ” أنا أفكر فأنا موجود ” .
فالله عز وجل ذكر أشياء وموجودات قال إنه تعالى لا يحبها مثل الفساد والطاغين والكافرين فكيف من زعم أنها غير موجودة وهو في مقامه من أولى مهماته أن يرجع إلى القرآن الكريم كعالم مسؤول عن العقيدة وعن تبليغها ، ولا سيما أن كلام العلماء الكبار وكتاباتهم يقتدي بها الملايين في مشارق الأرض ومغاربها .
ومعاصي الجن والإنس موجودة ، وصحيح أنها ليست من الله ، بل من أصحابها ولكنها موجودة ومبغوضة ، بعكس ما أورده ( قدس سره ) . ومن أكبر الموجودات في الآخرة جحيم النار التي توعَّد بها الله المعاندين والعصاة والكافرين والمشركين والمنافقين والمكذبين إلخ … موجودة وهي ليست محبوبة ، وقطعاً هي مبغوضة عند كل من يعقل ويتأمل . وكذلك العذاب في الدنيا والآخـرة هو مبغوض وهو موجـود . قولـه تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ . وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } . ( وبعدها ) { يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي . سورة الفجر الآيات ( 25 ـ 30 ) } .
وأكثـر من ذلك ، فإن الله تعالى لا يرضى لنا أن نحب نحن ما لا يحبه هو سبحانه . كما ولا يرضى لنا أن نبغض ما يحبه هو عزت عظمته .
قد يقول قائل : صحيح إن الله تعالى لا يحب ولكنه لا يبغض . بلى ، ليس الأمر هكذا ، قال تبارك وتعالى عن قومٍ يبغضهم { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . سورة المائدة الآية 80 } .
بقي أن نقول أن تطبيق القولين المفتريين على القرآن الكريم ، يستحيل من قبل الدعاة إلى الله المجاهين في سبيله الذابين عن دينه ، الساخطين لسخطه ، الراضين لرضاه ، المحبين ما يحب ، المبغضين ما يبغض ، سواء كان جهادهم بالسيف أو القذيفة أو الكلمة المكتوبة أو المسموعة ، شعراً ونثراً ورسماً أو تمثيلاً أو بأي فن من الفنون التي تتشرف بحب الله وتتقرب من مجده وفردانيته ووحدانيته في ألهانيته .
ثم إننا كمسلمين ممنوعة علينا الرهبانية فـ ” لا رهبانية في الإسلام ” وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .