والله يترك المنافقين تحت وطأة همومهم :
وذلك في قوله تعالى : { … وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } . [ 154 : آل عمران ] .
كذلك العذاب في الدنيا ، درجة من درجاته : { … وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ …} . هؤلاء طائفة من المسلمين في المدينة ، الذين انشقوا وبعض الذين شهدوا المعركة وتولوا هاربين : استخرج الله من نفوسهم ما لم يكن يعرفه محمّد (ص) ولا أحد من العالمين : الأنانية ،والحرص على الدنيا ، حتى إن مطلب السلامة عندهم هو سيد المطالب،ولوكان يغضب رب العالمين. وهم بذلك غير سعداء،بخلاف ما يتوقعون،فإن هذه الحالات النفسية التي يعانـون منها هي حالات مرضية،حالات تفقس وتفرخ بدلاً من السعادة المتوهمة،هماً وكمداً ، وضيقاً في الصدر والنفس والتفكير .ذلك لأنهم يظنون بالله غير الحق ظن أهل الجاهلية ،الذين ما عرفوا الله إلاَّ وقد أشركوا به .وإن كان بعضهم عرفه إلـهاً واحداً أحداً ،فما عرف مدى حاكميته وهيمنته وإحاطته بالكون وبالإنسان إحاطة استبطان لا يدرك مداها وتفاصيلها الغيبية أحد غيره من خلقه . وهؤلاء المنافقون نمط موجود بيننا اليوم ، وهم من الكثرة بمكان،كما إنهم موجودون في جميع مراحل التاريخ .لذلك ،فإن آيات القرآن الكريم التي تحمل معاني مطلقة ،هي لا تعني فقط، وقت النزول ومناسبة النزول وأولئك الأشخاص بأعيانهم فحسب.وإنما توجب على أهل كل زمان الإفادة منها ربطاً بالوقائع والظروف والتعامل مع الناس حسب نوعياتهم وأوصافهم الظاهرة والمستبطنة،التي أخرجها لنا الله سبحانه لنثبت منها في نفوسنا ما كان في حب الله شرفاً لنا وللإنسانية،ولنباعد منها ما كان بغيضاً إلى الله تعالى كالنفاق والجبن والخسَّة والذُّل والطمع والأنانية والشك بوعد الله ووعيده ومهادنة المحاربين من الكفار وأهل الشرك وجملة أعداء الله وأعداء تعاليمه.
أما قوله تبارك وتعالى : { … يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ …} . [ 154 : آل عمران ] ففيه بيان اعتقادهم الخاطىء ، ثم فيه الحقيقة التي يخبر عنها سبحانه في مواجهة هذا الإعتقـاد وتقرير بطلانه .أما اعتقادهم ، ففيه تلميح أولاً، إلى أنهم أتوا إلى المعركة مكرهين وشاكين بوعد الله سبحانه ووعد رسوله (ص) ، مما يجعل الإنسان الذي كذلك شأنه ، متردداً في المواقف ، جباناً في المواجهات القتالية . وثانياً سوء ظنهم برعاية الله وإحاطته العامة والمفصلة بالأحداث والوقائع والأفراد ، وكذلك هيمنته على المقدمات والنتائج وما يستقطب المقدمات والنتائج من الأسباب السابقة والطارئة واللاحقة . وأنه سبحانه أسرع الحاسبين . لذلك إذا قتل أو جرح أو كسر أو أصيب بأية مصيبة إنسـان ما ، فإن هؤلاء وأمثالهم في الدهر ، يعزون ذلك إلى الصدفة ، وإلى الأسباب الظاهرية المرافقة للحدث ، دون الإلتفات إلى الأسباب والمقدمات التي يحيط بها الله سبحانه ، والتي بموجبها يُقرِّر النتائج ، ويوقعها تامَّةً بدون أي خلل ، أو نقص أو زيادة . تلك هي عدالة الله سبحانه ، المبطَّنة دائماً برحمته ورأفته ، وغفرانه وعفوه لعباده الصالحين والموقنين والمؤمنين : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } . [ 19 : الأحقاف ] .
وأما قوله تبارك وتعالى : { … وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ…} فهو خطاب موجه للجميع : للمؤمنين على درجاتهم ، وللمنافقين على درجاتهم ، وقوله سبحانه { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ } ابتلاءً ، والإبتلاء هو الإصابة بالبلاء بمعنييه : إما الفلاح وإما المصيبة . { وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي ليخلِّصها من الشك . بقي قوله عزَّ شأنه : { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي أنه تبارك وتعالى يعلم بالفكرة وأسبابها وعناصرها قبل أن تتجمع لتنعقد نيَّة عند صاحبها ، فإذا صدرت عنه بعزمٍ كامنٍ أو بقول أو بعمل ، تخرج عن كونها نية وتصبح ذات الصدور .