هي دعوة رائعة إلى الله :

        مسيرة الحسين عليه السلام وآل بيته وصحبه ، وما رافقها  من معاناة ومواقف وعبر ، وصولاً إلى كربلاء . ثم الزلزال التاريخي الذي لم يتوقف بعد . الذي نتج عن مقتل الحسين وبنيه وإخوته وأصحابه ، ثم سبي نسائه وأطفاله . ثم مواقف زينب التي هزَّت وما زالت تهزُّ الضمائر وترتعش لها الأفئدة . ثم بزوغ  زين العابدين ، الإمام السجاد ، من ذلك الليل الدموي  الحالك ، قمراً يتألق بالتقوى والمثالية ، وشرف العبادة والإخلاص لله ولدين الله . كل هذا في الجانب الأبيض والأحمر والأخضر . أما الجانب الآخر ، الجانب الكالح جانب أهل الجحيم، ففيه كل النقائض : الكثـرة العددية ، التي هي فريقان : فريقٌ جشعٌ متكالب على الدنيا ، وفريق جبان : أما الجشع فحرصاً على المال والجاه والسلطان  . أهل بلادنا يعبِّرون عن هذه الحالة الوصولية والإنتهازية بتعبير : ( مع الواقف ) ، أو الذين ( ينقلون البندقية من كتف إلى كتف ) يعني حيث يرون مركز القوة ، يهرعون إليه ، يتمسَّحون به ، ولو كان باطلاً ، ولو كان كفراً . وطبعاً على حساب الحق ، وحتى ولو على محاربة الحق وأهل الحق وقتالهم وذبحهم كما فُعِل بالحسين وآله وصحبه عليهم السلام . والفريق الجبان . لأنه جبان . وهل أخسُّ من هذه الكلمة ؟ وهل أحقر ممن يتَّصِفُ بها ؟ جبان . يخاف السلطان ، يسير معه . يقتل إذا قتل ، ويبطش إذا بطش . والجبان يكون عادة أحرص من سيده الشرير ، على إيذاء الأخيار الأبرار من الناس ، وعلى قتلهم وإلحاق ما توحيه إليه شياطينه بهم .

        هذان الخصمان تقابلا في كربلاء : الإيمان كلُّه ، والكفر كلُّه . وتحدَّى الإيمان وهو مجموعة قذائف قليلة العدد ، تحدَّى جحيماً من الكفر الأربد الأسود . وقتل الكفار الحسين ، قتلوه مرة واحدة ، هو وصحبه وآل بيته .ثم قتلهم الحسين،

 أخذ يقتلهم بإذن الله من ذلك اليوم . وما زال يقتلهم كل يوم وكل ساعة ، بالكلمة المؤمنة ، وبالحكمة المتعالية ، وبالسيف ، وبالقذيفة والبندقية . وما زال يقتلهم إبنه عليٌّ الأكبر ، وأخوه العباس قائد عسكره ، والشيخ الجليل التسعيني والفتى الصغير القاسم بن الحسن ، وبقية صحبه وأهله . وما زالت تقتلهم زينب بنت علي بن أبي طالب ، بنت الزهراء إبنة محمّد (ص) ، شقيقة الحسين ، عليهم السلام جميعاً . العقيلة زينب ، التي سجلت الأصوات والألوان والصُّور . صوَّرت جميع وقائع المسيرة . منذ المدينة ، فمكة ، فالعراق ، فالكوفة . وصوَّرت جميع فجائع كربلاء ، تلك الصور الدموية الوحشية من جهة العدو ، والإيمانية المسلمة لله من جهة عسكر الحسين . سجَّلت وصبرت ، وثبتت في وجه الطاغية ، كما تثبت الشمس في عين الأعشى . صبَّرها الله ، وثبَّتها الله ، وأطلق لسانها الله ، فأفحمت الطاغوت يزيد ، وألقمته حجراً . ألقمتهم حجارة ، جميع من كان لهم صلة بجريمة الجرائم التاريخية الثابتة الألوان ، وأبرزها الأحمر القاني ، دم الحسين ، الذي كأنما تحوَّل إلى زيتٍ قُدسيٍّ ، يضيء شعلة وهَّاجة ، على كوكب أخضر ، يطوف بها فوق أهل الأرض ، ويتوقف كل عام مرةً في منتصف السماء ، أيام عاشوراء ، ليراه جميع خلق الله ، ما عدا العميان …  شعلة ما زالت تضيء ، وستبقى تضيء بإذن الله إلى قيام الساعة : تعلِّم البطولة غضباً لله ، والفداء في سبيل الله ، والإستشهاد حفاظاً على دين الله ، وحباً بالله ، وشوقـاً إلى الله . لذلك ، كانت مسيرة الحسين من بدايتها إلى نهايتها وبجميع تفاصيلها : دعوةً إلى الله ، تبارك وتعالى وعزَّ ذكره وجلَّ ثناؤه .

        وإذا ادَّعى من سيدَّعي ، بأن كون الوقائع الحسينية ، دعوة إلى الله ، هو من البديهيات . وأن القراءات التي تتم ليست دعوةً إلى أهل البيت من دون الله سبحانه. فنقول له ، هذا بنيتك أنت ونعم النية . وإنما لو تأمَّلت في سلوك العوام ، وتوجهاتهم ، واعتقاداتهم ، فسترى العجب من نسيان الله عزَّ وجل ، نسيانه كلياً عزَّت عظمته ، والوقوف فقط عند الحسين عليه السلام ، والعباس بصورة خاصة،

طبعاً لأسباب معروفة في تفاصيل الفاجعة . ونتيجة لقراءة الجاهلين ، ونسيان رب العالمين ، نجد العوام ، وحتى بعض المثقفين ، ولا سيما النساء ، وحتى بعض المعمَّمين ، غالباً ما يطلبون حاجاتهم الضرورية ، من علي أو من الحسين ، أو الزهراء ، أو زينب عليهم السلام ، هكذا ومباشرة ، ومن دون أي ذكر لله تبارك وتعالى . وحتى النذور ، ينذرونها لهم عليهم السلام ، بدون أن يكون لله فيها أية علاقة . ومعلوم أن النذر لا يكون حقاً ومقبولاً إلاَّ إذا عقد لله عزَّ وجل ، وباللفظ الحرفي : نذر لله ، أو لله عليَّ نذر … إلخ ..

        وما دام الأمر كذلك ، فإنما يترتب عليه سخط الله عزَّ وجل ، في حين يُرجى من ذكرى الحسين عليه السلام أو قراءة العزاء ، أو المواقف والمجالس التي تعقد للحديث عن أهل البيت عليهم السلام ، أن تكون مدخل صدق لذكر الله والدعوة إلى الله سبحانه ، كما أمر بمئات الآيات البينات في كتابه العزيز .

        أفلا يصح مع هذا ، أن نعتقد أن مآسينا وكوارثنا ، وهزائمنا أمام شرِّ خلق الله ، هي بسبب نسياننا لله عزَّ وجل ، وعدم ذكره كما ينبغي أن يذكر ، وكما أمر أن يذكر . وأنها كذلك بسبب انشغالنا بخلقه دونه . بينما الواجب أن نعتبرهم من آياته التي تذكِّر بعظمته وحده ، وألوهيته وحده ، وتدعو إليه وحده لا شريك له ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .